روسيا في الضمير الشعبي المصري

by الدكتور علي أبو الخير | سبتمبر 20, 2022 11:54 ص

للشعوب وعيها وفهمها وثقافتها، وعادة ما تحب الشعوب كما يحب الأفراد، من يقف ضد ظالم وينصف مظلومًا، بل تحب الشعوب المنتصر على أعدائها، هذا وقد قال الإمام علي (ع): “عدو عدوي صديقي”، وهو ما يمكن البداية منه عند الحديث حول حب الشعوب العربية للدولة الروسية.

فما أن اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، حتى شهدت الشعوب العربية والإسلامية عمومًا، تعاطفًا كبيرًا مع الجانب الروسي، ومع الرئيس “فلاديمير بوتين” على وجه الخصوص، نشهد ذلك من خلال المقالات المختلفة في الجرائد والمجلات والفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي.

مبررات التعاطف الشعبي

وهذا التعاطف له مبرراته، وسوف يعتبر العرب انتصار بوتين في أوكرانيا انتصارًا لهم، وسوف يجدون أنه من دواعي الفرح أن يروا رئيس أوكرانيا اليهودي المدعوم من الغرب، وهو صديق قوي لإسرائيل، يخسر أمام روسيا.

وهو تعاطف يقترب من الضمير وفي لاوعي الشعوب العربية، وهو ما نكتب عنه، خاصة التعاطف الشعبي المصري مع الاتحاد الروسي.

أما الجانب الرسمي فله استراتيجيات أخرى وأهداف ومصالح وعلاقات متعددة مع الجانب الروسي والجانب الأوروبي الأميركي، وهو ما نكتب عنه وفيه.

ومن ثمّ نكتب عن التعاطف الشعبي المصري مع الدولة الروسية، وهو التعاطف الذي يضعه صانع القرار في مصر في اعتباره عند اتخاذ قراراته.

المصريون يحبون روسيا والرئيس “فلاديمير بوتين”، مثلهم مثل باقي الشعوب العربية والإسلامية، ربما كرهًا في الصهيونية العنصرية والإمبريالية العالمية، ويتمنون النصر لروسيا في الحرب ضد الدولة الأوكرانية، ولهذا الحب الشعبي المصري والعربي أسبابه التاريخية والمعاصرة.

من ضمن تلك الأسباب أن روسيا القيصرية أو السوفياتية لم تستعمر الدول العربية، وليس لها ماض عدائي مع العرب، بعكس الدول الأوروبية، التي دخلت في صراع دامي في المنطقة العربية، تمثل في الحروب الصليبية التي دامت مئتي عام، ثم استعمرت دول أوروبا الدول الأخرى، واستنزفت مواردها ومقدراتها، بدأت باحتلال فرنسا لمصر عام 1798.

ثم انتشر الاستعمار كالسرطان ليحتل باقي الدول العربية وغيرها، ودام الاستعمار الأوروبي حتى ستينيات القرن العشرين، كما تم زرع الكيان الصهيوني في المنطقة العربية بالرعاية الاستعمارية المشهورة بسياسة “فرّق تسد”، وبالتالي لا يوجد سبب كبير للعداء بين روسيا والدول العربية، يمكن أن يبرر أي عداء معاصر، وما يقرّب أكثر مما يبعد.

والحالة المصرية لها خصوصيتها، فالكنيستان المصرية تتشابهان مع بعضهما البعض، فكلاهما كنيسة أرثوذكسية، التي تعني الصحيحة أو المستقيمة، توجد فروق لاهوتية بين الكنيستين، ولكنها ليست مثل الفروق بين المذاهب المسيحية المختلفة، وهو أمر لم يورط الروس في الدخول في حروب دينية في المناطق المقدسة في فلسطين، أو تورطت في استعمار الدول العربية.

وتشترك الدول العربية في روابط تاريخية مع روسيا، ولا يخفي الرئيس “بوتين” المكانة المتكاملة للإسلام في التاريخ الروسي، وقد شدد في كثير من الأحيان على الحاجة إلى تعزيز جودة المدارس الإسلامية في روسيا.

وعلى المستوى السياسي والعسكري، نجد الروس دعموا محاولة والي مصر علي بك الكبير (1728 – 1773) في الاستقلال عن الدولة العثمانية، وتوحيد مصر والشام والعراق والحجاز داخل كيان سياسي موحد، وهي نظرة سابقة على تجربة “محمد علي”، ولكن تم إجهاضها مبكرًا.

دخلت روسيا في حروب متعددة مع الدولة العثمانية، والأخيرة سعت دائمًا إلى توريط الولايات العربية في تلك الحروب، وفي الوقت الذي أصدر السلطان العثماني “عبد الحميد” فتوى تقول: إن أحمد عرابي الثائر المصري خارج عن الدين لأنه خرج على السلطان، لأن أحمد عرابي حارب الاستعمار البريطاني، وهو استعمار جاء بموافقة ضمنية من الباب العالي، وهو أمر استقر في الضمير الشعبي المصري، خاصة في السيرة الشعبية لأحمد عرابي، في العبارة الشعبية المصرية “يا رب يا متجلي اهلك العثماللي”؛ أي العثماني باللهجة المصرية.

الثقافة الروسية

قبل أن نسترسل في الحديث عن الدعم الروسي للمنطقة، نجد لزامًا علينا أن نعرف أن المستشرقين الروس لم يكنّوا عداءً كبيرًا للإسلام وللنبي الأعظم (ص)، مثلما فعل معظم مستشرقي الغرب الأوروبي.

ونجد من عظماء الأدب الروسي، ليو تولستوي (1828 – 1910)، وقد وصف النبي محمد (ص) في كتابه “حِكَم النبي محمد” قائلًا: “هو مؤسس دين، ونبي الإسلام الذي يدين به أكثر من مئتي مليون إنسان، قام بعمل عظيم بهدايته وثنيين قضوا حياتهم في الحروب وسفك الدماء، فأنار أبصارهم بنور الإيمان، وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله”.

وهو أمر حدا بالشيخ المصلح المجدد المصري “محمد عبده” بتبادل الرسائل معه، وأرسل له نسخًا مترجمة لكتابيه “رسالة التوحيد”، و”شرح نهج البلاغة”. وتأثر فيما يُعرف عن الزعيم البلشفي “لينين” بكتاب “نهج البلاغة” للإمام علي (ع).

هذا بالإضافة إلى الأدب الروسي الراقي الذي انحاز أغلبه للفقراء، مثل تولستوى، وأنطوان تشيكوف، ودستوفسكي وغيرهم كثيرون.

تم ترجمة كثيرٍ من كتبهم ورواياتهم للأدب العربي في مراحل مختلفة من التاريخ الحديث، مثل “الأم” لـ “غوغول”، و “الجريمة والعقاب” لـ “ديستوفسكي”، و “الحرب والسلام” لـ “تولستوي”، وغيرها من عيون الأدب الروسي.

وقد رثى الشاعر أحمد شوقي تولستوى في قصيدة قال في مطلعها:

تولُستويُ تُجري آيَةُ العِلمِ دَمعَها علَيكَ وَيَبكي بائِسٌ وَفَقيرُ
وَشَعبٌ ضَعيفُ الرُكنِ زالَ نَصيرُهُ وَما كُلُّ يَومٍ لِلضَعيفِ نَصيرُ

كما تأثر أحمد شوقي بالمنهج الاشتراكي، فقال في مدح الرسول (ص) في همزيته النبوية المشهورة (ولد الهدى)، التي غنتها “أم كلثوم”:

الاشتراكيون أنت إمامُهم لولا دعاوى الشك والغلواء

وقد انتقد كثيرون أمير الشعراء بسبب هذا البيت، وقالوا فيه نقدًا كثيرًا، ليس له مجال الآن، فقط نريد التأكيد على أن الروس ليس لهم ماضي عدائي ضد الإسلام ونبي الإسلام، وتأثر بهم بعض المثقفين من شعراء وأدباء.

أما الاحتلال الروسي والقيصري والبلشفي للدول الإسلامية الخمس المجاورة لها، فلها مجال آخر في الحديث عنه.

 

 

العلاقات المصرية الروسية

أما حول العلاقات المصرية الروسية، التي شفعت للروس حضورهم للمنطقة انطلاقًا من مصر، فقد بدأت منذ أربعينيات القرن العشرين، حيث تم تدشين العلاقات بين مصر والاتحاد السوفياتي عام 1943، وظلت علاقات باردة خلال العصر الملكي المصري، حتى قامت ثورة يوليو/تموز عام 1952، بقيادة الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر”.

فمع عبد الناصر تطورت العلاقات بشكل كبير ومتصاعد أزعج الغرب مبكرًا،  فقد تم توقيع اتفاقية الأسلحة التشيكية عام 1955، ضد رغبة بريطانيا وأميركا، ثم جاء موقف الاتحاد السوفياتي الداعم لمصر خلال العدوان الثلاثي عام 1956 وإنذاره المشهور ضد بريطانيا وفرنسا، وهو أمر تشكل في اللاوعي الجمعي المصري في حب الروس عمومًا، رغم انتقادات من بعض رجال الدين، حول نظرة الشعب المصري للروس باعتبارهم شيوعيين ملحدين كفار.

والحقيقة أن كثيرًا من إجراءات دعم الاتجاه القومي الناصري، كان دينيًّا في اتجاهاته، مثل تأسيس إذاعة القرآن الكريم، وتأسيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومجمع البحوث الإسلامية، ولكنه الهجوم السلفي الوهابي والرجعية العربية، التي أشاعت تلك الاتهامات ضد قوى المقاومة في وقتها، ومن تأثر بتلك الدعاية عاد واعترف بخطئه، ولا نذكر أسماء، بقدر ما نذكر مواقف واتجاهات فكرية شعبية ودينية وثقافية، وتلك الاتهامات لم تنل من حب المصريين لروسيا.

ومن إنجازات الاتحاد السوفياتي في مصر، مد الخطوط الكهربائية ما بين أسوان  جنوبًا – الإسكندرية، وتم إنجاز 97 مشروعًا صناعيًّا بمساهمة الاتحاد السوفياتي، وزودت القوات المسلحة المصرية منذ الخمسينيات بأسلحة سوفياتية.

والأكثر تأثيرًا هو بناء السد العالي جنوب أسوان، بعد أن اعتذر البنك الدولي عن تمويل السد، فكان قرار تأميم قناة السويس عام 1956، وهو ما حمى مصر من الفيضانات وحصة مصر من المياه، وهو ما يذكره له المصريون بالخير خلال أزمة بناء سد النهضة الإثيوبي الحالية، فرأى المصريون حكمة بناء السد العالي بإرادة مصرية، ودعم روسي، وهو أمر حمى أيضًا القرار المصري من عقبة تهديد السد الإثيوبي للمياه التي تصبّ في نهر النيل الخالد.

بالإضافة إلى بناء مصانع كبرى مثل الحديد والصلب، ومجمع الألمنيوم، ودعمه لمصر وسوريا السياسي والعسكري خلال الحروب مع العدو الصهيوني.

ولقد تأثرت العلاقات المصرية السوفياتية خلال عهد الرئيس أنور السادات، عندما انحاز للغرب، واعتبر أوراق القضية الفلسطينية في يد الولايات المتحدة الأميركية،  ثم كانت الحرب في أفغانستان 1979 فقد كانت حرب مخابرات عالمية ساهم فيها محور الاعتدال العربي الحديث وكانت من نتائجها انهيار الاتحاد السوفياتي.

وجاءت فتاوى رجال الدين تصب في خانة دعم الحرب.. ويحتاج الحديث عن تلك الحرب لمقال آخر..

في كل الأحوال عادت العلاقات بين مصر وروسيا ولكن ليس بقوة أيام الرئيس جمال عبد الناصر، وذلك منذ عام 1991، بعد أن ورثت روسيا الاتحاد السوفياتي.

ولروسيا دور مهم في دعم سوريا ضد الإرهاب العالمي متعدد الجنسيات، وكذلك دعمت روسيا مصر والعراق، وأيضًا ليبيا بحسابات مختلفة تصب في النهاية، في عدم وجود ما يمنع الاقتراب من الدب الروسي.

وفي مصر وخلال العشر سنوات الماضية، تم التقارب المصري الروسي، وبقوة هذه المرة، بدون اتهامات بالشيوعية الكافرة، كما قال عنها أحد كبار رجال الدين الراحلين، وذكر أنه صلى ركعتي شكر لله لأن العرب انهزموا من إسرائيل عام 1967، لأنهم كما زعم ارتموا في أحضان الشيوعية الملحدة، ثم تلاحقت الأحداث، عندما عاد المتأثرون بالدعاية والدعوة الأمريكية الصهيونية إلى جزء ولو قليل من ثقافة المقاومة، على الأقل على المستوى الفكري.

وحدثت بعض الإنجازات، مثل تدشين مفاعل “الضبعة النووي”، كما مولت روسيا مصر بالسلاح، وذلك في سعي الحكومة المصرية لتنويع مصادر السلاح، وهي محاولة دخلت لاوعي الشعب المصري، بأن بوتين ضد الصهيونية وضد الاستعمار العالمي، وهو ما أضاف إلى كاريزما “بوتين” داخل مصر والشعوب العربية الأخرى.

ثم جاء الصدام الروسي ضد الكيان الإسرائيلي، وتصاعدت الخلافات بينهما، بعد أن انضم الكيان إلى صف الإمبريالية العالمية في عداء علني ضد الدولة الروسية والرئيس بوتين، كل هذا أضاف للرصيد الشعبي لروسيا وبوتين على السواء.

لقد جاءت الحرب الروسية ضد أركان الرأسمالية العالمية لتنحاز الشعوب إلى الجانب الروسي، ويمكن إطلاق زعامة روسيا لحزب المتضررين العالمي من الغطرسة الأميركية والعنصرية الصهيونية…

Source URL: https://maarefhekmiya.org/15315/russiaandegypt/