هل حَكَم المعري مدينة المعرّة؟

by الدكتور أحمد ماجد | سبتمبر 12, 2022 7:57 ص

يقف الإنسان حائرًا في كثير من الأحيان ليسائل نفسه، هل كلّ ما يُقال أو قيل يحتاج إلى مراجعة في المجال الثقافيّ؟ وهل أنّ ما أعتقده هو نابع عن اطمئنان في ما استقر في عقلي، وجعلني أتقبله دون مراجعة؟ خطر في بالي هذا السؤال، وأنا أراجع كتابًا للدكتور “فكتور الكك” يحمل عنوانًا “فصول من التراث الفارسي”، يعود إلى عام 1972 صادر عن مؤسسة التخصص للخدمات الجامعية، ورد فيه نصًّا حمل عنوان: “بين ناصر خسرو وأبي العلاء المعرّي/ حكيم المعرة غنيّ وحاكم للمعرّة”، وهو في هذا الموضع يعيد بناء سردية “أبي العلاء المعري”، وينقله إلى ضفة أخرى، تحتاج إلى الدراسة لإثبات محتواها.

يبدأ الكاتب بالسردية التقليدية الشائعة، والتي تُظهر “المعري” شخصًا فقيرًا معوز، يعتمد الزهد، ويكتفي بما يقيم أوده، فهو دائم الشكوى من ضيق العيش والعجز عن أداء المعونة لتلاميذه، ولا غرو في ذلك: “فلم يكن دخل أبي العلاء السنوي يتجاوز ثلاثين دينارًا تفيء إليه من وقف لقومه، وكان يتقاسمها مع خادمه، وفقًا لما ذكر شاعرنا في المناظرة التي دارت بينه وبين داعي الدعاة حول أكل الحيوان”[1][1]. هذا ولم يلجأ أبو العلاء وهو الأبي النفس الكاره للكذب والكذابين إلى التكسب بشعره، فيكون له مورد رد غير الذي ذكرنا، وإنّما حمل حكيم المعرة على الرؤساء والمتنفذين والقضاة والفساد في عصره حملة شعواء في “لزومياته”، فهجاهم على طريقته، في حين كان غيره من الشعراء المداحين يشيدون بمناقبهم المزعومة.

عند هذا الحدّ، نكون أمام نص عادي، ينقل المتعارف عليه، ولكن فجأة ينقلنا “الكك” إلى مكان مختلف حين ينقل نصًا للشاعر الفارسي الحكيم “ناصر خسرو القُبادياني المروزي” في رسالته الموسومة بـ”سفر نامه” تقلب الصورة بشكل كلّي، حيث وصفت رحلته إلى المعرّة، ووصفت حكيمها: “بالثراء والجاه العظيم، وبأنّه حاكم معرّة النعمان، له نواب يسوسون المدينة ويتولون تصريف شؤون ساكنيها”[2][2]، وهذه الزيارة التي يتكلم عنها لا تتناقض مع المصادر التاريخية التي تقول: إنّ حكيم المعرّة كان حيًّا في ذلك، يقول الكاتب: “والجدير بالذكر أنّ ناصر خسرو مرّ بالمعرة، خلال رحلته التي دامت سبع سنوات، في رجب سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، وكان أبو العلاء في ذلك الوقت في الخامسة والسبعين من عمره”[3][3].

هذا، وينقل “الكك” النصّ بصيغته الفارسية، ثم يعمد إلى تقديم الترجمة التالية: “وسرنا ستة فراسخ أخرى فوصلنا معرّة النعمان، وهي مدينة عامرة عليها سور من الصخر، وقد رأيت على بابها أسطوانة من الحجر نقشت فيها كتابة بخط غير عربي فسألت أحدهم: ما هذا؟ فقال: إنّه طلسم العقرب، حتى لا يكون للعقارب بهذه المدينة مقر، ولا تأتي إليها، وإذا أُوتي بها من الخارج وأُطلقت في المدينة ولّت هاربة ولم تدخلها. وقست ارتفاع تلك الأسطوانة فكان عشر أذرع. ورأيت أسواق المدينة جدّ عامرة، وقد أُقيم مسجد الجمعة فيها على مرتفع في وسطها بحيثُ يرقى إليه من أيّ جانب بصعود ثلاث عشرة درجة. وزراعة أهلها كلها من القمح وهو كثير (في أرضهم)، وبها من أشجار التين والزيتون والفستق واللوز والعنب العدد الكثير، أما ماؤها فمن الأمطار والآبار.

وكان بها رجل أعمى يُقال له “أبو العلاء المعري”، وهو حاكم المدينة، وكان عظيم الثروة يملك عبيدًا وخدّامًا كثيرين، وكأنّ ساكني المدينة بأسرها بمنزلة خدم له. أما هو فقد سلك طريق الزهد فلبس الصوف، ولزم بيته لا يبرحه وكان قوته اليومي نصف “مَنّ” من خبز الشعير، ولا يأكل غيره شيئًا. وسمعت بين الناس أنّ باب داره مفتوح لا يُغلق، وأنّ نوابه وملازميه يقومون بتدبير المدينة، ولا يراجعونه إلا في الأمور العامة، وأنّ نعمته تجري على الجميع بدون استثناء؛ أما هو فصائم الدهر، قائم الليل لم يشغل نفسه بأيّ أمر من أمور الدنيا.

وقد بلغ هذا الرجل في الشعر والأدب منزلة جعلت أفاضل الشام والمغرب يقرّون بأنّه لم يكن في هذا العصر ولا يكون رقي إلى مكانته السامقة؛ وقد ألّف كتابًا أسماه “الفصول والغايات” جاء فيه بمقالات مرموزة وأمثال في ألفاظ فصيحة عجيبة، بحيث لا يقف الناس إلا على القليل من ذلك، ولا يدرك مطالبه إلا من قرأ عليه فاتهموه بقولهم: أنت وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن، ويلازمه دائمًا أكثر من مائتي شخص يأتون من الأطراف ويقرأون عليه الأدب والشعر. وسمعت أنّ له ما يزيد على مائة ألف بيت من الشعر! ولقد سأله بعض الناس: إنّ الله تبارك وتعالى أسبغ عليك الكثير من المال والنعم، فلم تهبها الناس ولا تصيب منها شيئًا؟ فأجاب: لست أملك منها أكثر من كفاف حادتي. وكان هذا الرجل على قيد الحياة لدى نزولي بتلك الديار”[4][4].

وقبل أن ننتقل لمناقشة هذه الأخبار التي تحدث عنها، نتوقف مع “الكك” أمام جملة من الملاحظات التي أوردها، وهي جاءت على الشكل التالي:

الكلام السابق، يستدعي المناقشة، وعلى الأقل إخضاعه لنقد على ضوء ما وصل إلينا من أدب منسوب إلى المعري، نستطيع على ضوئه بناء صورة أولية، فكما هو واضح أنّ “خسرو” يُقدم “المعري” صاحب تجربة سياسية متميزة على صعيد الحكم تختلف عما هو سائد في ذلك العصر، حيث يمكن رصد الأمور التالية، انطلاقًا من النص:

1- يظهر بشكل واضح أنّ ما قدّمه “خسرو” وإن قدّم جديدًا على مستوى تسلم “المعري” لحاكمية مدينة “المعرّة” إلا أنّه قد بقي فيما يتعلق بالتفاصيل شديد الارتباط بالسردية التي تُقدمه باعتباره رجلًا زاهدًا في الدنيا، وهذا يشي أنّ أصل الزهد “العلائي” يرتبط بموقف سياسيّ، نظرًا إلى ما أصاب المؤسسة السياسية من هزال نتيجة تحوّلها إلى سلطة سياسية، تهتم في كيفية ديمومتها على حساب القيم الدينية والاجتماعية التي يجب أن تحافظ عليها، وتقوم بنشرها، فهو يقول:

حكم الناس غواةٌ مثل ما حكمت قبل حصاةٌ[5][5] وزلم[6][6] [7][7]

فالحاكم السياسي لم يعد يهتم بحكم المجتمع من أجل توعية الناس إلى مصالحها وكمالها، بل جعله وسيلة لتحقيق مراده مما أدّى إلى إفساد الناس، وهذا الأمر انعكس على الرعية التي استساغت هذا الوضع، الأمر الذي بعث الملل في نفس أبي العلاء، فقال:

ملّ الُمقام فكم أعاشرُ أمة أمرت بغير صلاحه أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم اجراؤها[8][8]

الحاكم عند أبي العلاء كما تُظهر أدبياته يجب أن يكون خادمًا للناس موجهًا لهم، يسعى إلى بث الوعيّ ليصبحوا قادرين على اتخاذ القرار السليم، وما ينقله النص، يُظهر هذا الأمر، حيث بقي المعري بعيدًا عن يوميات الحكم، يقوم بتوجيه الناس دون أن يكون له تدخل مباشر به.

2- كان أبو العلاء يرى أن من يتولى مقاليد الحكم ينبغي أن يحقق المصلحة العامة، للبلاد والعباد، والأمور الدنيوية والأخروية. وأن يوزع الأموال على أوجهها المحددة وجبايتها من غير تعسف، ولهذا يتساءل:

وأرى ملوكًا لا تحوط رعيةً فعلام تؤخذ جزية ومكوس[9][9]

فبالنسبة إليه الأموال التي تُجبى من الناس لا بدّ من أن تعود إليها، وتخدم مصالحها، ولا تصرف على حاجات الحكام وزبانيتهم وترفهم، يقول:

أرى أمراء الناس يمسون شرّهم إذا خطفوا خطف البُزاة اللوامع
وفي كل مصر حاكمُ فموّفقٌ وطاغٍ يُحابي في أخسّ المطامع
يجوز فينفي الملك عن مستحقه فتكسب أراب العيون الدّوامع[10][10]

وكيف تجد الرحمة سبيلًا إلى قلوب هؤلاء الملوك والجباة الذين بإمرتهم، إذا كان الملوك شأنهم العزف والنزف وهمّ الجباة تجميع الأموال:

فشأن مُلوكهم عزفٌ ونزفٌ وأصحاب الأمور جباة خرج[11][11]

وإذا نظرنا إلى النصّ الذي أورده “ناصر” نراه يحاول أن يقدم تجربة حكم مختلفة، حيث يتمّ توزيع المال على الناس بحسب حاجتهم، وبيت الحاكم مفتوح بشكل دائم للناس.

3- هناك إشارة قوية إلى موقعية المعري، تتمثل في ما أورده صاحب معجم الأدباء عندما تحدث عن موت أبي العلاء، وقال أجمع المؤرخون على أنّ وفاته كانت يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وأنشد على قبره بعد موته أربعة وثمانون شاعرًا مراثي حزينة تمجده وتخلده[12][12]، فلو كان أبو العلاء مجرد شاعر هل توافد هذا العدد الكبير من الشعراء لرثائه؟

يبقى أنّ هذه المقال يحمل سؤالًا استجلبته الصدفة: هل حكم أبي العلاء المعرّة؟

وهل قدم تجربة جديدة في الحكم؟

[1][13]  فكتور الكك، فصول من التراث الفارسي، بيروت، مؤسسة التخصص للخدمات الجامعية، 1972، الصفحة 18.

[2][14]  المصدر نفسه، المعطيات نفسها.

[3][15]  المصدر نفسه، المعطيات نفسها.

[4][16]  فكتور الكك، فصول من التراث الفارسي، مصدر سابق، الصفحة 20. النص كما أورده “الكك” يتطابق مع ما ورد في الترجمة التي قام بها “يحيى الخشاب”، وقدم لها عبد الوهاب عزام.

[5][17]  بيع الحصاة من عادات الجاهلية، يقول البائع: بعتك من هذه الأثواب ما تقع هذه الحصاة عليه.

[6][18]  الزلم: قدح من قداح الميسر.

[7][19]  أبو العلاء المعري، لزوم ما لا يلزم، بيروت، دار صادر، 1381، الجزء 2، الصفحة 483.

[8][20]  المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 54.

[9][21]  المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحة 32.

[10][22]  أبو العلاء المعري، لزوم ما لا يلزم، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 138.

[11][23]  المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 273.

[12][24]  ياقوت الحموي، معجم الآباء، بيروت، دار المستشرق، دون تاريخ، التعريف 27.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [12]: #_ftn12
  13. [1]: #_ftnref1
  14. [2]: #_ftnref2
  15. [3]: #_ftnref3
  16. [4]: #_ftnref4
  17. [5]: #_ftnref5
  18. [6]: #_ftnref6
  19. [7]: #_ftnref7
  20. [8]: #_ftnref8
  21. [9]: #_ftnref9
  22. [10]: #_ftnref10
  23. [11]: #_ftnref11
  24. [12]: #_ftnref12

Source URL: https://maarefhekmiya.org/15279/al-maarri/