إذاعة القرآن الكريم المصرية دعوة روحية بدون دعاية سياسية
تقديم لا بدّ منه
ما زال لإذاعة القرآن الكريم المصرية وهجها الديني ووجدانها الروحي، رغم كثرة الفضائيات الدينية، منها ما يقتصر على تلاوة القرآن، ومنها خاص باستضافة رجال الدين، ومنها قنوات متخصصة في مدح الرسول (ص).
رغم كل ذلك ما زالت إذاعة القرآن المصرية مسموعة في البيوت والمحلات وفي السيارات، وبعض المواطنين يتركون مؤشر الراديو على الإذاعة دون انقطاع.
وفي البداية لا بدّ أن نقول إن سبب تخصيص إذاعة للقرآن الكريم في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لأن خصومه اتهموه بالشيوعية، وكان الرد العملي عليهم هو تأسيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عام 1960، وهو مجلس يشمل كل المذاهب الإسلامية، ويعقد اجتماعات منتظمة حول حوار الأديان والتقريب بين المذاهب وغيرها، وظلت مجلة “رسالة الإسلام” تصدر بانتظام عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة حتى عام 1976، في بداية الهجمة الوهابية، فالرئيس “ناصر” أخذ الاشتراكية نهجًا اقتصاديًّا وليس عقائديًّا.
لم تنتشر الشيوعية الملحدة أبدًا داخل الدولة المصرية، ولكنها الشائعات التي جعلت رجل دين مشهور جدًّا وهو الشيخ محمد متولي الشعراوي قال إنه صلى لله ركعتي شكر بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، وبرّر هذه الصلاة، لأنه لا يريد النصر في ظل الشيوعية الكافرة كما يذهب هو وغيره.
إذاعة القرآن الكريم
وفي نفس السياق العلمي في الرد العملي على خصوم الرئيس جمال عبد الناصر، قام بتأسيس إذاعة خاصة بالقرآن الكريم، بدأت ككل الكيانات بسيطة ولكنها مؤثرة، بدأت خلال ما سمّاه خصوم الناصرية بالشيوعية الملحدة، وقادها قليل من رجال الدين في مصر، ولكنها برعاية ودعم من المرجعيات العربية الملكية.
بدأ إرسال إذاعة القرآن الكريم في مصر في الساعة السادسة من صبيحة يوم الأربعاء 11 من ذي القعدة لسنة 1383 هـ – الموافق 25 مارس سنة 1964م، بدأت بصوت المقرئ الشيخ “محمد رفعت”، ثم بدأ باقي الأصوات يقرؤون، وكله تلاوة وتجويد كما استقر عليه الحال في ديار المسلمين طوال تاريخهم.
بدأ الإرسال بمدة قدرها 14 ساعة يوميًّا من السادسة صباحًا وحتى الحادية عشرة صباحًا، ومن الثانية ظهرًا وحتى الحادية عشرة مساء بقرار من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
يرأس الإذاعة حاليًّا الدكتور “رضا عبد السلام”، وهو من أصحاب الإعاقة أو من ذوي الهمم، وقد تمكن من الدراسة طوال عمره حتى حصل على الدكتوراه وهو بلا ذراعين، ويكتب بالقلم وهو ممسكه بأسنانه، وله صوت يمكن العودة إليه لنتعرف على طريقته وطريقة غيره من مذيعي الإذاعة، وقد اقتصرت في البداية على تلاوة القرآن الكريم فقط، ثم بدأ برنامج “في بيوت الله” يخطب من خلاله كبار الشيوخ من الأئمة الكبار للأزهر الشريف مثل: الشيوخ محمد بيصار، ومحمد محمد الفحام، والشيخ أحمد الشرباصي، والشيخ أحمد حسن الباقوري وغيرهم من كبار علماء الأزهر الشريف.
لم تصدر فتوى تكفير واحدة في الإذاعة القرآنية، مستحيل ولم يحدث، حتى أن البعض أساء لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب عندما رفض تكفير “داعش”، فهو يرى أن التكفير ليس منهجنا، وأن وصف جرائمهم وضرورة محاربتهم يكون أولى وأنفع، وهو استلهام من تراث الإمام علي (ع).
ويُحسب أيضًا للإذاعة ابتعادها التام عن السياسة، لتظل روحية، فقط تذيع أخبار العالم الإسلامي ذات الشأن الديني، وتوصل صوتها للأقليات الإسلامية في العالم.
الابتهالات الدينية في الإذاعة
تذيع الابتهالات الدينية لكبار شيوخ الابتهالات مثل نصر الدين طوبار، وطه الفشني، وعلي محمود، وكامل يوسف البهتيمي، وسيد النقشبندي، وعبد السميع بيومي، ومحمد الفيومي، وياسين التهامي، وغيرهم من كبار المبتهلين، وهي عادة مصرية قديمة كرستها إذاعة القرآن الكريم.
ترتيل القرآن
جاءت فكرة ترتيل القرآن بالصورة الحالية بسيطة ومعبّرة ومؤثرة، أخذت طريقتها من المقرئين في المناسبات الدينية، وفي مناسبات الحزن والوفيات، كان المقرؤون يرتلون القرآن في المقابر والجنازات وإهداء الثواب للميت.
والذي أسهم في شيوع ترتيل القرآن بالصورة الحالية، هو أن حدثًا جليلًا خطيرًا حصل، وهو مربك محير، فقد وصلت نسخ من مصاحف من دول غرب أفريقيا إلى مصر، إلى الأزهر الشريف بصورة خاصة، فيها تحريف آيات القرآن، خاصة الآية الكريمة رقم 85 من سورة آل عمران “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه”، مكتوبة بدون غير، لتصبح الآية “ومن يبتغ الإسلام دينا فلن يٌقبل منه”، وهو تحريف متعمّد.
وصلت هذه النسخ إلى الرئيس جمال عبد الناصر، فاجتمع بقرّاء القرآن الكريم وعلماء الأزهر وطلب منهم مواجهة هذا الأمر الخطير، اقترح البعض طبع مصاحف جديدة بالتفاسير المشهورة وإرسالها، أو إرسال بعثات تلتقي بالمسلمين في الغرب الأفريقي.
ولكن الأمر استقر في النهاية إلى ترتيل القرآن الكريم وإذاعته عبر إذاعة القرآن بالصورة التي نستمع إليها الآن.
وأول من رتّل القرآن هو الشيخ محمود خليل الحصري، حيث رتّل القرآن بقراءات حفص وورش وقالون، ولكن قراءة حفص هي الأشهر.
وبالفعل تم إذاعة الترتيل المبارك، ثم حذا باقي الشيوخ حذو الشيخ الحصري، وأشهرهم الأربعة الكبار: محمود صديق المنشاوي، ومصطفى إسماعيل، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنا.
خمدت فتنة تحريف المصاحف المزورة، خاصة بعد أن تم إرسال أسطوانات تسجيل للقرآن كاملًا، وأيضًا بعد أن توجهت الإذاعة القرآنية للغرب الأفريقي بلغة “الهوسا” الأفريقية التي تعتبر اللغة السائدة في دول غرب أفريقيا، أو اللغة التي يفهمها أهل هذه البلاد. ووصل إرسالها كذلك إلى باقي دول العالم.
ويمكن القول: إن ترتيل القرآن الكريم هو الجمع الثاني للقرآن الكريم، بعد أن تم جمعه في صدر الإسلام على يد الإمام علي (ع)، وهو جمع علمي قرآني نبوي مسموع، حيث لا يمكن التلاعب به، بعد ترتيله وتجويده.
وقد بدأ إرسالها بإذاعة القرآن الكريم مرتلًا بقراءة حفص عن عاصم للشيخ محمود خليل الحصري، لتكون أول صوت يقدم القرآن كاملًا بتسلسل السور والآيات، كما أنزلها أمين الوحي جبريل (ع) على قلب سيد المرسلين سيدنا محمد (ص).
محاولات الوهابية في التغلغل داخل الإذاعة القرآنية
شن الوهابيون مبكرًا هجومًا على إذاعة القرآن المصرية، بزعم أنها تذيع ابتهالات وتواشيح دينية تمدح النبي وأهل بيته، وقالوا إنها بدعة وكل بدعة ضلالة، رغم أن الابتهالات الدينية تعتبر من أهم ما يرقق قلب المؤمن، منها المدائح النبوية في سيرة خير البرية.
ولكن السلفيين يكفّرون الابتهالات والمبتهلين، بالإضافة إلى ما ذكره الشيخ الوهابي أبو إسلام أحمد عبد الله “إن الإذاعة كما يزعم تستضيف شخصيات يبدلون أحكام الشريعة الإسلامية ويضللون الناس في الأمور الدينية، وأن برنامج دقيقة فقهية على إذاعة القرآن الكريم ضلالٌ في ضلال، وأن إذاعة القرآن الكريم تستضيف شخصيات تحلّل الاحتفالات بعيد الأم، وترى أن ربا البنوك جائز، وسماع الموسيقى حلال، الأمر الذي يعتبره هو مخالفًا لصحيح الدين الإسلامي”، وهي كما نرى تُهَم لا تتفق لا مع صحيح الدين ولا مع خلق المسلم، ولكن في المقابل تعطينا فرصة لإلقاء الضوء على إذاعة القرآن الكريم في مصر.
خلال المد الوهابي حاول شيوخ السعودية إذاعة تلاوتهم للقرآن عبر الإذاعة المصرية ولم يفلحوا في الأمر نظرًا لدقة القرّاء المصريين، وامتحانهم العسير للمتقدم ليكون مقرئًا للقرآن.
في البداية حاولوا منافسة الإذاعة المصرية بإذاعة القرآن الكريم من مكة المكرمة، وخصوصًا من خلال برنامج “نور على الدرب”، الذي كان يقدّم الفتاوى التكفيرية للشيخ عبد العزيز بن باز، ولكن المنافسة خرجت لصالح إذاعة القرآن الكريم في مصر.
ثم حاول الشيخان علي الحذيفي وعبد الرحمن السديس وغيرهما دخول الإذاعة كمقرئين، ولكن وجدت اللجنة عندهم أخطاء لغوية وتجويدية، منعتهم من دخول الإذاعة المقدسة، حيث رصدت لجنة الاستماع 183 خطأ لغويًّا وتجويديًّا في ترتيل الشيخ علي الحذيفي، وهو أمر أزعج شيوخ الوهابية، ظلت الإذاعة القرآنية معصومة من التغلغل السلفي.
إن شيوخ المملكة السعودية يرتلون القرآن من خلال تسجيل صوتهم في الصلوات الجهرية خاصة في صلاة التراويح الرمضانية، ولا يبسملون قبل القراءة، ولا يفعلون كما يفعل الشيوخ المصريون، الذين يجوّدون ويتعلمون المقامات والسلالم الموسيقية ويتعلمون العروض الشعرية أيضًا، ليأتي الترتيل رائعًا كما نسمعه اليوم وغدًا.
مع العلم أن رئيس لجنة الاستماع في وقت من الأوقات كان يريد الالتحاق بالإذاعة المصرية قارئًا للقرآن هو الموسيقار المعروف محمد عبد الوهاب، لأن قارئ القرآن لا بدّ أن يدرس الدرجات الموسيقية والعروض الشعرية.
وقد تعلّم الفنان محمد عبد الوهاب تعليمًا دينيًّا في بداية حياته قبل أن يتجه للفنون، وكان كثيرًا ما يُقوّم أخطاء قرّاء القرآن العظيم، فيأخذون عنه وهم يستبشرون.
بالإضافة إلى أن كل المطربين القدامى كانوا شيوخ ورجال دين قبل كل شيء مثل: كامل الخلعي – زكريا أحمد – محمد القصبجي – رياض السنباطي – سيد مكاوي – محمد فوزي – أم كلثوم – محمد الموجي … إلخ.
تطور الإذاعة القرآنية
تطورت الإذاعة القرآنية المصرية، فمنذ شهر مايو 1994م بلغت مدة الإرسال لإذاعة القرآن الكريم أوجها، حيث تقرر استمرار إرسال شبكة القرآن الكريم على مدار الأربع والعشرين ساعة، وتنوعت البرامج، ومن يقوم بالتقديم والاستضافة كبار رجال الأزهر، صحيح وُجد من تأثر بالسلفية، ولكنهم في النهاية قلة، ثم اختفوا من المشهد الديني داخل الإذاعة وربما خارجها أيضًا.
وتنقل إذاعة القرآن الكريم في مصر الاحتفالات الدينية، مثل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ومواليد أهل البيت الموجودين في القاهرة، مثل سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة وأم الغلام، كما تنقل احتفالات الدولة بالليالي الرمضانية اليومية طوال شهر رمضان المبارك من كل عام، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان وغيرها من المناسبات الدينية.
حاول بعض القرّاء الدخول لإذاعة القرآن الكريم كمرتلين مثل غيرهم مع الخمسة، ولكن لم توافق الإذاعة، لأن الأعداد كبيرة وكثيرة ومتنوعة، وبالتالي لا يمكن إذاعة كل الترتيلات بصورة دورية، لأنها تأخذ وقتًا طويلًا في دورة القرآن المرتل، ربما تأخذ الدورة أكثر من عام.
ففي منتصف الثمانينيات سجّلت مصاحف مرتلة لعدد كبير من القراء منهم: محمد محمود الطبلاوي، ومحمود عبد الحكم، وأحمد نعينع، ومحمود حسين منصور، ومحمد أحمد عامر، والشحات محمد أنور، ومحمد عبد الوهاب الطنطاوي، وعلي حجاج السويسي، ومحمود صديق المنشاوي، ولكنها اقتصرت الترتيل على الخمسة الكبار المشهورين الأوائل، وهم بالترتيب حسب الأقدمية في الترتيل: محمود خليل الحصري – مصطفى إسماعيل – محمد صديق المنشاوي – محمود علي البنا – عبد الباسط محمد عبد الصمد، ويُعرفون بالفرسان الخمسة.
تركت الإذاعة باقي الشيوخ من القرّاء للفضائيات المنتشرة في كل مكان.
واليوم توجد برامج جديدة متطورة، منها البرامج التي لا تتعدى مدتها خمس دقائق، وبرنامج دقيقة فقهية، وبرامج حول قضايا المرأة والمواريث وتجديد الخطاب الديني، والتقريب بين المذاهب الإسلامية.
يصل إرسال الإذاعة إلى كل دول العالم، وخاصة للجاليات المسلمة في الدول الأوروبية، وبالتأكيد يوجد أخطاء، ولكن الكمال لله وحده…
المقالات المرتبطة
المفهوم الأخلاقي للحياد ومفاعيله السياسيّة والحواريّة
في خضمّ صراع المحاور الحضاريّة والاقتصاديّة وما يدور حولها من مسارات جيوسياسيّة، يطرح البعض “وضعيّة الحياد” كموقف رسميّ للدولة اللبنانيّة
الطقس والأسطورة في ملحمة جلجامش محاولة لإعادة نظر في المعنى
أشارت المقالة في الأسبوع الماضي إلى ضرورة قراءة الطقس انطلاقًا من الرؤية المرجعية أو النظرة الكونية الخاصة…
القدس: إطلالة على التاريخ والواقع المعاصر
تُعدّ القدس ظاهرةً حضاريّةً فذّةً، تنفرد فيها دون سواها من مدن العالم، فهي واحدة من أقدم وأقدس المدن على ظهر