علي زيتون يحاور أمبرتو إيكو

by الأستاذ سلمان زين الدين | أغسطس 11, 2022 9:16 ص

 

“ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده”، هو الكوجيتو الإيكوي الذي يفرّغ به الناقد الدكتور علي زيتون العنوان الأصليّ لكتابه “المدرسة الإيكوية في الكتابة”، الذي يدرس فيه المفكّر الإيطاليّ المعروف أمبرتو إيكو، فيأتي الفرع تخصيصًا للأصل، وتحديدًا لإطار المدروس وحركة الدارس وحقل الدرس. ويشكّل مع الأصل العتبة المناسبة إلى النصّ المناسب.

يأتي علي زيتون إلى الدّرس النقديّ من ستّةٍ وعشرين بحثًا منشورًا، وتسعة عشر كتابًا مطبوعًا. فهو ليس تلميذًا في مدرسة النقد بل معلم بامتياز، له فيها صولات وجولات. وهو يحاور إيكو من موقع نقديٍّ، ندّيٍّ، بعيدًا من عقد النقص التي نعاني منها في مواجهة الآخر الغربي، على المستويات كافّة. وهو يأتي إلى الحوار، حين يطلب منه “معهد المعارف الحكمية”، ذات صدفةٍ جميلة، تقديم بحثٍ عن رواية إيكو الشهيرة “اسم الوردة”، فتشكّل هذه الصدفة بداية حدثٍ ثقافيٍّ جميل، نحتفي بإطلاقه، هذه العشيّة المباركة.

إذا كان النتاج الفكريُّ الإيكوي يتراوح بين “ما يمكن نتظيره”، وما “ينبغي سرده”، أو بين النّقد والسّرد، فإنّ دراسة علي زيتون تتناول أربعة أعمالٍ نقدية، في قسمها الأوّل، وأربعة أعمالٍ سردية، في قسمها الثّاني، أي أنّها تجمع بين النظريّ والإجرائي، وتجاور بين نقد النّقد ونقد السّرد.

في نقد النّقد، يطلب الدّارس “النظرية الإيكوية” في أربعة من مظانّها، هي: “هكذا تكلّم أمبرتو إيكو”، “الأثر المفتوح”، “التأويل بين السيميائيات والتفكيكية”، و”آليات الكتابة السردية” لأنّها تمثّل بشكلٍ كافٍ، برأيه، وجهة نظر إيكو النقدية. وهو يصول ويجول، بين هذه الدراسات الأربع، قارئًا مؤولًا، مقتبسًا، شارحًا، محلّلًا، ومقارنًا، محاورًا، موافقًا، معارضًا، ليصل، بنتيجة هذه العمليات الفكرية، إلى نتائج وخلاصاتٍ معيّنة. وغالبًا ما يتمّ ذلك، من خلال نصٍ إيكويٍّ جزئي، يختاره زيتون، ويخضعه للدّرس، سواء على مستوى المفردة أو التركيب، فيدرس الأولى في معناها، المعجميّ أو الاصطلاحيّ، أو وظيفتها النحوية، أو بنيتها الصرفية. ويدرس الثاني مستندًا إلى درسه الأول، من جهةٍ، وإلى المعنى العامّ للنصّ المقتبس، من جهة ثانية. ويتمخّض عن هذه الجزئيات الكلّ النقديّ الإيكوي، في جانبٍ منه، فيما يتمخّض الجانب الآخر عن القراءة الكليّة، بالقدر الذي يسمح به المنهج الثقافي الذي اتّبعه الدّارس، وهو منهجٌ يناسب النتاج ما بعد الحداثي، النقدي أو الروائي، ويستند إلى نظرية الكشف التي تقول: “إنّ أيّ جانبٍ من جوانب العالم المرجعيّ، شيئًا كان أم حدثًا، أم سلوكًا بشريًّا، هو متعدّد الأبعاد، إلى حدًّ لا يمكن معه إحصاء تلك الأبعاد”(ص 14)، وعليه، لم يلجأ الدكتور زيتون إلى دراسة قضيّة نقديّة معيّنة يتقصاها في سائر مؤلّفات إيكو النقديّة بل درس كلّ مؤلّف على حدة، متوقفًا عند القضايا التي يطرحها، دون أن تفوته المقارنة بين المؤلّفات المدروسة ورصد العلاقات فيما بينها، تلك التي تتراوح بين الامتداد، والتداخل، والتقاطع، والتعدّد، والتناقض، وحتى الافتراق. وبذلك، تتعدد القضايا المدروسة بتعدّد الكتب المقروءة، فنقع فيها على: السيميائية، والتفكيكية، وأنواع القرّاء والقراءة، وعلاقة الرواية بالتاريخ، ونقد النقد، والتأويل، وما بعد الحداثة، وغيرها.

وإذا كان المقام لا يتّسع للقول في كلٍّ من هذه القضايا، على حدة، فحسبنا الإشارة إلى بعض ما يخالف فيه الدارس المدروس: ففي معرض تعليقه على قراءة إيكو رواية “استيقاظ عائلة الفاينيكانس” لجيمس جويس التي “تعرض أمام القارئ كلّ كنز الثقافة الإنسانية دون احترامٍ للحدود الخاصّة بكلّ نظام، محوّلة كل إشارة إلى إبراز الحقيقة السرمدية”، على حدّ تعبيره، يأخذ زيتون على إيكو إزالة الحدود بين الأنظمة التي يقوم عليها هذا الكنز الثقافي ما يجرّد النظام من نظاميّته، ويأخذ عليه إزالة المسافة بين الإشارة والحقيقة السرمديّة ما يؤديّ إلى الفوضى وغياب البنية وتعطيل العقل (31). وفي معرض تعليقه على التراتبية الإيكويّة للقصديّات الثلاث: المؤلّف، النصّ، والقارئ، يأخذ عليه تضارب مواقفه، وتغليبه قصدّية القارئ المؤوّل على القصديّتين الأخريين، انسجامًا مع تفكيكيّته، ويرى وجوب تغليب قصديّة النصّ على ما عداها. وفي السّياق نفسه، يرفض زيتون ما يذهب إليه إيكو، مباشرةً أو مداورةً، من أنّ التفكيكيّة قدر البشرية. وفي حين يهتمّ إيكو بالسرديات الصّغرى في الرواية ويغرق في التفاصيل انسجامًا مع رؤيته الما بعد حداثية، نرى أنّ زيتون يهتمّ بالسرديات الكبرى والبنية الكلّية. وفي الوقت الذي يقول فيه إيكو بحاكميّة الآلية في الرواية الإيكوية تنظيرًا وتطبيقًا، يميل زيتون إلى القول بأدبية الرواية.

في نقد السرد، يتناول زيتون بالدرس أربع روايات إيكوية هي: “اسم الوردة”، “جزيرة اليوم السابق”، “بادولينو”، و “مقبرة براغ”. ويسقط من حسابه رواية “العدد صفر” لخروجها عن القاعدة الإيكوية في الكتابة المحكمة الاستغلاق. ويعرض عن رواية “بندول فوكو” لصعوبتها وإحكام استغلاقها، على حدّ تبريره. وبذلك، يكتفي بأربع روايات موضوعًا لدرسه. وهو لا يدرس الرواية كهدف بحدّ ذاته، بل كوسيلة للنظرية الإيكوية النقدية، ويبحث في “ما ينبغي سرده” عمّا “يمكن تنظيره”. ولذلك، نراه يتوقّف عند الشخصية المحورية في كلّ رواية، ويستخرج من كلامها ما يسهم في تركيب البازلت النقدي الإيكوي. فتشكّل شخصيات غوليالمو في “اسم الوردة”، وروبارتو في “جزيرة اليوم السابق”، وباودولينو في “باودولينو”، وسيمونيني في “مقبرة براغ”، مصادر دراسته، ولا يحول ذلك دون الإفادة من بعض الشخصيّات الأخرى، حين تدعو الحاجة.

الرواية الإيكوية، كما يتبيّن من الدراسة، نصّ معرفيّ بامتياز، وقناع سرديّ للنظري، ما يجعل قراءتها من الصعوبة بمكان. وعلي زيتون حين يتنكّب هذه المهمّة الصعبة إنّما يقوم بتمزيق القناع السرديّ ليكشف عن الوجه التنظيريّ للرواية، واستطرادًا للمؤلّف، ليضمّه إلى الوجه الآخر، النقديّ، للعملة الإيكوية نفسها. وهي رواية تمنح من التاريخ، في محاولةٍ من الكاتب لتقديم رؤيته للتاريخ والإنسان، وهي رؤية متشائمة، تتّخذ مسارًا تصاعديًا من رواية إلى أخرى، وتقول بتغلّب البدائيّة على الحضارة، وتعالي التوحّش على الثقافة، وغياب الحياة السويّة عن المجتمع البشري، وتردّي الإنسان في مآزقه الكثيرة، عبر التاريخ، وتيهه في غياهب الضّياع. وبذلك، ينسجم إيكو مع اعتناقه التفكيكيّة مذهبًا نقديًا فلسفيًا في الحياة، الأمر الذي لا يشاطره فيه علي زيتون. على أنّ هذه الرؤية هي حصيلة الحركة الإيكوية في القرون المختلفة؛ فالعوالم المرجعيّة التاريخية للروايات المدروسة هي: القرن الرابع عشر في “اسم الوردة”، القرن السابع عشر في “جزيرة اليوم السابق”، القرن الثاني عشر في “باودولينو”، والقرن التاسع عشر في “مقبرة براغ”. وبذلك، لا تتوازى خطّيّة صدور الروايات مع تكسّر المراحل التاريخيّة التي تحيل إليها.

في مهمته الصعبة، وأكاد أقول المستحيلة، يتقصّى زيتون النظريات النقديّة المختلفة في الرواية الإيكوية، لا سيّما السيميائية الحداثية، والتفكيكية ما بعد الحداثية، ويخلص إلى طغيان حضور الأخيرة دون غياب الأولى. ولئن كانت هذه العملية خارجية تنطلق من المعرفة المسبقة بالنظرية وتبحث عن تمظهراتها في النص، من جهة، فإنّها، من جهةٍ ثانية، داخلية، تنطلق من داخل النصّ لتستخرج منه قضايا نقديّة فرعيّة تتعلّق بهذه النظريّة أو تلك. وتنجم عن هاتين العمليتين، الخارجيّة والداخليّة، معرفة متكاملة بالنصّ المدروس، واستطرادًا، بصاحب النص.

هذا في المضمون. أمّا في الشكل، فإنّ الدارس يبدأ بتمهيد يحدّد فيه العناوين الفرعية التي سيدرسها في الرواية، ويمرّ بتحليل مطوّل يستند فيه إلى مقتبسات منها، ويوظّف فيه ثقافته الواسعة، وخبرته الطويلة، وأدواته المناسبة، حتى إذا ما انتهى إلى خلاصاتٍ معيّنة يوردها في نهاية المقطع أو الصفحة بصيغٍ متنوّعة، تتراوح بين التقرير والترجيح والاستفهام، ولعلّ هذا التنوّع يومئ إلى ما تقتضيه المنهجيّة العلميّة من تحفّظ، هو من ميزات الباحث الرصين الذي لا ينطق عن الهوى، الأمر الذي يتوافر في علي زيتون بامتياز. وينهي درسه بكلمةٍ أخيرةٍ غالبًا ما تشكّل مسك الختام.

وبعد، وعلى الرّغم من أنّ الكتاب يتّخذ من مفكّر ما بعد حداثيّ موضوعًا له، فهو “دعوة قويّة إلى الحداثة وعقلها العلمي”، على حدّ تعبير المؤلّف. ولعلّ خير ما نختم به هذه العجالة هو قوله: “إنّ الانغماس في التفكيكيّة ليس قدر الثقافة البشريّة الذي لا مفرّ منه، فثقافة النملة الجمّاعة ليست هي الحقيقة، بل الحقيقة، كلّ الحقيقة، هي في ثقافة النّحلة التي تقوم على التمثّل والتحويل وإعادة الإنتاج” (ص 08).

 

 

 

 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/15198/umbertoeco/