حوار الدهشة والرهبة بين لحظتي انبثاق
الوقوف على الحوار الإسلامي-المسيحي، يقتضي الرجوع إلى اللحظة الأولى لانبثاق الدعوة الإسلاميّة، فهي جاءت في محيط جاهليّ، ولكنّه لم يخلُ من تقاليد دينيّة سائدة في الكثير من أنحاء الجزيرة العربية، حيث جرى اللقاء مع اليهوديّة والمسيحيّة، وهذا البحث سيحاول رصد موضوع الحوار، على أن يأخذ الإسلامَ والمسيحيّة كمثال حيٍّ عنه، حيث سيعرض مساره ومراحله، ويقف في محطّات أساسيّة فيه، وهو لا يدّعي أنّه يؤرخ لهذا الحوار، لأنّ هذا الكلام يستدعي استحضار الوثائق والأدبيّات التي عالجت هذا الجانب، وهي من الأمور التي تحتاج إلى مجهود كبير ومساحة واسعة لا يمكن لمثل هذا البحث أن يقوم به. هذا مع العلم أنّ الحديث عن الحوار يستدعي الحديث عن استراتيجيّته وغاياته، وبحاجة إلى تدقيق في المصطلح في المنظومات الداعية، كما هو يحتاج إلى معالجة دلاليّة، ليرى الباحث، هل بقي المصطلح على تشكُّلِه الأوّل، أم أنّه تعرَّض للتبديل وللتغيير؟ فما يعرض اليوم في هذا المجال هل هو حوار بالمعنى الحقيقيّ؟ وما الغاية من إطلاقه؟ وهل هو من نتاج المنظومات الاعتقاديّة؟ أم هل هو مؤشِّر على أزمة الديانات الداعية إليه؟ أم هو تعبير عن حداثة دينيّة تريد أن تعولم الأديان؟
أسئلة كثير، تثار في وجه الباحث في هذا الموضوع، تستدعيه إلى الغوص بهذا الموضوع بحذر ودقّة، حتّى يعطي الصورة الأقرب إلى الواقع والأبعد عن التنظير العقائديّ، الذي يحاول أن ينطلق من الذات الباحثة، ليعتبر نظرته هي الأمثل.
- الحوار في البعد القرآني
أولى القرآن الكريم الحوار أهمّيّة كبيرة، حيث تُظهِر المراجعة للآيات القرآنيّة الكريمة المتعلّقة بالحوار، تعدُّد مجالاته، إذ نرى حوار الله مع الشيطان[1]، والأنبياء[2]، والعباد[3]، بالإضافة إلى حوار الناس مع الناس[4]. ومن الناحية الدلاليّة، ارتبط الحوار في القرآن الكريم بعدد من المصطلحات، وهو ما انعكس في حقل معجمي دال على الحوار من خلال بعض الألفاظ والعبارات، فوردت كلمة “قال” ومشتقّاتها 1713 مرة، منها 549 مرّة كلمة “قال”، و355 مرة كلمة “قالوا”. كما وردت كلمة “جادل” ومشتقاتها 29 مرة. ووردت كلمة “حاجَّ” 13 مرة، ووردت كلمة حوار ثلاث مرات[5]. هذه المعطيات تظهر الحوار كأنّه كلمة مفتاحية، نستطيع من خلالها أن نفهم العقل الإسلامي المنفتح على الآخر الراغب بالتعاطي معه وتفهّمه، ولعلَّ هذا من المحفزات، التي تدفع الإنسان إلى معالجة هذا الموضوع واستكشاف ما فيه.
1-1 الحوار ومعناه
الحوار من الحور وهو الرجوع إلى الشيء وعنه. وكلّ شيء تغيّر من حال إلى حال، فقد حار يحور حورًا والمحاورة: مراجعة الكلام[6]. وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾[7]؛ أي لن يرجع؛ والمراد الرجوع إلى ربّه للحساب والجزاء[8]. وقد ورد الحوار بلفظه ثلاث مرّات بصيغة الفعليّة[9]، وأشار إلى نوع من أنواع تبادل الكلام ومراجعته، ولكنه لم يشر إلى الحوار ببعده العملي، فالبعد الحقيقيّ للحوار يظهر في آيات أخرى، حيث يصبح مقدّمة لكلّ عمل غايته إقناع الآخر[10] بالدين الإسلاميّ عبر الحوار الهادئ[11]، الذي يهدف إلى استقرار المجتمع البشريّ والحفاظ عليه[12]، لذلك هو وسيلة للتعارف وركن للمعرفة[13]، والهدف منه إيجاد المساحات المشتركة[14]، ولكن على أرضيّة الإيمان بالله والعمل الصالح والتواصي بالحقِّ والصبر[15].
ويُلاحظ أنّ الحوار، كما قدّمه القرآن الكريم من خلال الواقع العمليّ، يحمل آثارًا إيجابيّة، وهو يقوم على أسس محددة لا توحي بالمخاصمة، لذلك وصف تلاميذ عيسى بن مريم (ع) بالحواريّين، والحوار في القرآن يقوم على الأركان التالية:
- أ: التمهل والتفكر قبل الرد
على المحاور أن يتفهم وجهة نظر الخصم وعدم التعجل بالرد عليه، وانتظار الخصم لينهي حديثه، قال تعالى: ﴿ومن الناسٍ مَن يُجادِلُ في الله بِغَيرِ علمٍ ولا هدى ولا كِتابٍ مُنيرٍ﴾[16]، وعليه أن يتكلم بما يعلم: “فإن لم يعرف بما يجيب لقصور علمه، فيجب أن يقول لا أعلم أو الله أعلم”[17].
1-ب: محاورة بأفضل الأسماء والألقاب وأجمل ألوان الخطاب
وهذا من العناصر النفسية المهمة، التي تحفظ الودّ والمحبة بين المتحاورين، وهذا ما تدل عليه القصة القرآنية حول حوار لقمان مع ابنه، إذ يقول تعالى: ﴿إذ قال لُقْمان لابنه وهُو يعِظُهُ يا بني لا تُشْرِكُ بالله إنّ الشِّركَ لظُلْمٌّ عظيم﴾[18]. وهذا ما تظهره أيضًا الآية التي تتكلم عن دعوة النبي يوسف (ع) لصاحبي السجن[19].
1-ج: الهدوء في أثناء الحوار
وهو من المبادىء الهامة في كل عمل حواري، حتى يستطيع المتحاورون إيصال أفكارهم بهدوء ودون انفعال، ويقول تعالى: ﴿واغْضُض من صوتٍكَ إنَّ أنكرَ الأصواتِ لَصَوتُ الحمير﴾[20].
1- د: بسط الوجه
ومن آداب الحوار بسط الوجه للخصم وإظهار المودة واللطف معه، قال تعالى: ﴿ولا تُصَغِّرْ خَدَّك لِلناس﴾[21].
1- ه: عدم التعصب ونشدان الحقيقة
ومن آداب الحوار التزام الموضوعية والعدل والإنصاف، وقد أرشد القرآن إلى هذا الأمر بقوله: ﴿وإنَّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾[22]، فالحقّ هو ضالة المؤمن، وعليه إذا وصل إليها أن يعترف بها، قال تعالى: ﴿والَّذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾[23]. ونلمح الكثير من الأمثلة حول هذه النقطة كحوارات الأنبياء من قومهم، فهم أصرّوا على الحوار معهم وإظهار الحق على الرغم من ما وجدوه من إصرار على الباطل.
1-و: إبراز الحقائق الثابتة
حيث على المحاور أن يتحلى بالموضوعية في عرض رأيه، واعتماد البينة، فلا يتكلم المؤمن دون قرينة أو إثبات حتى لا يظلم الناس، يقول تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾[24]. وقال أيضًا: ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾[25].
إذا خرج الحوار عن هذا الحدّ فهو جدل.
1-2: الجدل
الجدل من جدل، ويقال رجل جدل مجدال أي خصم مخصام، والفعل جادل يجادل مجادلة. وجدلته جدلًا، فانجدل صريعًا، وأكثر ما يقال: جدلته تجديلًا أي صرعته، فهو يحمل معنى المغالبة والسيطرة والتفوّق من أحد على الآخر، من هنا قيل: الجدل المفاوضة والمنازعة في القول على سبيل المغالبة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله[26]، فقوله: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾[27]؛ معناه – والله أعلم – أنّ الوثنيّين، وإليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج، يجادلون في ربوبيّته تعالى بتلفيق الحجّة على ربوبيّة أربابهم كالتمسُّك بدأب آبائهم والله سبحانه شديد المماحلة لأنّه عليم بمساويهم ومعايبهم[28]، وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾[29]، فمعنى قوله: إنّه يجادل في وحدانيّته تعالى في الربوبيّة والألوهيّة بغير حجّة يصحُّ الركون إليها بل عن تقليد[30]. وقوله: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلاَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ﴾[31]؛ المراد بالمجادلة في آيات الله هي المجادلة لإدحاضها ودفعها وهي المذمومة.
وهذا لا يعني أنّ الموقف من الجدال سلبيٌّ بشكل مطلق، إنّما يأخذ جوانبًا إيجابيّة إذا كانت الغاية منه إبراز كلمة الله، فالأنبياء اعتمدوا هذا المنهج في بعض الأحيان، قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾[32]، وهنا نلاحظ كلامًا ألقوه إلى نوح (ع) بعد ما عجزوا عن دحض حجّته وإبطال ما دعا إليه من الحقّ، وهو مسوقٌ سوْقَ التعجيز والمراد بقولهم: ﴿بِمَا تَعِدُنَا﴾ ما أنذرهم به في أول دعوته من عذابِ يومٍ أليم[33].
- المحاجّة
والحوار قد يكون الحجاج، وهو يأتي بمعنى اللغو كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ﴾[34]، وهنا لدينا إنكار لمحاجّة أهل الكتابِ المسلمينَ في الله سبحانه وقد بُيِّن وجه الإنكار، كون محاجّتهم لغوًا وباطلًا،[35]. كما يأتي بمعنى الدليل، فقال تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾[36].
بالخلاصة، للحوار في الإسلام وجه إيجابيٌّ يجب على المتحاورين الالتفات إليه، وهو يقوم على أسس وحدة الله والإخلاص له، وإذا تعدّى هذا الأمر يكون جدلًا أو لغوًا أو حجاجًا.
2- المسيحية والحوار
على الضفّة المقابلة، نجد المسيحيّة قد ذهبت إلى الحديث عن وحدة الكينونة بين الأشياء، وألغت المسافة بين نطاق المحرّم على مستوى الوجود، فهي ترى أنّ المسيح هو هيكل الله، بالتالي فقد انتقلت وتحوّلت عن مفهوم الحرم الطقسيّ والنجاسة الشرعيّة، أي غدت في عالم الباطن، من هنا فهي لا ترى حقيقة خارج الكنيسة، فهي ترفض كلّ ثنائيّة وتقوم على شموليّة الملكوت الإلهيّ، وفي هذا السياق يبدو العالمُ جزءًا من الكنيسة، فهي تعيد تأسيس حياة الإنسان عبر القربان الذي ينقل الإنسان إلى حياة جديدة عبر المشاركة في كنيسة المسيح، ولهذا قال بولس: “لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ”[37]. ويتضح ممّا جاء أنّ الرسول يعلم بأنّ للمعموديّة في العهد الجديد نفس المكانة التي كانت للختان في العهد القديم. وهذا ما توضحه الرؤية المسيحيّة للخلاص، حيث يُعرّف بأنّه: “الانتشال من الهلاك وإعادة السلامة. وبما أنّ مصدر الهلاك هو الخطيئة والموت، فأوّل عناصر الخلاص الحقيقيّ الروحيّ هو التحرير من الخطيئة والموت. إنّ الخلاص الذي حصلت عليه البشرية استحقّه ونالَهُ في مصدره فصح يسوع المسيح، وهذا الخلاص يسري على كلّ واحد في المعمودية وفي الإيمان حيث يحرَّر المسيحي من الخطيئة ويشارك في الحياة الإلهيّة، ويتمّ بدخول المسيحيّ في الحياة الأبديّة بعد الموت، بالقيامة العامّة والمشاركة في أورشليم السماويّة سفينة الخلاص… وسفينة الخلاص تدلُّ… على المعمودية والإيمان”[38]. فالكنيسة هي الأصل، التي تحتوي الحقيقة الكاملة عبر تجسيدها لجسد المسيح، وبالتالي هي لا تحتاج إلى العالم الخارجي، والتفكير اللاهوتيّ التقليديّ الحصريّ، يعتمد على العبارة التالية: “لا خلاص خارج الكنيسة”، بل مع مرور الأيّام، حصرت الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة إطارَ الخلاص هذا في المنتمين إليها دون سواها، إذ أقصت عنه، فضلًا عن أتباع الديانات الأخرى، المسيحيّين غير الكاثوليك الذين اعتبرتهم منشقّين عنها[39].
ومسألة الحوار لم تتطرق إليها النصوص التأسيسيّة، وإن كان الواقع يتجاذبه اتّجاهين، الأوّل:
2-1 موقف المسالمة: واعتبر أصحابه أنّ العنف ليس أصلًا في الدعوة التبشيريّة، وهذا ما ذهب إليه بولس الرسول ويوحنّا الذهبيّ الفم والقدّيس باسيليوس الكبير، الذي رفض رغبة الإمبراطور في أن يُسمّى الجنود الذين قتلوا في الحرب شهداء[40]. وقال ترتليانوس: إنّ ثمّة جنودًا مسيحيّين كثيرين غير أنّهم كانوا يرفضون القتال بسبب من ذلك استشهد كثيرون، وفي هذا المنحى قال العلّامة أوريجانوس: إنّ السيّد لمّا وبخ بطرس على قطعه أذن جندي عنى أنّ المسيحيين لا يحقّ لهم أن يحموا أنفسهم من أعدائهم وأنّنا لا نأخذ السيف ضدّ أمّة ولا نتعلم الحرب[41].
ولكن هذا الحوار والسلّم، ليسا أصلًا منهجيًّا، إنّما هما خطوة باتّجاه نقل فكرة تجسُّد السيّد المسيح وبالتالي الخلاص، فالمسيحية وضعت بمشروعها الخلاصي النظام على مسار تاريخي يربط مصير الإنسان بمصير الإله المتجسّد، ودعت الفرد إلى اختيار شخصي لحياة روحيّة داخليّة تصل إلى حدود التضحية بالذات من أجل الآخرين”[42]، شرط أن تكون هذه الدعوة قائمة على الإيمان النقي: “إيَّاكم أن يأسركم أحد بالفلسفة، بذلك الخِداع الباطل القائم على سُنَّة الناس وأركان العالم، لا على المسيح”[43]، ومع أنّ بولس وضع حدًّا فاصلًا بين الأرضي والإلهي، إلا أنّه في سبيل إقناع الآخر، يذهب إلى نصوصه ومرجعياته لاستمالته، وهذا ما فعله وسط مجمع الحكماء اليونانيين المسمّى الأرياباغوس عندما استشهد ببيت شعري من أقليانتس يقول فيه: “… فيه حياتنا وحركتنا وكياننا… فنحن من سلالته…”[44]. من هنا يصبح على المحاور أن يتفهّم ثقافة الآخر ليستطيع أن ينقل إليه بشارة المسيح؛ يقول بولس الرسول: “جعلت من نفسي عبدًا لجميع الناس حتّى أربح أكثر”[45]، فالمنطق هو الربح وجذب الآخر إلى ساحة المسيحيّة، ويضيف: “وصرت للناس كلّهم كلّ شيء لأخلّص بعضهم بكلّ وسيلة. أعمل هذا كله في سبيل البشارة”[46]. وأضاف في نفس السياق: “صرت للذين بلا شريعة كالذي بلا شريعة، مع أنّ لي شريعة من الربّ بخضوعي لشريعة المسيح”[47]، ويستشفُّ من هذه النصوص أنّ الأصل في الحوار مع الآخر وفهمه ليس الحوار للتوافق حول نقاط محدّدة، إنَّما هو السعي لضمِّهِ إلى الرعيّة والمشاركة بجسد المسيح المتمثّل بالكنيسة، لذلك صادر يوستينوس فكرة اللوغس وجعل منها وجودًا متجسدًا، فتحوّل اعتزازه بالفلسفة اليونانية، من التفكير بحسب اللوغس إلى العيش وفق اللوغس[48]، وعندما يواجه الداعي صعوبة في إبلاغ الدعوة، عليه بالتوقُّف عنها لأنّ المدعو مرتبط بخطيئة لا يمكن أن يطهِّرها الربّ[49].
2-2 موقف المواجهة: واعتبر أصحابه أن الكنيسة هي صاحبة الحق والحقيقة، وابتداءًا من مجمع نيقية، أخذت الكنيسة وبمؤازرة السلطة السياسية، وما يدعم هذا الأمر الأحداث التي شهدتها القدس والإسكندريّة على أثر قرارات مجمع خلقيدونية. ففي القدس، رفضت المدينة بسكانها ورهبانها استقبال الأسقف الذي عيّنه المجمع، فقامت ثورة عنيفة دفعت بالإمبراطور إلى إرسال قوّات مسلّحة لفرض القرارارت بالقوّة فذُبِحَ الكثير من الرهبان[50]. أمّا في القسطنطينية، فقد وصل الأمر بيوستنيانوس، وتحت شعار الوحدة بين الكنيسة والدّولة، إلى إصدار مرسوم يعاقب بالموت كلّ من يرتدّ إلى الوثنية بعد أن يكون قد تعمّد. ذلك أنّ النخبة المثقفة في المدينة، كانت لا تزال تحمل باطنيًّا بعض الأفكار الفلسفية القديمة[51]، ووصل الأمر إلى حدّ أصدر الإمبراطور قرارًا يمنع بموجبه التعليم الفلسفيّ، وأغلق آخر مدرسة للفلسفة اليونانية في أثينة سنة529 [52].
ويُظْهِرُ ذلك أنّ النخبة عند تحوّلها إلى المسيحيّة عملت على فرض الدين المسيحيّ على رعاياها، وأقرّت مفهوم الحرب الدفاعيّة، التي تستهدف تعميم التبشير بالمسيحيّة. من هنا يمكننا أن نرصد الكثير من الأحداث التي جرت بعد انتصار الكنيسة المسيحية، حيث أصدر ثيودوسيوس، سنة 393 مرسومًا يمنع اليهود من حقّ الاجتماع وحماية أملاكهم وأشخاصهم، وأقصاهم عن وظائفهم في البلاط الإمبراطوري. وحظر عليهم بناء مجامع جديدة، ومن الزواج من مسيحيات وشراء عبيد مسيحيين. وحظر على المسيحيين مصادقة اليهود والدخول إلى مجامعه أو الاحتفال بأعيادهم[53]. ولم يقف هذا الموقف السلبي من اليهود، إنما تعداه إلى المسيحيين المخالفين للكنيسة الرسمية.
3- اللقاء بين الإسلام والمسيحية
لم يكن اللقاء بين الإسلام والمسيحيّة، يقوم على التسامح والحوار بشكل دائم، إنَّما مرَّ بمراحل متعدِّدة، وسنكتفي في خضمِّ هذا البحث على إلمامة سريعة، تظهر العلاقة بين هذين الدينين وكيفيّة تأرجحها.
3-أ مرحلة الدعوة
وهي المرحلة التي تلت البعثة النبويّة الشريفة، وتميّزت بكونها مرحلة دعوة إلى الدين الإسلاميّ، وهنا نلاحظ مبادرات عدة، حيث وجّه النبيّ (ص) الرسل إلى الحُكّام، ودعاهم إلى دخول الإسلام أو اللقاء حول توحيد الله. وقد تطوّر هذا الأمر في النصوص اللاحقة حيث إنّ أوّل لقاء رسميّ بين المسيحيّة والإسلام كان حين استقبل النبيّ محمّد (ص) وفدَ مسيحيّي نجران في المدينة، وهذا اللقاء حمل معه معالمَ كيفيّة التصرُّف مع الآخر في الحوار، حيث لم يستقبلهم بثيابهم الرسميّة، بل بثيابهم العادية، ولما حضر وقت الصلاة، أذن لهم بالصلاة في المسجد على الرغم من اعتراض بعض الصحابة، وتوافقوا بعد دعوة المباهلة وعقدوا صلحًا مع المسلمين تمثّل فيما بعد بمبدأ الجزية[54]. وهذه الروحيّة الإسلاميّة لم تأتِ من فراغ، فالإسلام قد اعترف بالإرث الإبراهيميّ، وجعله مرحلة من مراحل تطوُّره، ويلاحظ أنّ القرآن لم يقف من المسيحيّة موقفًا سلبيًّا كدين ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾[55]، إنّما أثنى على الرهبان ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ* وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [56]، وهذه الآيات تظهر نزعة إيجابيّة اتجاه السلوكيّات المسيحيّة، وإن لم يقرّ لهم رؤيتهم العقائديّة.
3-ب مرحلة الخلافة الراشدة
لم تشهد هذه المرحلة تحوُّلًا كبيرًا في العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة، فقد أقرّ الخلفاء ما جاء به الإسلام، وأقرّوا العهود التي أعطاها الرسول (ص) للنصارى، وهذا ما تشهد عليه الكثير من النصوص الواردة من تلك الحقبة، فقد جاء في عهد أبي بكر: “هذا ما كتب به عبد الله، أبو بكر خليفة محمّد رسول الله (ص) لأهل نجران، أجارهم الله بجوار الله، وذمّة محمّد النبي رسول (ص) على أنفسهم، وأرضهم ومساكنهم، وأموالهم، وحاشيتهم، وعبادتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وبيعهم، وكلّ ما تحت أيديهم من قليلٍ أو كثير، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يغيَّر أسقف من سقيفاه ولا راهب من رهبانيّته، ووفى لهم بكلِّ ما كتب محمّد النبي (ص)، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمّة محمّد (ص)، وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحقّ”[57]، والملاحظ أنّ هذه المرحلة، أخذت تظهر بوادر نزعة أقواميّة عربيّة حيث جرى تمييز المسيحيين العرب، فلم تأخذ منهم الجزية.
3-ج- الإسلام خارج جزيرة العرب
ومع توسُّع الدول الإسلاميّة وتمدّدها إلى خارج الجزيرة العربيّة، عرفت العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة مرحلة جديدة، حيث اقتضت ضرورات تسيير الدولة اعتماد الحكّام المسلمين على الكفاءات العلميّة والإداريّة في الدول البائدة، وهذا التماس بين الديانتين أوجد جدلًا دينيًّا كبيرًا، وقد حفّز هذا الجوُّ سؤال المسيحيّة نفسها عن سبب هذا الواقع الذي وجدت نفسها به، وهو ما أدّى إلى استنفار العقول لمواجهة الإسلام والحفاظ على الذات. فكانت كتابات يوحنّا الدمشقيّ التي تعتبر أولى انتقادات المسيحيّة للإسلام، حيث نظر إلى الإسلام كهرطقة دينيّة، وأطلق عليه لقب السراقينيّ نسبة إلى سارة زوجة النبيّ إبراهيم (ع)، التي أرسلت إسماعيل إلى الصحراء خالي الوفاض، ويكتب يوحنا الدمشقيّ بشأن ظهور الإسلام قائلًا: “كان العرب يزاولون عبادة الأوثان علنًا إلى عهد هرقليوس. ومنذ هذا العهد وحتّى أيّامنا هذه، قام في ما بينهم نبيّ منتحلٌ (النبوّة) اسمه محمّد، والذي قد أنشأ هرطقته الخاصّة بعد أن تعرّف بالصدفة على العهدين القديم والجديد، وبعد أن تحاور مع راهب آريوسي…”[58]. وهذه النظرة التي أشاعها يوحنّا الدمشقيّ، سببت الكثير من اللبس المتعلق بالنظرة المسيحيّة للإسلام، فهي وبسبب رغبتها في الدفاع عن العقيدة المسيحيّة، أخذت تُأوِّلُ الكثير من الأمور الإسلاميّة، وتعطيها بُعدًا وثنيًّا.
فيوحنّا الدمشقيّ، وعلى الرغم من عمله في حضن الدولة الإسلاميّة، بقي يكنّ كراهيّةً اتجاه العرب المسلمين، ربما لم تظهر هذه النظرة إلى العيان إلّا بعد تقاعده وانخراطه في دير القدِّيس سابا بفلسطين. حيث كان يدعو في صلاته للإمبراطور البيزنطيّ بالنصر على الأعداء، متمنّيًّا من خلال شفاعة الثيوتوكوس، أن يسحق “أمّة البرابرة” بقدميه. ولا يوجد من شك أنّه كان يقصد بالبرابرة هنا المسلمين، حيث يقول إنّهم شعب الإسماعيليّين، الذين يحاربون ضدّنا”[59]، وهذا الجوّ الموغل في العداء للإسلام، أنتج بيئة ثقافيّة تأثّرت به، فظهرت شخصيّة ثيودور أبو قرّة المتقن للفلسفة اليونانيّة، لا سيّما الأرسطيّة، والذي، عندما أراد أن يناقش الإسلام، ذهب إلى تعبيرات شعبيّة، وتكلّم بلغة السوق بعيدًا عن العلميّة. ويقارن توما الأكويني في أحد كتبه ما بين الانتشار السلميّ للمسيحيّة، والانتشار الإكراهيّ للإسلام. فهو يفسِّر ظاهرة انتشار الإسلام على أساس أنّ المؤمنين بدعوة الرسول العربيّ أوّلًا كانوا من الناس الجهلة البسطاء، العائشين في الصحراء والذين لم يسبق لهم أن عرفوا أيّ تعليم أو عقيدة إلهيّة. وعن طريق أولئك البدو، أجبر محمّد بقيّة الناس في المنطقة على الامتثال لشريعته بقوّة السيف”[60].
وهكذا يمكن القول، إنّه من خلال كتابات يوحنّا الدمشقيّ وثيودور أبو قرّة وُلِد نوع جديد من الأدب الدينيّ في بلاد الشام مناهض في جوهره للإسلام، وهذا ما تبلور في وقت لاحق من خلال المناظرة التي دارت بين عبد الملك بن مروان وراهب يدعى ميخائيل السابيّ، أو المراسلات الدينيّة-الرسميّة التي حفظها المؤرِّخ الأرمينيّ جيفوند بين الخليفة الأمويّ عمر بن عبد العزيز والإمبراطور البيزنطي ليو الثالث الإيسوريّ، أو المحاورات الدينيّة الشعبيّة، كحوار بين ساراقينيّ ومسيحيّ، الذي من المحتمل أنّه كان معاصرًا أو تاليًا لمجادلة عمر بن عبد العزيز مع ليو الثالث؛ وأخيرًا قصص الشهداء والقدِّيسين المسيحيّين الذين استشهدوا على أيدي المسلمون كما صورتهم سيرهم[61].
وفي مقابل المسيحيّة، انبرت الأقلام الإسلاميّة في مواجهة الكتابات المسيحيّة، فشاعت الكتب الجدليّة، فنقرأ عن مجموعة من علماء المسلمين انبروا للردِّ على الكتابات المسيحيّة، وتتحدّث المصادر عن أعمال ضرار بن عمرو القاضي الذي كتب أوّل عمل جدليّ- إسلاميّ ضدّ المسيحيّة، والقاسم بن إبراهيم الرسيّ ضمن رسالة قصيرة تتحدث عن مفهوم التثليث والتوحيد[62]، والجاحظ الذي ترك رسالة أسماها” الردُّ على النصارى”[63]، واليعقوبيّ أفرد في تاريخه مكانًا للحديث عن المسيحيّة، وتحدّث عن الأناجيل الأربعة[64]، والمسعودي تناول المسيحيّة في “رسالة التنبيه والإشراف”، وكلّما كانت تتقدّم الفترة الزمنيّة في التعايش الإسلاميّ كانت تتطوّر وسائل الجدل، حيث نجد أبا الريحان البيروني، قد استفاض بالحديث عن المسيحيّة وفِرَقِها وأعيادها في كتابه “الآثار الباقية عن القرون الخالية”[65]، وكتب ابن حزم كتابًا حول الملل والنحل أسهب فيه بالحديث عن المسيحيّة، وحاول من خلاله تقديم صورة واقعيّة عن المسيحيّة، وكتب أبو حامد الغزالي رسالة في هذا الموضوع أسماها “الردُّ الجميل لإلهيّة عيسى بصريح الإنجيل”[66]، وكتب ابن عبيدة الأنصاري كتاب “مقاطع الصلبان في الردّ على عبدة الأوثان”، بالإضافة إلى أعمال كتبها ابن قيّم الجوزيّة وابن تيمية.
ويلاحظ القارىء لهذه النقاشات طابعها العقائديّ البحت، ويمكن أن نرصد عددًا من النقاط التي تميّز الحوار الدينيّ في تلك المرحلة:
1- هو حوار حول مسائل دينيّة، كلّ طرفٍ يحمل رؤيته الخاصّة حول الآخر، وكلّ منهما لا يفقه اللغة اللاهوتيّة التي يتكلّم بها الآخر، فالمسيحيّة كانت تتكلّم اللغة اليونانيّة، وترفض الأخذ بغيرها، ولم يكن هناك مراجع عربيّة تتحدّث حول هذه الموضوعات على الرغم من الوجود العربيّ، وهذا الأمر أبعد المسلمين عن فهم حقيقة المسيحيّة السائدة في بلاد الشام، بينما كانت المسيحيّة تعتمد على النصوص اليونانيّة واللاتينيّة، فهم لم يعودوا إلى النصوص العربيّة، على الرغم من معرفتهم لهذا اللغة، إنّما استقوا معلوماتهم من شذرات تُرجمت إلى اليونانيّة مع وجود أخطاء كبيرة فيها على صعيد الترجمة.
2- التناقض في الرؤية التاريخيّة للحيّز مكان النزاع، فالعربيّ والمسلم عندما أتوا إلى بلاد الشام ومنها انطلقوا إلى العالم، كانوا يريدون العودة إلى أرض ميراث إبراهيم، بالتالي فهي عودة إلى أرضه، ولكنّ المسيحيّة نظرت إلى تلك الأرض من خلال قداسة الشهداء الذين سقطوا عليها، من هنا لم تستطع أن تفهم الانتصار الإسلاميّ، إنّما اعتبرته نوعًا من العقاب الإلهيّ لا بدّ من أن يزول مع عودة حكام بيزنطية إلى رشدهم.
3- اعتبار الحوار ملتقى لتسجيل النقاط والمواقف على الآخر، حيث عمل كلُّ طرف على تسجيل الحوار مع الآخر، واعتبار نفسه منتصرًا.
ولقد تطوّر الحوار الإسلاميّ المسيحيّ على مرحلتين، في المرحلة الأولى طرحت بعض القضايا، التي أثارها يوحنّا الدمشقيّ، وهي: 1-قضيّة الخير والشرِّ وأسبابهما. 2- ألوهيّة المسيح. 3- موت عيسى أو الثيوتوكوس. 3 -تكوُّن الدودة في الجرح. 4- تعميد المسيح.
أمّا المرحلة الثانية، والتي ابتدأت في القرن التاسع، فشملت الموضوعات التالية: 1- ألوهيّة المسيح وعلاقته بالآب. 2- مسألة الأقانيم الثلاث، الآب والابن وروح القدس. 3- مسألة الختان. 4- ذكر محمّد في الأناجيل، هل هذا الأمر حقيقي؟ 5- موقف المسيحيّين من نبوّة النبيّ محمّد (ص). 6- صلب المسيح وموته وقيامته من بين الأموات. 7- علّة عدم اعتراف المسيحيّين بنبوّة محمّد. 8 – تحريف الإنجيل والتوراة. 9- مسألة القضاء والقدر. 10- موضوع القرآن. 11- العنف في الإسلام. 12- موضوع الإباحية في الإسلام. 13- علاقة الإسلام بالديانات السابقة.
ولم تأخذ هذه النقاشات شكلها اللاهوتيّ البحت، إنَّما أخذت تتمظهر بمظهر الكتابات الفلسفيّة خاصّة في الجانب المسيحيّ، الذي لجأ إليها في سبيل إعطاء مسحة فلسفيّة لبعض المقولات الدينيّة، ففي القرن التاسع استخدم حبيب بن خدمة أبي رائطة التكريتيّ [مسيحيّ] الوسائل الجدليّة والبراهين المنطقيّة المعروفة عند فلاسفة اليونان مكيّفًا إيّاها مع متطلِّبات علم الكلام في عصره، فكانت له مساهمات في بحث قضيّة التوحيد والثليث[67]، وكأنَّهم كانوا يريدون أن يوجدوا عنصر تفاضل بعدما بلغت النزعة الكلاميّة موقعًا متقدِّمًا، وهم يريدون من خلال الفلسفة أن يزدروا تلك النزعة عبر العمل على قطاع تمرّسوا به.
4- الحروب الصليبية
قبل الدخول في الحروب الصليبية لا بدّ من التوقف عند شخصية شارلمان، الذي باشر الحروب الدينية ضد المسلمين من أجل إخراج المسلمين من أوروبا، وهذه الحروب حفَّزت الشعراء على التغني بها في الملحمة التاريخية “أنشودة رولان”؛ والتي يصور فيها الشاعر التضحيات التي قدمها شارلمان من أجل تحقيق المثل العليا: الدين والقتال. وفي خضم هذا الأمر يبدأ بتقديم رؤية مشوهة عن الإسلام تصوره كديانة هرطوقية إباحية، وهكذا يدخل الكره الأوروبي اتجاه المسلمين الأدب الشعبي ليعبّر عن مكمون في النفس الأروربية، يسعى إلى استرداد كل ما فتحه العرب، وهو ما تعكسه خاتمة أنشودة رولان من سقوط مدينة سرقسطة الأندلسية وهزيمته للمسلمين هناك.
وهذه الرؤية التي أطلقتها العقلية الأوروبية، تمظهرت من خلال تدفق العنف الأوروبي إلى الشرق، وشكّلت الحروب الصليبية نقطة الذروة، حيث مثّلت القطيعة مع الآخر عنوان المرحلة، فانطلق الأوروبيون من ما أشاعه بعض المسيحيون المشرقيون من صورة سلبية للإسلام، ويقول جورافسكي: “وإذا كنا نتفق على واقعة أن التصورات الأوروبية للإسلام تشكلت ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد، فإننا يجب أن نشير إلى حقيقة أن هذه التصورات تكونت في كثير من جانبها وخطوطها الكبرى على خلفية التفسير المسيحي الشرقي للعقيدة الإسلامية”[68]. الارتكاز لشن الحملات الصليبية، يقول البابا أوربانوس: “يا شعب الفرنجة! شعب الله المحبوب المختار!… لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطنية، أنباء محزنة تعلن أن جنسًا لعينًا أبعد ما يكون عن الل..، قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين، وخربها بما نشره فيها من أعمال السلب وبالحرائق؛ ولقد ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع التعذيب. وهم يهدمون المذابح في الكنائس، بعد أن يدنسوها برجسهم، … فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا، الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت”[69]، بالإضافة إلى ما أثارته عقلية الشعراء من ملاحم شوهت النظرة الأوروبية إلى المسلمين.
وهذه الدعوة وإن كانت تحمل في طياتها أمر تعبوي يهدف إلى إثارة حماس المسيحي للدخول إلى المعركة ضد المسلمين، ولكنَّها ما كانت لتجد صدى لها، لو لم تكن قد عُزّزت بصورة نمطية عن الإسلام ونبيّه تظهره كديانة وثنية. فالإسلام بالنسبة لهم كان حركة شيطانية. يقول راهب دومينياكاني معاصر لدانتي، زار بغداد وعاد إلى أوروبا بحكاية خرافية تقول: “بما أنه لم تكن للشيطان قدرات ذاتية كافية لوقف انتشار المسيحية في الشرق اخترع كتابًا، يمثل حلقة وسطى بين العهدين القديم والجديد، واستخدم لأجل هذه الغاية الشريرة وسيطًا من طبيعة الشيطان ذاته. أما الكتاب فهو القرآن، بينما الوسيط هو النبي…الذي يجسد دور المسيح الدجال”[70].
فالمسيحية الغربية لم تكن رحيمة مع الإسلام، فهي اعتبرته عدوها الأول، وهذا الأمر لم تستأثر به كنيسة دون أخرى، فحتى الكنائس الإصلاحية حملت بذور هذه الرؤية، وهذا ما يعكسه رأي اللاهوتيون الذين اعتبروا: “أن الإسلام ينبغي أن يواجه عسكريًّا، ولا جدوى من محاولة إنقاذ أرواح الهالكين من أتباعه عن طريق التبشير”[71].
ويلاحظ الباحث في موضوع الحوار الإسلامي المسيحي أثناء الحروب الصليبية الأمور التالية:
1- الإسلام هرطقة مسيحية.
2- النبي والمسيحية.
3- الإسلام ديانة عنف.
4- الإسلام دين شهواني.
يذكر أخيرًا، أن الحروب الصليبية، تركت أثرًا على الكنيسة، فدفعته للتفكر بطبيعة الإسلام، وهذا ما دفع ثلاثة من كبار اللاهوتيين الغربيين من موقع اليأس من ضرب الإسلام عسكريًّا على التفكير في طريقة سلمية لاستيعاب المدّ الإسلامي. وكان أول هؤلاء يوحنا السيجوفي، الذي جاهد طويلًا لترجمة القرآن الكريم ثانية عام 1455م إلى اللاتينية، تمهيدًا لعقد مؤتمر إسلامي مسيحي شامل يدعو فيه اللاهوتيين الكاثوليك الذين عرفوا الإسلام جيدًا لاعتناق الدين الصحيح، أي الكاثوليكية. وكان ثاني هؤلاء نيقولاس فون كيس، الذي استجاب لنداء يوحنا صديقه، فكتب مؤلّفًا ضخمًا درس فيه النص القرآني دراسة داخلية مفصلة، إرشادًا للكهنة المسيحيين في جدلهم مع المسلمين. أما ثالثهم إينياس سلفيوس، الذي صار بابا بعد ذلك باسم بيوس الثاني، فقد استجاب لنداء يوحنا أيضًا بإرسال رسالة بشوشة إلى السلطان محمد الفاتح يدعوه فيها إلى اعتناق المسيحية مقابل السيادة على العالم[72].
قد يوحي الكلام السابق أن الإسلام والمسيحية لم تعرف نقطة التقاء وكأن الأمر عبارة عن حرب دائمة بين منظومين من عوالم مختلفة، فهناك العديد من المواقف التي تتّسم ببعض المرونة، وأبرزها ما جاء عن أصحاب النزعة الروحية في الطرفين، فهناك موقف فبيار أبيلار( 1078-1142) رفض في مؤلفه “اللاهوت المسيحي” أن يكون المسيحي وحده مهيأ للخلاص، ووصف هذا الاعتقاد بأنه مناف للعقل، فالله عنده يحب جميع البشر”[73]، وأرسل البطريرك فوتيوس رسالة إلى الخليفة المقتدر يحدثه عن كيفية التقاء الخصال الحسنة بين الناس، يقول: “إنّ الثبات في العقل والسلوك والإنسانية وغيرها من الخصال التي تزيّن الطبيعة البشرية تثير عند الذين يحبون الخير حبًّا نحو الذين لهم الخصال نفسها، رغم الاختلاف في الإيمان بينهم”[74]. وهذه المقاربة نجدها عند غريغوريوس بالاماس، الذي وإن تناظر مع المسلمين في إحدى رسائله الرعائية، حرص على إبقاء الباب مفتوحًا أمام التلاقي وذلك من خلال إبرازه الوجه الإيجابي لما يقول الإسلام عن المسيح والمسيحية. كما نجد عنده إشارات إلى منزلة الإسلام في المقاصد الإلهية من حيث تأكيده على الوحدانية ضد الوثنية وعلى نحو يفوق ما جاء في الحكمة اليونانية[75].
كما أن البابا غريغوريوس السابع (1073-1142)، عزّز العلاقة بينه وبين ملك موريتانيا، ووجّه إليه رسالة يقول فيها: “يجب علينا نحن وأنتم أن نعطي للأمم الأخرى مثالًا على محبة الله، لأننا نؤمن ونعترف بإله واحد ولو بطرق مختلفة، ونسبحه ونعبده كل يوم كخالق الأزمنة كلها وسيد هذا العالم”[76].
5– سقوط القسطنطينة والمسيحية المشرقية
أحدث سقوط القسطنطنية والحروب الصليبية هزة عنيفة في المسيحية المشرقية، مما دفعها إلى تكوين هويتها الخاصة المندمجة بمجتمعاتها، ففي السنة التي سقطت فيه، كتب جورج التريبيزوندي إلى السلطان محمد الثاني يقترح عليه أن يدعو إلى مجمع إسلامي- مسيحي يشترك فيه أهل الشرق كلّه، ويهدف بالنهاية إلى وحدة الجنس البشري تحت راية إيمان واحد. وتتأسس هذه الدعوة على أن الله أعطى القسطنطينية للسلطان الشاب لكي يحقق هذه الرسالة النبيلة. وأما السبيل إليها فهو إنشاء إمبراطورية شرقية عظيمة حيث القوة الفتية للشعب التركي “تطعم” الشجرة ذات الجذور العميقة أي الحضارة البيزنطية المسيحية[77].
والمسيحية المشرقية، عملت على البرهنة على أن المسلمين والمسيحيين على اتفاق في الأساسيّات، وأن الخلافات في معظمها ترد إلى عدم الانفتاح على الآخر، مع الحفاظ على المسيحية كجذر حضاري يستطيع أن يستوعب الإسلام، وهو ما يؤكد عليه جورج أميروتزاس.
وكلّما كانت تتعايش المسيحية المشرقية في بيئتها، كانت تذهب باتجاه تثبيت بعدها، وهذا الأمر جعلها تأخذ مواقف معادية للاتين والكنيسة الغربية.
الخاتمة
وهكذا، انتهت المرحلة الأولى من حوار الدهشة والغربة، فالمسيحي المندهش من واقعه كان عليه العيش في غربة الآخر والقبول به مرغمًا، وعبّر عن هواجسه وقلقه، واستحضر الآخر بصورة مريبة حولته إلى وحش يريد الانقضاض عليه، وهذا التصور نقله إلى خارج حدود الذات إلى الآخر، الذي استخدمه ليبرّر حروبه، التي أيقظت المسلم وأدهشته ونقلته إلى غربة السؤال ومنفى القلق.
6- الخروج إلى عصر النهضة
العالم كان يخطو خطوة كبيرة باتجاه تصفية السلطنة العثمانية في حين أن الاستعمار بدأ يتقدم ويحتل الأرض الإسلامية، وقف المسلم في تلك الفترة مشدوهًا، والغرب غازيًا متربصًّا، بالتالي فالحوار انطلق من اتجاهين مختلفين هذا المرة، غرب يتمدد باتجاه العالم الإسلامي، لم يعد من الممكن مخاطبة العقل الإسلامي بنفس الآليات الغربية القديمة.أ ومسلمون في حال دهشة واستغراب، لا يعرفون كيف يتصرفون إزاء هذا الواقع الجديد.
ومن هذه الخلفيات أخذت الحوارات تأخذ شكلًا آخر، البعض أخذ يتحدث عن إمكانية توحيد الديانات الإبراهيمية، ونتلمّس بوادر الحوار الإسلامي المسيحي منذ نهاية القرن التاسع عشر من خلال بعض التلميحات التي أشار إليها الأفغاني، ودعت إلى ضرورة إجراء حوار جدّي بين أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث من أجل توحيدها، ويقول الأفغاني: “لقد لاح لي بارق أمل كبير أن يتحد أهل الأديان الثلاثة، مثلما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها، وبهذا الاتحاد يكون البشر قد خطوا نحو السلام خطوة كبيرة”[78]. وقال: “إنّ الأديان الثلاثة الموسويّة والعيسوية والمحمدية على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية، وإذا نقص في الواحد شيء من أمور الخير المطلق استكمله الثاني، وعلى هذا لاح بارق أمل كبير أن يتحد أهل الأديان”[79]. وقد تأثر بفكره الشيخ محمد عبده، وعمل عليها أثناء وجوده منفيًّا في مدينة بيروت مع جماعة من الإيرانيين، الذين عرّفوه على القس إسحاق تيلور، الذي اعتبر في رسالة له: “إن تفسير الإمام يمهّد لي الطريق لإثبات الوحدة بين الديانتين، في وسط يلتقي فيه المؤمن بالقرآن مع المؤمن بالإنجيل”. ويذكر حول هذه الحقبة آراء شارل دي فوكو(1858-1916) التي دعت المسيحيين إلى تقديم ذواتهم من أجل إخوانهم المسلمين.
لكن هذا الحوار بين الديانتين تعرض لأزمة كبيرة مع دخول الحلفاء المباشر إلى العالم العربي، وما تردد من مواقف متعجرفة ألقاها قادة الجيوش الغازية، ففي عام 1917، عندما دخل الجنرال البريطاني اللنبي مدينة القدس بعد الحرب العالمية الأولى، أعلن بتبجح: “الآن انتهت الحروب الصليبية. وكان الجنرال غورو أشد غطرسة وتعصّبًا، عندما دخل مدينة دمشق بعد معركة ميسلون في عام 1920، إذ رفس ضريح صلاح الدين وهو يردد: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، وزاد من حدة التوتر وانقطاع أواصر الحوار بين الطرفين بعد الأحداث في بلاد الشام، حيث وقفت بعض المجموعات الدينية في مواجهة الحكومة العربية في دمشق، حيث عملت المجموعة المسيحية في لبنان على المطالبة باستقلال لبنان بدعم من الحكومة الفرنسية، وانتهت هذه المواقف بالحملة الفرنسية على الجنوب، التي أسفرت عن خسائر كبيرة أرهقت المجتمع الجنوبي، وسلخت منه بعض المناطق وأضيفت إلى فلسطين، كما أن بعض الجمعيات الفرنسية رفضت مقررات المؤتمر الفلسطيني الأول، الذي نادى بضرورة ضمّ فلسطين إلى سوريا باعتبارها الجزء الجنوبي من سوريا، وأرسلت إلى مؤتمر فرساي بضرورة إبقاء فلسطين مستقلة، ففلسطين للفلسطينين[80].
وهذه الفترة الاستعمارية، حفّزت في فرنسا رغبة بإعادة إحياء موضوع الحوار الإسلامي المسيحي، فنشطت الدعوات في هذا المجال، حيث قامت بإرسال ممثلين عنها سنة 1932 لمفاوضة رجال الأزهر في فكرة توحيد الأديان الثلاثة، أُعقب هذا المؤتمر بآخر سنة1933 حضره مستشرقون من فرنسا، وإنجلترا، وسويسرا، وأسبانيا، وبولونيا، وتركيا، وأمريكا. في عام 1935م انعقد مؤتمر “تاريخ الأديان الدولي” في بروكسل، وأوفد شيخ الأزهر محمد مصطـفى المــراغــي كلًّا مـن الأستاذين: مصطــفى عبد الرازق، وأمين الخولي، وهناك ألقى أمين الخولي دراسة تحت عنوان: “صلة الإسلام في إصلاح المسيحية”[81]، تبعه في عامي 1936 و1937م انعقاد (المؤتمر العالمي للأديان) في لندن وفي جامعة السوربون.
توقفت بعد ذلك المؤتمرات المخصصة للحوار، بسبب الأزمات التي شهدتها أوروبا، ولكن لا بدّ من الملاحظة، أن هذه الفترة عرفت غنى بالتنظيرات اللاهوتية الداعية إلى الحوار مع الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاص، وهنا نلاحظ لاهوت الأديان في ثلاثينات القرن العشرين، والذي عمل على تحديد معنى الدين انطلاقًا من المواصفات التالية: 1- وجود فكرة الألوهية. 2- وجود نظام لاهوتي وأخلاقي يقوم عليها. 3- وجود نظام للعبادات. 4- وجود مؤسسة دينية أو كنيسة تحرس المنظومة، وتدافع عنها. ولعبت أفكار “كارل بارت” دورًا مميزًا في نشأة لاهوت الأديان عبر موقفه الذي رأى أن الأديان جميعها تستحق الاهتمام، وهي جديرة بهذا، والحوار معها واجب إنجيلي.
كما أن هذه الفترة حملت التركيز على دور المرأة المسلمة، حيث عقد في مدينة قسنطينة بالجزائر المؤتمر الدولي للمرأة الأوروبية عام 1934م، ولم تكن المرأة الجزائرية أو العربية حاضرة في المؤتمر، لكن موضوعها لم يغب عن معدّي البرنامج حيث اقترحت النساء الأوروبيات أن يطلبن من الحكومة الفرنسية في الجزائر أن ترفع سن الزواج للفتاة الجزائرية، وأن يتم تقنين الشريعة الإسلامية، وأن يهتم بتعليم المرأة الجزائرية. وقررت مندوبة السويد البقاء في الجزائر مدة أطول للدعوة إلى السفور وإلى تعلم المرأة[82].
وفي الأربعينيات، وفي إطار تطوير النظرة اللاهوتية، ظهر في الكنيسة البروتستانتية تيار فكري، وسّع من مفهوم الخلاص المسيحي، وتحدث عن “المسيحي الغفل”، الذي ينتشر في ديانات عدة مثل اليهودية والإسلام والبوذية، من دون أن يعرف معتنقوها أنها كذلك، من هنا بدأ العمل على إنشاء تحالف دولي بين الديانات لمواجهة الشيوعية. وفي نفس الوقت عقد المستشرقون “مؤتمر المستشرقين الدولي الحادي والعشرون” في باريس في شهر يوليو( تموز) 1948م. ومن المحاور التي تناولها المؤتمر “الإسلاميات”، وقد ضمّت الدراسات القرآنية، والتاريخ، والآداب، والفلسفة، حيث ألقيت فيها محاضرات حول اللهجات، فكانت محاضرة المستشرق باسيه بعنوان: “تطور الدروس البربرية منذ مؤتمر بروكسل”. وقدم المستشرق الفرنسي برونو Brunot محاضرة بعنوان: “التعابير الفرنسية الدخيلة في اللهجات العربية”، وقدم المستشرق رو Roux محاضرة في المخطوطات البربرية بالحرف العربي في جنوبي-غرب مراكش.
وحاضر في هذا المحور كل من المستشرق يوسف شاخت حول تقييم جديد للأحاديث الإسلامية، وألقى شترن محاضرة بعنوان: “تفسير جديد لنصيّن من نصوص القرآن الكريم”. ومن المحاور الأخرى في هذا المؤتمر: علم الشؤون المصرية، والدروس السامية، وعلم الشؤون الآشورية والدروس الإيرانية، وعلم الشؤون الهندية. وقد أضيف محور جديد في هذا المؤتمر هو محور الشرق والغرب لبحث الموضوعات التي تدل على الصلة بين الشرق والغرب، وقد تركزت على القضايا النصرانية والتراث اليوناني في الشرق. وكان من توصيات المؤتمر إعادة النظر في دائرة المعارف الإسلامية، وإحداث شعبة خاصة بالشرق المسيحي في المؤتمر المقبل، وجعل اللغة العربية لغة ثالثة مع الفرنسية والإنجليزية في المؤتمر المقبل الذي سيعقد في استنبول بالإضافة إلى اللغة التركية[83].
ولكن يبقى أبرز خطوة جرت في الأربعينيات من القرن العشرين، هو موقف المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي لعب دورًا كبيرًا في إقناع المؤسسة الكاثوليكية بواجب الحوار مع المسلمين على أساس أنهم يمثلون مسلكًا روحيًّا متميزًا في إطار سلسلة الديانات الإبراهيمية، وقام ماسينيون بمشاركة الأب جورج قنواتي بتأسيس جمعية الإخاء الديني في الإسكندرية، وضمّت هذه الجمعية في عضويتها عدد من علماء الأزهر. ولقد تأثر الكثير من المرسلين الغربيين بأعمال ماسينيون، وانتشر تأثيره من القاهرة إلى بيروت، حيث قام الأب جورج قنواني (1994-1905) بتأسيس حلقة بحثية تحت عنوان: “الأيام الدومينيكية”، حيث عمل على تعريف الفكر الديني والفكر الفلسفي الإسلامي والمسيحي.
وقد حاول المستشرق لويس ماسينيون أن يفهم الإسلام من داخل تقاليده، وكان لنتائج أعماله تأثير كبير في الغرب، وهو قام بتطوير فكرتين الضيافة المقدسة والبدليّة ذات البعد الصوفي. والفكرة الأولى استلهمها من الوصيّة الإسلامية بالضيافة التي تفترض، بنظر ماسينيون، قبول كلّ إنسان وخدمته من دون السعي لتغييره. وإذ يشدد ماسينيون على تأصّل هذه الفضيلة في حياة المسيح، يجدُ فيها الأساس المتين للتعايش السلميّ بين مختلف الديانات، وجعلته أن يتكلم ضدَّ تهجير عرب فلسطين.
أمّا البدليّة، فتستند إلى اعتقاده بأنه يمكن للإنسان أن يكفّر عن خطايا الآخرين من طريق تقديم آلامه من أجلهم. ومن الجليّ أنّ هذه الفكرة يغذّيها عمل المسيح نفسه، الذي خلّص البشر من الخطيئة بواسطة آلامه على الصليب.
وآمن ماسينيون بقوّة التضرّع من أجل الآخرين، أي الصلاة من أجلهم، وقد شعر بهذه القوة من داخله، ولا سيّما عندما اهتدى إلى المسيحيّة.
انطلاقًا من هذه المقاربة، أراد ماسينيون أن يهديَ حياته كلها بدلًا عن المسلمين، لا لكي يهتدوا بالضرورة إلى المسيحية، بل لكيما تتحقّق مشيئة الله من خلالهم.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت تعود حيوية الحوار الإسلامي المسيحي، حيث أسس المير برجر جمعية الأصدقاء الأمريكيين،-ولكن ظروف نشأة هذه الجمعية التي رافقت الاحتلال الصهيوني لفلسطين، أدّى إلى إلقاء الكثير من الظلال حولها-، ومع ذلك عملت هذه الجمعية على إجراء حلقات من الحوار، الأول عقد في ضاحية بحمدون اللبنانية[84]، وبحث في موضوعات لها علاقة بالقيم الروحية للإسلام والمسيحية، وقدر الإنسان وكرامته، الصيغة الدينية والدنيوية في المجتمع والصيغة الجماعية والفردية في المجتمع، ما هي الطرق الكفيلة في الإسلام لنقل هذه القيم الروحية إلى الجيل الحديث؟ ما هي الطرق الكفيلة في المسيحية لنقل هذه القيم الروحية إلى الجيل الحديث؟ ما هي الوسائل التي يمكن للطرفين أن يتعاونا بموجبها لتحقيق هذا الهدف؟ فرفض السيد كاشف الغطاء والشيخ مصطفى السباعي، واعتبروها مشبوهة في توقيتها وفي الداعي إليها. وكأنها كانت تحمل بعدًا تبريريًّا لاحتلال فلسطين[85].
وقبل الانتقال إلى موضوع آخر، يلاحظ أن الاهتمام بالإسلام في تلك الفترة قد وصل إلى ذروته، حيث تأسس معهد الشرق الأوسط في واشنطن عام 1947م ليكون مؤسسة للبحث العلمي حول الشرق الأوسط بهدف تقديم وجهات نظر متوازنة حول قضايا الشرق الأوسط، وهو مؤسسة خاصة لا تتبع لحكومة الولايات المتحدة وإن كانت تحاول أن تقدم وجهات نظرها للحكومة الأمريكية للمساعدة في وضع سياساتها حول المنطقة. ويعقد المعهد مؤتمرًا سنويًّا يتناول فيه مختلف القضايا. وفيما يأتي نماذج من هذه المؤتمرات السنوية:
1-المؤتمر السنوي لعام 1951 بعنوان: (الإسلام في العالم الحديث)، 9-10مارس 1951م)، وقد شارك فيه عدد من كبار المستشرقين، ومن هؤلاء بايرد دودج، وفيليب حتّي، وولفرد كانتول سميت Wilfred Cantwell Smith، وفيليب أيرلاند Philip W. Ireland وغيرهم[86].
وفي الفترة نفسها من العام 1953، ظهرت آراء هوبن عام 1953، والتي اعتبرت العالم الإسلامي يعبر فترة حرجة جدًّا من تاريخه. ولكن خلافًا للأوساط التي ركزت على البُعد السياسي في تلك الأزمة، يعتبر هوبن أنّ جوهرها دينيّ، نظرًا إلى طبيعة الإسلام الذي ولّد نظامًا فكريًّا تقليديًّا هو في الوقت عينه ديني وسياسيّ. أو بكلام آخر، تتصل الأزمة اتصالًا عضويًّا بالربط بين الدين والدولة في الإسلام، وبالتيوقراطيّة التي نتجت من هذا الربط، والمقصود بالتيوقراطيّة أشكال الحكم ذات الصفة الإلهية التي اتسمت بالاستبداد السياسي والديني على السواء. ولا يجد هوبن مخرجًا لتلك الحالة إلّا الديمقراطية بمفهومها الغربي.
وهنا طرح هوبن ضرورة إجراء تغييرات جذرية على العقيدة الإسلامية، وهذا الأمر لن يتم إلا من خلال دفع المجتمع الإسلامي عبر ممثليه أو عبر المفكرين إلى إدخال قيم مسيحية على العقيدة الإسلامية، بغية إنتاج نهضة إسلامية، تنطلق من أسس جديدة تزرعها المسيحية في الإسلام.
والخطوة الأولى للوصول إلى هذا الحل الاندماجي الأولي، هو تغيير أسس التعليم في المدارس الإسلامية، وهنا تقع المسؤولية على المؤسسات التعليمية الكاثوليكية، لكي تبدأ العمل على هذا الصعيد، وهو الأمر الذي يبث القيم من جهة، ويعمق الفهم الكاثوليكي بالإسلام من جهة أخرى.
أفي سنة 1956 انطلقت حركة ثقافية كاثوليكية في بيروت بتأثير من لويس غارديه، عرفت باسم الاتحاد الكاثوليكي لمثقفي لبنان، توجت أعمالها بعقد حلقة دراسية تحت عنوان: “الثقافة والثقافات” في الفترة الممتدة من1-7 نيسان، وشارك فيه أوليفييه لاكومب، فيليب نبعة، والبطريرك المعوشي، وبعد هذه الفاعليات التي قامت بها مؤسسات خاصة، بدأت مرحلة جديدة من الحوار، ساهمت فيها مؤسسات رسمية.
وفي نفس هذا الإطار، ظهرت في عام 1956 أفكار الفرنسي أندريه دالفرني، حيث حدد الإسلام في إيمان الكنيسة الكاثوليكية، واعتبر دالفرني أن الكنيسة لا تنظر إلا إلى المسيحية كديانة حق معترف بها، ومن غير الممكن أن تشاركها بقية الديانات بهذا الحيّز، وكل ما نستطيع أن نقول عنها إنها ديانات طبيعية فحسب، أي من عمل الإنسان، وهي تؤشر إلى نزوع الإنسان نحو القداسة، أكثر من تعبيرها عن الديانة الحقة، بمعنى آخر هي انعكاس لميله الداخليّ ليعترف بوجود قوى سامية. والإسلام هو من هذه الديانات الطبيعية لا طابع إلهي له. وهو لا يفترق عن الديانات الوضعية الأخرى كالبوذية والهندوسية واليونانية القديمة.
أما النظريات التي تشي عن نزعة متعمّقة كالوحدانية، والحياة الأبدية، والخلق، والملائكة، وتاريخ الخلاص، فهي تظهر العبقرية الإنسانية التي صاغتها، والتي تستحق الإعجاب، ولكن الكنيسة لا تستطيع أن تنطلق منها لتعتبر الإسلام ديانة منزلة، فهو في الكثير من المواضع يخالف الكتاب المقدس، كما أنه ينكر التجسد والخلاص والثالوث الأقدس. ويلاحظ أنه في تلك الفترة من خمسينيات القرن العشرين كان التركيز الفكري، يذهب بشكل كبير باتجاه إظهار تخلف الشخصية الإسلامية، وضرورة إعادة صياغتها لتصبح أكثر قربًا من الشخصية المسيحية والغربية.
وبمناسبة سقوط القسطنطينية 29-30 مايو 1953م عقدت ندوة في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بالتعاون مع السفارة اليونانية لإحياء ذكرى مرور خمسمئة سنة على سقوط القسطنطينية. وقد قدّم برنارد لويس أستاذ التاريخ الإسلامي بالمدرسة بحثًا بعنوان: “القسطنطينية والعرب”، تحدث فيه عن المحاولات المتكررة من الخلفاء المسلمين لفتح المدينة، وأورد عددًا من الأحاديث التي تذكر أن المسلمين سيفتحون المدينة. ولكنه اختار هذه الأحاديث من كتاب كنز العمال دون الإشارة إلى درجة هذه الأحاديث من الصحة والضعف، الأمر الذي اتخذه لويس وسيلة للاستهزاء بهذه الأحاديث وبالحديث عمومًا.
وعقدت مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية مؤتمرًا حول كتابة التاريخ الإسلامي عام 1957 بإشراف برنارد لويس، الذي كان يرأس قسم التاريخ بالمدرسة في ذلك الحين. وقد دعي لحضور المؤتمر عدد كبير من الباحثين من أنحاء العالم الإسلامي. ومن هؤلاء بعض الذين درسوا في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية مثل: كمال صليبي، وعبد العزيز الدوري، وجمال الشيال. وشارك في المؤتمر كل من حلمي أحمد من جامعة القاهرة، وكوران من جامعة اسطنبول، وأحمد الشيال من جامعة القاهرة.
واستمرت النقاشات حول الإسلام في الأوساط الثقافية المسيحية، حيث أصدر طومس أوم في العام 1961 كتابًا عن المسلمين والكاثوليك، بغية تكوين موقف كاثوليكي جديد إزاء الإسلام. يشير أوم بكلّ صراحة إلى أنّ غالبية الكاثوليك، منذ القرن السابع عشر حتى القرن العشرين، كانوا ينظرون إلى الإسلام نظرة عداء وخصومة، بل عدّوه العدوّ المميت والخصم الأخطر في الإطلاق، ومنهم من كان يفكر في معارك، بل وفي تنظيم حملات صليبية ضد المسلمين. ويُشير الأب أوم إلى أنه حتى في زمانه هنالك من الكاثوليك من يعتبرون أنّ المسيحية والإسلام دينان ينفي أحدهما الآخر، كما أنّ النور ينفي الظلمة، والخير ينفي الشرّ.
ثم يلاحظ أنّه منذ بداية القرن العشرين حتّى مطلع الستّينيّات، برزت شخصيّات مسيحية رائدة ومجموعات ومبادرات سعت كلّها ولا تزال تسعى لتؤثّر في الرأي الكاثوليكي الشائع اتجاه الإسلام، ممهّدة لفهم موضوعيّ لتلك الديانة.
وفي هذا السياق يحرص أوم، الذي يكتب إلى المسيحيين، على عدم المساومة على حقائق الإيمان المسيحيّ، فيشدّد على أنّ الطريق إلى الله هو يسوع المسيح كما جاء في إنجيل القدّيس يوحنا: “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”[87]. فالديانة التامّة والحقيقة، بحسب أوم، هي المسيحية. أما الإسلام فليس ديانة التي علمها الله وأوحاها وأمر بها. لذا، فثمّة واجب على المسيحيّين اتجاه المسلمين، وهو أن يعلنوا لهم البشرى. ولكن، مع هذا كلّه، لا يعتبر أوم بأنّ المسلمين مقصون عن الخلاص، كما يرفض رأيَ من يرى في عقائد الإسلام وأحكامه وعبادته وتقاليده أمورًا مضلَّلة. بل هو يرى في الإسلام ديانة صادقة وإن كان لا يساوم على المسيحيّة بصفتها الديانة الكاملة.
وفي هذه الصدد يعترف أوم بالتحدّيات التي يمثلها الإسلام للإيمان المسيحيّ في ما يخصّ تاريخ الخلاص. إضافة إلى ذلك، فإن الإسلام يمثل نداءً إلى المسيحيين ليقوموا بفحص ضمير لجهة ما ألحقوه بالمسلمين من سوء. لذا، فالإسلام مناسبة ليبرز المسيحيّون في حياتهم جوهر إيمانهم، ألا وهو عبادة الله بالروح والحقّ. وبالتالي، فالروح التي يجب أن يتحلّى بها المسيحيون اتجاه المسلمين ليست روح العداوة والتنافر، بل روح الصداقة والإخاء والتفهّم والتعاون[88].
الفاتيكان والحوار
في 28 تشرين الأول من العام 1958 انتخب يوحنا 23 بابا لروما، خلفًا للبابا بيوس الثاني عشر، فأعلن في 1959 عن عزمه على الدعوة لانعقاد مجمع فاتيكاني، وهو المجمع المسكوني 21 والثاني الذي عقد في الفاتيكان، وفي يوم الخميس 11تشرين الأول 1962 افتتح البابا الدورة الأولى للمجمع، وقد ركّز فيها على الحوار بين الديانات، وبالذات بين المسيحية واليهودية والإسلام، ودعا إلى تأطير جديد للمؤمنين يستوعب مشاركة فاعلة للعلمانيين وقضايا العصر… وقبل إعلان مقررات المجمع توفي البابا وانتخب البابا بولس السادس خلفًا له، فواصل أعمال السلف ولكن الإدارة التقليدية حاولت إعاقته لمنع تطور فكرة الحوار، فعمل البابا على كرادلة العالم الثالث في مواجهتهم، هكذا استمرت النقاشات حول القضايا المطروحة، واستطاع البابا أن يقلب ميزان القوى لصالحه – وهنا تجدر الملاحظة أن الأوساط المعارضة للبابا وللكردينال بيا، أصدرت كتابًا اتهمتهما بالصهيونية والماسونية.
ظهر بشكل جلي من خلال المجمع الفاتيكاني الثاني انتصار التيار التجديدي، الذي عمل على بلورة نظرته من خلال المجلس البابوبي للحوار، الذي أخذ ثلاث اتجاهات رئيسية:
الاتجاه الأول: علاقات دبلوماسية
وتقوم على مبدأ إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الإسلامية، ويتميّز هذا الحوار بالطابع الرسمي مع الجهات الحكومية، وهنا نلاحظ زيارة رسمية للأزهر عام 1968، وزيارة للمرجعية الدينية في النجف الأشرف 1972، وزيارة السعودية عام 1974، والمغرب 1985 بالإضافة إلى سوريا ولبنان والجزائر.
الاتجاه الثاني: علاقات بحثية مع مؤسسات رسمية
وهنا نجد ندوات مع جهات رسمية، وهي أخذت الشكل التالي: 1970 ندوة مع الأزهر في القاهرة تحت عنوان: “الإيمان والعدالة الاجتماعية والتربية الدينية”، عمل مشترك مع الأزهر في العام 1970، تحت عنوان: “اتحاد المؤمنين لمجابهة الإلحاد”. في أيلول 1974 ندوة مع رابطة العالم الإسلامي والجمعية الإسبانية للصداقة الإسلامية المسيحية ومجلس كنائس إسبانيا تحت عنوان: “أزمة الإيمان في العالم الحديث”. وفي آذار 1978 ندوة مع رابطة العالم الإسلامي والجمعية الإسبانية للصداقة الإسلامية المسيحية، ومجلس كنائس إسبانيا، بالإضافة إلى مكتب الإعلام في الجامعة العربية تحت عنوان: “التعريف بالإسلام بطريقة أفضل في كتب التعليم الديني”. 1993 ندوة مع رابطة العالم الإسلامي والجمعية الإسبانية للصداقة الإسلامية المسيحية، ومجلس كنائس إسبانيا بعنوان: “المسلمون والمسيحيون أمام مشكلات العالم المعاصر”. 1976 عقد مؤتمر في طرابلس الغرب شارك فيه الفاتيكان إلى جانب الجمعية العالمية للدعوة الإسلامية، شهد بعض النقاشات الحادة عندما طالب الليبيون من الجانب الفاتيكاني الاعتراف بنبوة محمد (ص)، وعلى الرغم من ذلك، فقد نتج عن هذا المؤتمر مؤتمرين، الأول مؤتمر التبشير والدعوة في روما عام 1990، والثاني مؤتمر التعايش والتسامح في مالطا عام 1993. دعا الفاتيكان في عام 1976 إلى لقاء أوروبي عقد في النمسا لبحث مشكلة اللاجئين المسلمين في أوروبا. عقد الفاتيكان ندوات متعددة مع مؤسسة أهل البيت في عمان، وهي بدأت في روما 1989 بمؤتمر حول التعليم الديني في المجتمع الحديث، ومؤتمر في عمان عام 1990حول حقوق الطفل في الإسلام والمسيحية، ومؤتمر روما 1992.
الاتجاه الثالث: الأنشطة المشتركة مع جامعات ومراكز أبحاث
1- جماعة الأبحاث الإسلامية- المسيحية رئيسها سعد غراب (عميد كلية الآداب-منوبة- تونس)، وأمينها العام روبير كسبار، وهي ولدت من لقاءات دينية صوفية في دير سنينكا-فرنسا بدءًا من صيف 1974، واتخذت المجموعة طابع الحلقة الدراسية الفكرية السنوية خلال فصل الصيف، حيث تشارك مجموعة من الخبراء والمختصين في الشأن الديني بمناقشة موضوع محدد وتستمر في نقاشه حتى الوصول إلى صياغات نهائية تنشرها علنًا[89].
2- اتفاق بين جامعة أنقرة وجامعة الفاتيكان، تلاه عقد عدد من المؤتمرات الإسلامية والمسيحية[90].
3- عقد اتفاق مع مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية[91].
4- المشاركة مع معهد فيلانوفا في عقد ندوة تحت عنوان: “الإسلام والشرق الأوسط (1985)”.
مجلس الكنائس العالمي
مجلس الكنائس العالمي عبارة عن مؤسسة تطورت من مؤسسات متعددة، كانت نقطة الانطلاق من مؤتمر أدنبرة 1910 الذي أعلن ولادة مجلس التبشير العالمي الذي عرضت فيه مشكلة غير المسيحيين في المجتمع الإسلامي، وكيفية التواصل معهم وتبشيرهم، وفي 1930 شكل مجلس التبشير لجنة خاصة برئاسة وليم هوكغ لبحث هذا الموضوع، فدعت اللجنة بعد دراسات قامت بها إلى مواصلة التبشير، على أن يقوم على جهد لفهم وتقدير تقاليد وتراث الأديان، كما أشار على أهمية التسامح من منطلق أخلاقي ولاهوتي.
وعقد بعد ذلك، مؤتمر تامبارام في الهند، وأعد هندريك كريمر التقرير الأساسي، الذي حمل عنوان: “الرسالة المسيحية في عالم غير مسيحي”، ودارت الفكرة الرئيسية فيه عن كيفية تعامل المسيحيين مع غير المسيحيين مع الإيمان بأن الخلاص لا يتم خارج الكنيسة، أيد المؤتمر ورقة كرايمر، ولكنه شهد خلافًا بين اتجاهين: الأول أطلق عليه اسم اشتمالي، والثاني حصري. وهكذا استمر تطور الفكرة. ومن خلال هذه الجمعية، ولدت النخبة التي رسمت وقادت عملية تشكيل مجلس الكنائس العالمي، من أمثال جون موط(1861-1955)، وجوزف أولدهام(1874-1969)، ووليام تامبل(1881-1944)؛ بمعنى آخر، اندفعت الحركة المسكونية في الغرب من ثلاثة اتجاهات متناغمة متكاملة:
- اتجاه وتيار الحركة الإرسالية العالمية ومجلس التبشير العالمي(مؤتمر أدنبرة 1910).
- اتجاه وتيار المسيحية العملية لتنظيم الحركة الاجتماعية (مؤتمر استوكهولم 1925).
- اتجاه وتيار الحوار اللاهوتي لتوحيد الكنيسة “إيمان ودستور”، (مؤتمر لوزان1927).
وهكذا ولد مجلس الكنائس العالمي 1948 من 147 كنيسة بروتستانتية وإنجليكانية. وفي عام 1961 انضمت الكنائس الأرثوذكسية إلى المجلس، وبقي الفاتيكان خارج المجلس على الرغم من مشاركته فيه كمراقب عام 1961، وعمل المجلس بعد ذلك على تفعيل إطار الحوار الديني، وأسس دائرة خاصة للتبشير والدراسات التبشيرية دعت إلى مؤتمر 1955 استمر أربعة أيام حضره قادة الكنائس، وكان بالون اختار لمسألة الحوار بين الأديان، ومن خلاله تبلورت الأمور التالية:
- وجود وعي متزايد بضرورة قيام دراسة أساسية حول علاقة المسيحية ببقية الأديان.
- الابتعاد عن الأطر التقليدية التي دارت في مؤتمر تامبارام، إلى مدايات جديدة، تكون مقبولة في مجتمعات إنسانية أصبحت أكثر انفتاحًا.
- مراعاة الثقافات والأمم والشعوب والعلاقات الدولية والتقاء الأديان، ومواكبة التنظيرات اللاهوتية المستحدثة، وما تتركه من تأثيرات كبيرة وخطيرة.
وهذه التنظيرات دفعت المجلس إلى تكوين مشروع دراسي حمل عنوان: “كلمة الله في الأديان الحية للبشر”، استمر من العام 1955، وحتى 1971، وأبرز الأعمال التي ظهرت في ذلك الحين كتاب كنيث كراغ “نداء المئذنة”؛ وهو دعوة إلى فهم الإسلام ومعتنقيه، هذا واحتوى برنامج الحلقة الدراسية النقاط التالية:
1-تنظيم مؤتمرات حوار على مستوى دولي.
2- تقديم دراسات ومواد وأدوات للعمل مع الكنائس الأخرى، ودفعها باتجاه فهم الآخر، وكيفية التعامل معه.
3- تسهيل التفكير والنظر اللاهوتي المسيحي حول القضايا التي تثيرها التعددية والتعايش[92].
وقد أقام المجلس عددًا من المؤتمرات والحوارات، لم تثمر وقائع حوارية، إنما أنتجت صراعًا لاهوتيًّا داخل البروتستانتية، فظهرت الاتجاهات اللاهوتية الثلاثة:
- اتجاه التيار الانحصاري: وهو الأكثر قوة وسيطرة، وهو الذي يرى المسيح الطريق الوحيد نحو الخلاص، وهم يرون أن الأديان ضالة وركيكة البنيان. ومهما كانت تحمل من النيات الطيبة والأخلاق الحميدة، لذلك على المسيحية وهي تقوم بفعل التبشير اتخاذ الحوار والاحترام والتسامح كوسائل في معركتها، أما الهدف الأساسي فهو التبشير، الذي لا يقبل المساومة.
- اتجاه التيار الاحتوائي الشمولي: وأبرز ممثليه آلان رايس، وهو إنكليكاني في جامعة كنت، وهذا الاتجاه يحاول أن يبحث عن مسيحيين مجهولين في بقية الديانات وخصوصًا في الإسلام. وهذا التوجه يلاقي الاتجاه العام للكاثوليكية كما عبّر عنها المجمع الفاتيكاني الثاني، والذي عبّر عنه كارل راهنر عندما اعتبر المسيحية فريدة ونهائية، ولكن هذا لا يعني أن أعضاءها وحدهم يستطيعون أو يستحقون الخلاص. إنها الطريق العادية نحو الخلاص، مع وجود طرق غير عادية ظاهرة في العالم وناجمة عن القوة الخلاصية ليسوع المبثوثة في التاريخ البشري.
- الاتجاه التعددي: وأبرز وجوه هذا التيار جون هيك، الذي دعا إلى نسف الفهم القديم للاهوت، واستبداله بفهم جديد يكون الله هو المحور بدل المسيح، وبنظره فهذه الثورة تماثل الثورة التي قام بها كوبرنيك، حين جعل الشمس هي المحور بدل الأرض.
ولعلّ أبرز ممثل عن هذا الاتجاه في الكاثوليكية هو اللاهوتي هانس كونغ، الذي طرح على المسيحيين ثلاثة أسئلة: هل الإسلام طريق للخلاص؟ هل محمد رسول من الله؟ هل القرآن وحي من الله؟
أجاب هو عن الأسئلة الثلاث: فاعتبر الإسلام طريق للخلاص على غرار الديانة المسيحية. واعتبر النبي محمد رسولًا من الله، لأنه تتطابق مواصفاته مع الأنبياء الأوائل: 1- سلطته ودعوته مستمدة من علاقة خاصة بالله. 2- شخصيته قوية ومؤثرة، ترى نفسها، تحمل رسالة إلهية وتستسلم لها. 3-تقوى وشغف بالحق، ودعوة ثورية تواجه الطواغيت والتقاليد. 4- بشير ونذير وصوت الله وداعية لله وليس لنفسه. 5- تمجيد الله وحده وعدم الشرك به. الرحمن الرحيم الحاكم الحكيم. 6- الطاعة المطلقة والاستسلام الكامل للإرادة الإلهية. 7-الدعوة التوحيدية إنسانية، تربط الإيمان بالله ويوم الحساب بطلب العدل. أما عن السؤال الثالث، فيجيب عليه انطلاقًا من الأسئلة السابقة، وباعتراف بأن التاريخ الإنساني لا يدع مجالًا للشك في حقيقة أن القرآن كان وما يزال كتابًا ملهَمًا وملهِمًا.
مجلس كنائس الشرق الأوسط
في عام 1932 نشأ مركز كنائس الشرق الأوسط، واقتصر على الكنائس البروتستانتية، تبعه تأليف حركة الشبيبة الأورثوذكسية لتلعب دورًا كبيرًا في الوعي المشرقي التي ما لبثت أن عملت مع شخصيات لاهوتية كالمطران جورج خضر، والأب كوستي البندلي، وضمّت بين أعضائها غبريال حبيب، وطارق متري، وجورج ناصيف، ونجاة نعيمي، وهذه المجموعة دفعت الشبيبة للإئتلاف بمجلس كنائس الشرق الأوسط في آخر أيار 1974، ومنذ تأسيسه اهتم المجلس بالحوار الإسلامي المسيحي، وهو ما انعكس في أول جمعية عمومية، كما في مؤتمرات برمانا 1977، ونيقوسيا 1980، وفي التنسيق مع الندوة اللبنانية ورئيسها ميشال الأسمر، وهذا ظهر من خلال المحاضرات التي ألقاها الإمام موسى الصدر، والشيخ صبحي الصالح، والأب يواكيم مبارك، والأب جورج خضر، والأب فرنسوا دوبريه لاتور، والسادة يوسف أبو حلقة، حسن صعب، ونصري سلهب. وساهم مجلس الكنائس بعدد من المؤتمرات منها: بيروت الندوة العالمية للمسيحيين من أجل فلسطين 7-10 أيار 1970، وكانت اللجنة تضم غبريال حبيب، سليم نصر، أوجين مخلوف، ماري روز بولس، نبيل عبود، وجان كوربون. ندوة برمانا في تموز 1972 تحت عنوان: الإيمان والعالم، (بالتعاون مع الندوة اللبنانية). مؤتمر في برمانا تحت عنوان: مستقبل العلاقات الإسلامية المسيحية من منظور الشهادة المسيحية 1975. ندوة برمانا الثانية 1977 التقنية ومصير الإنسان. مؤتمر أثينا باليونان 1978 روابط الأخوة والتعاون بين أبناء الدينين. ندوة بيروت الحوار وآفاقه وإمكاناته المستقبلية تشرين الثاني 1980، وفي هذا المؤتمر جرى طرح أسئلة حقيقية عن مستقبل الحوار بين الدياناتين. وفي حزيران 1984 قدمت ورقة عمل من كوادر مجلس كنائس الشرق الأوسط تحت عنوان: “نحو برنامج خاص بالإسلام والعلاقات الإسلامية المسيحية”، نتج عنه تشكيل فريق عمل استشاري يختص بتطوير ورقة العمل هذه، ويقوم بلقاءات وحلقات دراسية وندوات ومؤتمرات لتعميق رؤية المجلس ولموضوع الحوار. وفي عام 1985 عقد في قبرص لقاء تحت عنوان: الانتماء الديني والمواطنة. وفي عام 1987 عقد لقاء تحت عنوان: الدين في المجتمع. وفي عامي 1990-1992 أسهم المجلس في دفع الحوار اللبناني عبر تشكيل اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار، وعقد ملتقيات الحوار في قبرص. كما أسهم في تأسيس الملتقى العربي المشترك للحوار الإسلامي المسيحي.
المجموعة الأوروبية
أولًا: لم تتوقف الحوارات الإسلامية بين المجموعات الدينية فحسب، إنما تعدتها إلى الدول، حيث أخذت تتبلور منذ حرب تشرين 1973 نزعة أوروبية تدعو إلى الحوار الإسلامي المسيحي، ففي فرنسا أسس مؤتمر أساقفة فرنسا الكاثوليك في ذلك العام الأمانة العامة للعلاقات مع الإسلام، كما أسست الفدرالية الإنجيلية في فرنسا لجنة باسم: الكنيسة- الإسلام. وتتالت الجمعيات والمؤسسات حتى وصلت إلى أكثر من مئة مؤسسة تهتم بهذا الموضوع[93].
ثانيًا: في هولندا، أخذت تتطور فكرة الحوار بين الإسلام والمسيحية منذ 1973 ووصلت إلى ذروتها عام 1986، حيث أسست هيئة رسمية هولندية تضم 11 مندوبًا عن الكنائس المسيحية، و11 عن الجمعيات والمساجد الإسلامية، واهتمت هذه المؤسسة بعملية الحضور الإسلامي في تلك البلاد.
ثالثًا: في السويد والنروج والدانمارك، شكل موضوع الحوار مادة ملحة بعد قضية المرتد سلمان رشدي، وبحثت على أرضية سياسية ومحاولة استيعاب الأقلية الإسلامية في تلك البلاد.
رابعًا: في بريطانيا، وبحكم التركيبة الاجتماعية ووجود أقليات كبيرة لا سيما إسلامية، بدأ الحديث عن الحوار في فترة مبكرة نسبيًّا حيث أسس عام 1977 لجنة للحوار مع بقية الأديان، ونشرت هذه الهيئة عام 1981 خطوطًا عريضة أو توجهات للحوار والعلاقات مع الديانات الكبرى. وفي عام 1984 أسست الكنيسة الكاثوليكية في بريطانيا لجنة حوار خاصة بها، ونمت بعد ذلك الجمعيات حتى وصلت إلى 60 مركزًا، ومن أبرز المؤسسات التي اعتنت بهذا الجانب: مجلس مساجد المملكة المتحدة وإيرلندا. المركز الثقافي الإسلامي في لبنان. مجلس المساجد والأئمة. الرابطة العالمية لأهل البيت. معهد سللي أوك للحوار الإسلامي المسيحي[94].
وفي أوروبا، ساهمت مشكلة اللاجئين في تطوير الحوار الإسلامي المسيحي، ففي عام 1978 انعقد في سالزبورغ المؤتمر الاستشاري الأول لمجلس الكنائس الأوروبية، وهو امتداد لمؤتمر 1976 الذي دعا إليه الفاتيكان، وبحث موضوع المسلمين في أوروبا، وفي عام 1979 أسس المجلس الاستشاري هيئة استشارية حول الإسلام في أوروبا. انبثق عنه عام 1986 هيئة مشتركة بين الفدرالية الأوروبية للمؤتمرات الأسقفية الكاثوليكية ومجلس الكنائس الأوروبي، وذلك على أساس 10 أعضاء من الفدرالية، و14 عضوًا من المجلس مع وجود عضوين مراقبين من المجلس البابوي للحوار بين الأديان، وهذه الهيئة أصدرت عام 1991 تقريرًا بعنوان: الحضور الإسلامي في أوروبا والإعداد اللاهوتي للأساقفة والكهنة.
المؤسسات الأهلية الأوروبية
وانشغلت الأوساط العلمية الأوروبية الأهلية بموضوع الحوار، وأنشأت مؤسسات أهلية متعددة في سبيل هذه الغاية، منها: مؤسسة جوفاني سيتي (البندقية- إيطاليا)، التي أقامت مؤتمرًا تحت عنوان: “الإسلام والحضارة الغربية. مؤسسة أديناور (بون- ألمانيا)، وعني بالمؤتمرات، فأقام مؤتمرًا تحت عنوان: الدين والثقافة والحقوق السياسية عام 1981، ومؤتمر ياوندي الكاميرون تحت عنوان: التنمية والتعاون بين الشعب 1983. ومؤتمر مراكش حول التربية والقيم الدينية 1985. معهد روبرت شومان لأوروبا، وهو عقد مؤتمرًا حول حقوق الإنسان والأديان عام 1989. مؤسسة جوفاني أنيلي (تورينو في إيطاليا)، عقدت مؤتمرًا تحت عنوان: المسلمون الأوروبيون عام 1989. مركز الجبل العالي في (موفو-فرنسا)، وهو مؤسسة متخصصة بالحوار للناطقين بالفرنسية. مركز نادي باليرمو الثقافي المتوسطي (صقلية)[95]. مركز حوار الحضارات أسسه روجيه غارودي عام 1987؛ وهو يهتم بموضوع الإيمان الإبراهيمي. الحركة الإيطالية “شركة وتحرير” نظمت مؤتمر التقاليد الدينية والعصر الحالي أيلول 1987. مركز خدمة العلاقات الإسلامية المسيحية في ستراسبورغ نظم 1990 مؤتمر الحوار الديني في المجتمع الفرنسي. مركز الكلمة الثقافي (بروكسل- بلجيكا)، وهو يصدر نشرة منذ عام 1989. المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام، وعقد مؤتمرات متعددة منذ العام 1970.
المؤسسات الدينية
الجمعية الإسبانية للصداقة الإسلامية المسيحية، الكنيسة الإسبانية، وبلدية قرطبة. معهد الآداب والفنون العربية (تونس) وهو تابع للإرساليات الفرنسية في شمال أفريقيا (الآباء البيض الأفارقة)، وله نشاط ودور كبير بالتعاون مع الجامعة التونسية ومثقفين من المغرب والجزائر، وهو يعمل وسط المغاربة في أوروبا. المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية، وهو أبرز مؤسسات الحوار قاطبة. يصدر نشرة شهرية اسمها Encounter منذ 1974، ومجلة فصلية اسمها دراسات عربية منذ 1961 ومجلة سنوية Islamo Chritinana منذ 1975. معهد دراسة الأديان-جامعة إمستردام الحرة هولندا، وهي تصدر منذ العام 1976 نشرة بيبلوغرافيا توثيقية عن حوار الأديان وقضاياه. مركز الدراسات والتوثيق الإسلامي المسيحي في فرانكوفرت- ألمانيا وهو يصدر نشرة دورية منذ العام 1978. مجلس الكنائس البريطاني قسم الحوار بين الأديان (لندن)، يصدر مجلة فصلية منذ العام 1986. مركز التحقيق الإسباني- العربي، (مدريد-أسبانيا) يصدر نشرة شهرية منذ العام 1972. جماعة سانت أيجيديو وهي أبرز المجموعات الحوارية، وقد تأسست في روما عام 1985 باسم جمعية الإيمان والبشر، والتقت في أحد أحياء روما الشعبية في كنيسة سانت أيجيديو التي أصبحت مركزها، أطلت على الحوار منذ “يوم الصلاة من أجل السلام”، الذي دعا له البابا بولس السادس، وانعقد في مدينة آسيزي في تشرين الأول 1986، وحضره رجال دين من شتى الأديان في العالم، وهي تعقد سنويًّا مؤتمرًا للحوار الديني. معهد تولوز الكاثوليكي (تولوز – فرنسا)، وهو ينظم مؤتمرات للناطقين باللغة الفرنسية[96].
الحوار في الضفة الإسلامية
لم يشعر المسلمون بالحاجة الملحة التي شعر فيها المسيحيون في موضوع الحوار، لذلك، نراهم يركّزون على الواقع العملي، وإن كانت بعض التنظيرات التي تعاطت مع هذا الموضوع في نهاية القرن التاسع عشر، حاولت أن تعمل على إيجاد مساحة مشتركة إن لم نقل واحدة بين هاتين الديانتين، ولكن ظهور الديانات التلفيقية كالبابية والبهائية، نبهتهم إلى خطورة هذا الموقف، كما أن الحملات الاستعمارية ساهمت في الارتداد نحو العملي، للبحث عن نقاط التعايش بين الإسلام والمسيحية، فيعتبر حسن البنا في رسالته “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي” أن الأقلية غير المسلمة من أبناء الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدل والمساواة التامة في كل تعاليمه[الإسلام]… إن التاريخ الطويل العريض للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، يكفينا مؤونة الإفاضة والإسراف، ومن الجميل حقًّا أن نسجّل لهؤلاء المواطنين الكرام أنهم يقدّرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم”. فبالنسبة لهذا التيار لم تكن هناك مشكلة أقليات حقيقية في العالم الإسلامي، ففي بلد مثل مصر لم تظهر المشكلة المسيحية إلا عندما انسلخ الأقباط عن مبادىء الإسلام وأوامره وداروا في فلك المنصّرين، حيث حدث هناك شرخ في العلاقة بينهم وبين المسلمين، ولم يكن المنصّرون وحدهم وراء هذه الفتنة، بل كان معهم هؤلاء النفر من الأقباط الذين هجروا مصر وعاشوا في بلاد المهجر. ولقد جاء في كتاب “الأقباط عبر التاريخ” لسليم نجيب القبطي، الذي هاجر إلى كندا وأصبح رئيس الهيئة القبطية بها، أن البابا شنودة (بطريرك وبابا الكنيسة القبطية في 14 نوفبر 1971)، كتب مقالًا في مجلة “مدارس الأحد” في يناير 1952 أثناء الكفاح المسلح ضد الإنجليز في قناة السويس، ومنها أراد الإنجليز أن يحدثوا فتنة بين المسلمين والمسيحيين فأحرقوا كنيسة في السويس، ساعتها كتب البابا شنودة بالحرف الواحد “لعل العلم عرف الآن أن المسيحيين في مصر لا يمنعون من بناء الكنائس فحسب، بل تُحرق كنائسهم الموجودة أيضًا ولا يعرقل النظام معيشتهم من حيث التعيينات والتنقلات والترقيات والبعثات إنما أكثر من ذلك يحرقون في الشوارع أحيانًا”[97].
وكان البابا شنودة في ذلك الوقت اسمه (نظير جيد) رجلًا لم يدخل الدين بعد. وجاء في نفس الكتاب أنه في أيلول 1952 أقيمت جماعة “الأمة القبطية” برئاسة إبراهيم هلال المحامي، وكانت مطالب هذه الجماعة هي نفس مطالب “نظير جيد”، انحصرت مطالب تلك الجماعة في أن الأقباط يشكلون أمة ويطلبون ألا يُنصّ في الدستور على أن الإسلام دين الدولة وأن يكون نائب رئيس الجمهورية قبطيًّا، ويطلبون أن يكون الدستور وطنيًّا وليس دينيًّا مصريًّا وليس عربيًّا، وكان لهذه الجماعة علَمها وزيها الخاصان بها وكان العلم يمثل صليبًا منصوبًا في الإنجيل ومكتوب تحته “سـيأتي اليـوم”، وكـان شعارها “مصر كلها أرضنا التي سلبت منا إن أرضنا هي مصر ونحن سلالة الفراعنة وديانتنا المسيحية، وسيكون دستورنا هو الإنجيل ولغتنا هي القبطية”.
فالمشكل الأساس في كيفية تصرف المسيحيين المشرقيين، وفي تحولهم إلى أداة يتلاعب فيها الغرب لمصالحه الخاصة، والحل ليس في إيجاد البدائل إنما في إحياء المسيحية المشرقية المناضلة إلى جانب المسلمين في معاركهم ضد الذين يحاولون أن يستغلوا موضوع الأقليات لتحقيق مآربهم. ومع ذلك لم تعدم الضفة الإسلامية العديد من الفاعليات الحوارية. ومن هذه، المحاولات التي دعا إليها مسلمون[98].
الحوار والخلفيات
المراقب لماهية الحوار الإسلامي المسيحي يلاحظ أن نقطة البداية فيه لم تكن معرفية، فهو قد جاء في لحظات تاريخية محددة، ويمكن رصد النتائج التالية:
1- في أعقاب ظهور الإسلام في الجزيرة العربية ولقاء المسيحية بالإسلام، وهذه الفترة تتميز بعنف الجدال الديني فيها، ومحاولة إظهار خطأ الرؤية الدينية عند الآخر، وهي استمرت حتى بداية النهضة الأوروبية.
1- المبادرات الثانية جاءت في أعقاب المرحلة الاستعمارية عندما توصّل المسيحيون إلى قناعة بعقم سياسة التنصير المباشر للدين الإسلامي، وبالتالي كان لا بدّ من تغيير أسلوب العمل.
2- بعض هذه الحوارات ترافقت مع احتلال فلسطين من قبل اليهود، مما يوحي كأن الحوار هو عملية تسويقية، الهدف منها التغطية وإعادة الجسور مع العالم الإسلامي، ومحاولة رأب الصدع مع هذا العالم مقدمة لتطويعه فيما بعد عبر عمليات التسوية.
3- إن الحوار محاولة لزرع بعض القيم في نفسية المحاور المسلم أو هو محاولة لأسلمة الآخر، وبالتالي هو لا يخلو من العناصر التبشيرية غير المباشرة.
4- كان حاجة بالنسبة إلى الغربيين في مواجهة الكتلة الشرقية، من هنا كثيرًا ما طرحت الجبهة الدينية في مقابل الجبهة الملحدة، ولعلّ هذا الأمر، يصبح أوضح إذا نظرنا أن جدول ومؤشرات الحوار قد انخفضت في المرحلة التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي، حتى يمكن أن نلاحظ أن المجتمعات الإسلامية، هي الأكثر إثارة لهذا الموضوع في الوقت الراهن، وهذا ما نلمحه من خلال كثافة الدعوات للحوار في العالمين العربي والإسلامي، فدولة مثل قطر لا يوجد فيها مشكلة أقلية مسيحية عقدت منذ بداية هذا القرن حتى الآن سبع مؤتمرات للحوار، ودولة مثل السعودية دعت إلى مؤتمر عالمي للحوار.
5- إن الحوار نبع في جزء منه بسبب تواجد جاليات إسلامية كبيرة في أوروبا، مما يعني ضرورة فهم هذه الأقلية لإدماجها في مجتمعاتها الجديدة.
[1]قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ* قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ* قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾. سورة الأعراف، الآيات 11-18.
[2] قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. سورة البقرة، الآية 260.
[3] قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾. سورة طه، الآيتان 125و 126.
[4] قال تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾. سورة الكهف، الآية 34.
[5] راجع: محمد السماك، مقدِّمة إلى الحوار الإسلاميّ المسيحيّ (بيروت: دار النفائس، 1994)، الصفحات 73-74.
[6] راجع: ابن منظور، لسان العرب (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1984) مادّة “حار”.
[7] سورة الانشقاق، الآية 14.
[8] راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، صحّحه وأشرف عليه الشيخ حسين الأعلمي، (بيروت: دار الأعلمي، 1997)، الجزء 20، الصفحة 243.
[9] كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾. سورة الكهف، الآية 34. وقوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾. سورة الكهف، الآية 37. وقوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾. سورة المجادلة، الآية 1.
[10] قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾. سورة البقرة، الآية 256.
[11]قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. سورة فصّلت، الآية 34.
[12]قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾. سورة البقرة، الآية 251.
[13]قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. سورة الحجرات، الآية 13.
[14]قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾. سورة آل عمران، الآية 64.
[15] قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾. سورة البقرة، الآية 62.
[16] سورة الحج، الآية 8.
[17] أمين حلمي، الحوار في القرآن الكريم (المناظرة والجدل والمحادة)، (دار النهضة الإسلامية، الطبعة 1، 1997)، الصفحة 43.
[18] سورة لقمان، الآية 13.
[19] راجع سورة يوسف، الآية 39، إذ يقول تعالى على لسان يوسف: ﴿يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار﴾.
[20] سورة لقمان، الآية 15.
[21] سورة لقمان، الآية 18.
[22] سورة سبأ، الآية 24.
[23] سورة آل عمران، الآية 135.
[24] سورة الحجرات، الآية 6.
[25] سورة البقرة، الآية 111.
[26] راجع: ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، مادّة “جدل”.
[27] سورة الرعد، الآية 13.
[28] الطباطبائي، الميزان، مصدر سابق، الجزء 11، الصفحة 317.
[29] سورة الحج، الآية 8.
[30] الطباطبائي، الميزان، مصدر سابق، الجزء 16، الصفحة 229.
[31] سورة غافر، الآية 4.
[32] سورة هود، الآية 32.
[33] الطباطبائي، الميزان، مصدر سابق، الجزء 10، الصفحة 215.
[34] سورة البقرة، الآية 139.
[35] الطباطبائي، الميزان، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 313.
[36] المصدر نفسه، الجزء 7، الصفحة 366.
[37] غلاطيّون 6: 15.
[38] صبحي حموي، معجم الإيمان المسيحيّ (بيروت: دار المشرق 1994)، الصفحة 204.
[39] جوزف كميل جبارة، علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة، ضمن كتاب “واقع الحوار الإسلاميّ-المسيحيّ” (بيروت: دار المشرق)، الصفحة 36.
[40] راجع: جورج خضر، الدين والدنيا (البلمند: جامعة البلمند، 1996)، الصفحة 12.
[41] المصدر نفسه، ص13.
[42] Catéchisme de l´Eglise Catholiquem cite du Vatican, Mame- Plon, n 522.
[43] قولسي، 2:4.
[44] فريد غيث، فلسفة الدين كسبيل إلى الحوار المسيحي الإسلامي، رسالة أعدت لنيل شهادة دبلوم (بيروت: الجامعة اللبنانية)، الصفحة14.
[45] كورنثوس الأولى، 9: 19.
[46] كورنثوس الأولى، 9: 22-23.
[47] كورنثوس الأولى، 9: 21.
[48] فريد غيث، فلسفة الدين كسبيل إلى الحوار لمسيحي الإسلامي، مصدر سابق، الصفحة 20.
[49] أعمال الرسل، 15: 20.
[50] جورج طرابيشي، مصائر الفلسفة بين المسيحيّة والإسلام (بيروت: دار الساقي)، الصفحة55.
[51] جورج طرابيشي، مصائر الفلسفة بين المسيحيّة والإسلام، مصدر سابق، الصفحة 62.
[52] المصدر نفسه، الصفحتان 64 و65.
[53] جون لوريمر، تاريخ الكنيسة، (القاهرة، دار الثقافة، 1988)، الجزء3، الصفحة 129.
[54] فاروق حمادة، العلاقات الإسلاميّة النصرانيّة في العهد النبويّ (دمشق: دار القلم)، الصفحات 70-75. وجاء في وصيّة النبيّ (ص): “أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا”، أو قال: “اغزوا باسم الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك فادعهم إلى إحدى ثلاث فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم واكفف عنهم، ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم؛ ثمّ ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وإن دخلوا في الإسلام، فإن فعلوا فأخبرهم أنّ لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الإسلام، ولا يكون لهم من الفيء ولا في القسمة شيء، إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم فإن أبوا فاستعن عليهم بالله وقاتلهم”، المصدر نفسه، الصفحة 57.
[55] سورة المائدة، الآية 82.
[56] سورة المائدة، الآيتان 82و 83.
[57] فاروق حمادة، العلاقات الإسلامية النصرانية في العهد النبوي، مصدر سابق، الصفحة 119.
[58] راجع: جوزف كميل جبارة، علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، مصدر سابق، الصفحة 33.
[59] طارق منصور، المسلمون في الفكر المسيحيّ العصر الوسيط (القاهرة: مصر العربيّة للنشر والتوزيع، الطبعة 1، 2008)، الصفحة 81.
[60] صلاح أبو جودة اليسوعي، واقع الحوار الإسلامي المسيحيّ عشية المجمع الفاتيكاني الثاني (بيروت: دار المشرق)، الصفحة 33.
[61] المصدر نفسه، الصفحة 84.
[62] راجع: محمد عمارة، الرسائل التوحيديّة (القاهرة: دار الكتاب العربي، 1972)، الجزء 2.
[63] راجع: الجاحظ، الرسائل الكلاميّة، (بيروت: دار الهلال).
[64] أحمد بن أبو يعقوب بن جعفر اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ (بيروت، دون تاريخ)، الجزء 1.
[65] أبو ريحان البيروني، الآثار الباقية من القرون الخالية، تحقيق خليل عمران المنصور (بيروت، 2000).
[66] أبو حامد الغزالي، الرد الجميل لإلهيّة عيسى بصريح الإنجيل (بيروت: المكتبة العصرية، 1999).
[67] راجع: طارق متري، المسيحيّون الشرقيّون والإسلام، ضمن كتاب “النظرات المتبادلة بين المسيحيّين والمسلمين” (البلمند: جامعة البلمند، 1997)، الصفحة 89.
[68] ميخائي زابوروف، الصليبيون في الشرق، (موسكو، دار التقدم، 1986)، الصفحة 70.
[69] ميخائي زابوروف، الصليبيون في الشرق، مصدر سابق، الصفحتان 31و 32.
[70] أليكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحية، تعريب: خلف الجراد (الكويت، سلسلة عالم المعرفة، رقم 215، المجلس الوطني للثقافة والفنون، 1996)، الصفحة74.
[71] ريتشارد سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى (بيروت، معهد الإنماء العربي، 1984)، الصفحتان 16-17.
[72] طارق منصور، المسلمون في الفكر المسيحيّ العصر الوسيط (القاهرة: مصر العربيّة للنشر والتوزيع، الطبعة 1، 2008).
[73] لطفي الحداد، الإسلام بعيون مسيحية (بيروت، الدار العربية للعلوم، 2004)، الصفحة 108.
[74] طارق متري، المسيحيّون الشرقيّون والإسلام، مصدر سابق، الصفحة 93.
[75] المصدر نفسه، الصفحة 93.
[76] لطفي الحداد، الإسلام بعيون مسيحية، مصدر سابق، الصفحة109.
[77] طارق متري، المسيحيّون الشرقيّون والإسلام، مصدر سابق، الصفحة 97.
[78] جمال الدين الأفغاني، خاطرات الأفغاني، (بيروت: دار الحقيقة، 1972)، الصفحة 65.
[79] المصدر تفسه، المعطيات نفسها.
[80] عبد الوهاب الكيالي، موجز تاريخ فلسطين (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1978).
[81] أمين الخولي، صلة الإسلام بإصلاح المسيحية (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992). وفي الكلمة التي ألقاها، ركّز على الاتصال المادي بين الدينين، ثم انتقل إلى الاتصال الديني، ليخلص بعد ذلك إلى النتائج، مركّزًا على أثر الإسلام في الإصلاح البروتستانتي.
[82] مازن مطبقاني، المغرب العربي بين الاستعمار والاستشراق (جدّة: دار الريشة، 1409).
[83] فؤاد افرام البستاني، “مؤتمر المستشرقين الدولي الحادي والعشرون” في مجلّة المشرق، السنة الثانية والأربعون، تشرين أول – كانون الأول 1948، الصفحات 481-500. ويلاحظ أن المؤتمر اهتم بالشؤون البربرية؛ وهي من القضايا التي يوليها الاستشراق منذ القديم كل اهتمامه لما تسببه من إحداث الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة. فلا غرابة أن تُنشىء فرنسا معهد الدراسات البربرية في باريس، كما أن معظم المنادين بفصل البربر عن غيرهم إنما هم من المثقفين في فرنسا. كما يلاحظ أن هذه المؤتمرات تهتم أيضًا بالقوميات والحضارات التي سبقت بعثة الرسول (ص)، ومن ذلك الاهتمام بالفراعنة وبالآشوريين والكلدانيين والفينيقيين وغيرها من القوميات القديمة.
[84] راجع: محمد حسين كاشف الغطاء، المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون، تحقيق هاني فحص (بيروت: دار الغدير، دون تاريخ).
[85] ومع ذلك عقد المؤتمر، ودعي إلى مؤتمر آخر، عقد في الإسكندرية عام 1955، تحت عنوان: “لجنة العمل للتعاون الإسلامي المسيحي”، وصدر في ختامه بيان أكّد على القيم الروحية المشتركة بين الدينين ودورها في إقامة العدل وبناء سعادة الإنسان. وفي عام 1956 دعت اللجنة الدائمة إلى مؤتمر ثان يعقد في القدس غير أن الحكومة الأردنية رفضت الترخيص للاجتماع فنقل إلى بحمدون في الفترة بين 15 إلى 18 حزيران 1956، وحضره ثلاثون مندوبًا وقاطعه المسلمون نظرًا للأجواء السياسية التي كانت تهيمن على المنطقة، والملاحظ أن القوميين السوريين قد شاركوا في تلك الفترة بهذه الحوارات بسبب ارتباطهم بحلف بغداد، ومعارضتهم للناصرية والاتجاهات القومية العربية.
[86] Preface To Islam In The Modern World .Edited By Dorothea Seelye Franck , Washington: Middle East Institute, 1951.
[87] إنجيل يوحنّا: 14-6.
[88] نشرت أبحاث المؤتمر في كتاب أشرف على إعداده كل من لويس وب. إم هولت ونشرته جامعة أكسفورد. وقد تناول لويس في بحثه نقد المستشرقين في كتابتهم للتاريخ الإسلامي، ولعله أراد أن يوضح لهم القضايا التي ينبغي الاهتمام بها من هذا التاريخ كما أوضح لهم الأدوات اللازمة لدراسة التاريخ. وبالرغم من أنه قدم انتقادات جيدة للمناهج الاستشراقية إلّا أنه وقع في الأخطاء نفسها.
[89] من هذه الكتب: أ- تلك الكتب التي تستنطقنا: القرآن الإنجيل(1987). ب- العلمنة – الدين- الدولة (1989). ج- الإيمان والعدالة (1993). د- الخطيئة والمسؤولية الأخلاقية.
[90] من هذه المحاضرات: إيصال القيم إلى شباب القيم ( 1989). – الدين- الثقافة- التسامح ( 1990). – العلاقات الإسلامية- المسيحية (1991). – العدالة الاجتماعية (1929).
[91] من المحاورات التي جرت: الضمير الإسلامي والضمير المسيحي اتجاه مسائل التنمية (1974). ب- معاني الوحي والتنزيل ومستوياتهما (1979). ج- حقوق الإنسان (1982). د- الروحانية من متطلبات عصرنا (1986). ه- مساهمة الأديان في السلام (1991).
[92] أبرز المؤتمرات التي عقدت:
- مؤتمر برمانا الاستشاري 1966، الذي خرح بقرار تشجيع الحوار الإسلامي- المسيحي.
- مؤتمر كاندي سريلانكا 1967، المسيحيون في حوار مع أبناء الديانات الحية.
- مؤتمر جنيف 1969، الذي أرسى الخطوط العريضة للحوار بين الديانات ولا سيما الإسلام، وأوصى بإنشاء وحدة خاصة للحوار الإسلام المسيحي أطلق عليها تسمية “الوحدة الفرعية للحوار مع شعوب المعتقدات والأيديولوجيات الحية”، وقسم عملها على ثلاث مجالات:
- الهندوسية والبوذية.
- الإسلام والديانات التقليدية.
- اليهودية.
والملاحظ، أن المؤتمرات الثلاثة شكّلت نقطة بداية لانطلاق المؤتمرات الفعلية للحوار، وهي: كارتيني –جنيف سويسرا، آذار 1969: محاورات إسلامية مسيحية. عجلتون- لبنان آذار 1970: حوار بين شعوب المعتقدات الحية. برمانا- لبنان تموز 1972: بحثًا عن الفهم والتعاون، وهذان المؤتمران لاقيا معارضة عنيفة خاصة من قبل الإمام موسى الصدر والمفتي حسن خالد.كولومبو سريلانكا: نيسان 1974: نحو الجماعة العالمية. ليغون غانا، تموز 1974: وحدة الله وجماعة البشر. هونغ كونغ – كانون الثاني 1975: المسلمون والمسيحيون في المجتمع.
شامبيزي – سويسرا -حزيران 1976: الإيمان والدعوة. كارتيني-سويسرا- تشرين الأول 1976: الخطوات المقبلة للحوار. بيروت، لبنان تشرين الثاني1977: الإيمان، العلم، التكنولوجيا ومستقبل البشرية. شامبيزي- سويسرا – آذار 1979: المسلمون والمسيحيون يعيشون معًا. بوسي- سويسرا-حزيران 1980: العيش كمؤمنين في مجتمع متغيّر. كولومبو-سريلانكا آذار -نيسان 1982: القيم والسلوكيات في برامج التنمية.
بورتوه نوفو-بنين-آذار 1986: الدين والمسؤولية. بالي -إندونيسيا – كانون الأول 1986: التقدم معًا للقرن المقبل. كوليمباري- اليونان- أيلول 1987: الدين والمجتمع. نيووندسور -ماريلاند بأمريكا- آذار 1988: تحدي التعددية. مالطا- نيسان 1991: المهجرون واللاجئون: آفاق وعمل مشترك. جنيف- كانون الأول 1992: الدين والشريعة والمجتمع. جنيف، تموز1993. جنيف- تشرين الثاني 1994. مالطا أيلول 1995: حقوق الإنسان. طشقند: العيش المشترك.
[93] منها: 1- جمعية الإسلام والغرب. 2- جمعية الحوار الإسلامي المسيحي. 3- مجموعة الصداقة الإسلامية المسيحية. 3- الأخوة الإبراهيمية. 4- مجموعة الدراسات حول الإسلام في ستراسبورغ. 5- مجموعة الدراسات الإسلامية المسيحية. 6- الجمعية الفرنسية للحوار الإسلامي المسيحي وقد أسسها الأب ميشال لولون، وترأسها الدبلوماسي المصري عادل عامر، ثم علي السَّمان، وقامت بتنظيم عدد من المؤتمرات منها: أ- 1986 العلم والتقدم والدين. ب- العمل والتأمل بالمنظور الإسلامي.
[94] وهذا المركز أطلقته شركة الشوكولا كادبوري عندما تبنت بعض المخطوطات السريانية والعربية، التي أتى بها فأوسعت له مكانًا قرب مصانعها، فتتطور إلى أهم مركز للأبحاث الإسلامية المسيحية بعد أن تم التنسيق مع الكنائس البريطانية والأوروبية والمنظمات الإسلامية، وهو يصدر نشرة إخبارية بالإضافة إلى نشرة نصف شهرية عن الحوار الإسلامي المسيحي.
[95] 1984 الله- الإنسان- الطبيعة. 1985 الإنسان ومصيره. 1986 العلم والتقدم والدين. العمل والتأمّل بالمنظور الإسلامي.
[96] راجع: سعود المولى، الحوار الإسلامي المسيحي (بيروت: دار المنهل اللبناني، 1996).
[97] حوار مع الشيخ محمد عمارة أجراه رفعت هشام، مدونات مكتوب: همسة (الشبكة العنكبوتية).
[98] عقد 15 لقاء للحوار بين الإسلام والمسيحية والبوذية في العاصمة الأندونيسية جاكرتا من حزيران 72 حتى نيسان 75. في شباط 1976 انعقد بطرابلس الغرب المؤتمر العالمي للحوار بين الأديان. أسس إسماعيل الفاروقي مجموعة الدراسات الإسلامية في أكاديمية الأديان الأميركية وعمل على تحويلها في العام 1974 إلى المؤتمر الإسلامي اليهودي المسيحي، الذي تطور فيما بعد إلى مركز التفاهم الإسلامي المسيحي في جامعة جورجتاون بواشنطن، وهو من المعاهد التي تركز على أهمية الحوار بين الديانات الثلاث. أطلق الشيخ محمد مهدي شمس الدين اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي في لبنان، وكانت منطلقًا للجنة الوطنية للحوار. هيئة الحوار بين الأديان في السودان، وهي ولدت أثر انعقاد مؤتمرين عالميين كبيرين للحوار بدعوة من جمعية التنمية والسلام وجمعية الصدجاق الشعبية السودانية، وبمشاركة عدد كبير من المفكرين. فريق العمل العربي للحوار الإسلامي المسيحي. أكاديمية الملكية للحضارة الإسلامية- مؤسسة آل البيت الأردن ورئيسها هو الأمير حسن بن طلال وهي نظمت عددًا من الملتقيات منها: أ. لقاءان بالتعاون مع اللجنة المستقلة للعلاقات الإسلامية- المسيحية في وندسور (إنجلترا): 1. مفهوم المادية في الإسلام، إضافة إلى: العلمانية، والعدل، والقومية، وضرورة العمل المشترك لتعزيز روح التلاقي والمصالحة، وندسور/ المملكة المتحدة (15-18 تشرين الثاني /نوفمبر 1984م). 2. القضايا والقيم المشتركة في مجال الأسرة (مع العناية بالسنة الدولية للشباب)، عمّان/الأردن (28-30 أيلول/سبتمبر 1985م). ب. تسعة لقاءات بالتعاون مع المركز الأرثوذكسي في شامبيزي (سويسرا) على النحو التالي: 1. السلطة، شامبيزي/ سويسرا (17-19 تشرين الثاني /نوفمبر 1986م). 2. اشتمل اللقاء الثاني على ندوتين، الأولى النموذج التاريخي للتعايش الإسلامي- المسيحي وآفاقه المستقبلية، والثانية بعنوان: القيم الإنسانية المشتركة للمسلمين والمسيحيين، (عمّان/ الأردن 21-23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987م). 3. السلام والعدل، شامبيزي/ سويسرا (21-15 كانون الأول/ ديسمبر) 1988م). 4. التعددية الدينية، إسطنبول/ تركيا (10-14 أيلول /سبتمبر 1988م). 5. الشباب وقيم الاعتدال، عمّان (26-28 تموز/ يوليو 1993م). 6. التفاهم والتعاون من خلال التعليم، أثينا/اليونان (8-10 أيلول/سبتمبر1994م). 7. النظام التعليمي في الإسلام والمسيحية، عمّان/ الأردن (3-5حزيران /يونيو 1996م). 8. آفاق التعاون والمشاركة بين المسلمين والمسيحيين على أبواب القرن القادم، إسطنبول/ تركيا (3-5 حزيران / يونيو 1997م). 9. المسلمون والمسيحيون في المجتمع المعاصر: صور الآخر ومعنى المواطنة، عمّان/ الأردن (10-12 تشرين الثاني /نوفمبر 1998م). ج. ستة لقاءات بالتعاون مع المجلس البابوي للحوار بين الأديان في الفاتيكان: 1. التعليم الديني في المجتمع المعاصر (مع التركيز على المعاهد والجامعات)، روما/إيطاليا (6-8 كانون الأول/ ديسمبر 1989م). 2. حقوق الطفل وتربيته في الإسلام والمسيحية، عمّان/الأردن (13-15 كانون الأول/ ديسمبر 1990م). 3. المرأة في المجتمع، في الإسلام والمسيحية، روما/ إيطاليا (24-26 حزيران/ يونيو 1992م). 4. الدين والقوميات، عمّان /الأردن (18-20كانون الثاني /يناير 1994م). 5. الدين واستخدام موارد الأرض، روما/ إيطاليا (18-20 نيسان/ إبريل 1996م). 6. الكرامة الإنسانية، عمّان/الأردن (3-4 كانون الأول /ديسمبر 1997م). د. ثلاثة لقاءات بالتعاون مع اتحاد الكنائس الإنجيلية في هانوفر بألمانيا: 1. حقيقة معنى السلام في الإسلام والمسيحية، هانوفر/ ألمانيا (13-15 تشرين الثاني/نوفمبر 1995م). 2. الدين والعلمانية، عمّان/الأردن (7-9 نيسان/إبريل 1997م). 3. دور المسلمين والمسيحيين المشترك في بناء عالم متطور، برلين/ألمانيا (29/9-1/10/1999م).
المقالات المرتبطة
منهجية سيد قطب في قراءة الإسلام
شكّل الإسلام السياسي منذ سقوط السلطنة العثمانية، وإلى يومنا هذا، الشغل الشاغل للمهتمين بالواقع السياسي للعالمين العربي والإسلامي…
العلمانية والدين الحدود من وجهة النظر الغربية
العنوان المعطى لعرضي قصد به “حدود العلاقات بين العلمانية والدين” من المنظور الغربي. ومن خلال سياق هذه المناظرة سأركّز بشكل رئيسي على العلمانية من جهة، والإسلام من جهة أخرى.
الفكر العربي الحديث والمعاصر | الفلسفة الغدية عند الحبّابي قراءة نقدية
استعرضنا في الأوراق السابقة المراحل التي مرّت بها فلسفة الحبّابي، حيث رأينا أنّها تتألف من ثلاث مراحل، تبدأ الأولى مع