by محمد محمود إبراهيم | سبتمبر 27, 2022 9:08 ص
يتركّز خطاب الثورة الحسينية في كربلاء حول مقولة أساسية: “إنى لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”. وتكشف لنا دلالة هذه الكلمات عن ضرورة التلازم بين الثورة كعملية اجتماعية تنشد التغيير، وبعض القيم التي تكون باعثًا على تغيير الواقع الاجتماعي السلبي، والذي تعمل فيه القيم السلبية الدخيلة، على تكوين حالة من الاغتراب الاجتماعي، تؤدي بالمجتمع إلى التخلّف والجمود، وتكون عائقًا أمام الإنسان لبلوغ كماله الروحي والمادي، ومن ثم لا يمكن فهم الثورات خارج منظومة القيم السائدة في المجتمع، سواء القيم االسماوية الأصيلة، أو القيم الأرضية السلبية الدخيلة.
لكن يبقى التساؤل المطروح: ما القيم السماوية التي أكّد عليها الإمام الحسين(ع) من خلال موقفه التاريخي في ثورة كربلاء؟ إن استقراء التاريخ الإسلامي يؤكّد على أن ثورة الإمام الحسين(ع) في كربلاء، قد أزاحت الستار عن القيم الدينية السماوية الأصيلة، التي تلاشت نتيجة ظهور عوامل متعددة ساعدت على طمسها، وكشفت عن عورات بعض القيم الأرضية الدخيلة في المجتمع الإسلامي، والتي انتشرت نتيجة ظروف معينة مرّت بها الأمة الإسلامية بعد وفاة النبي محمد(ص).
فمن أسوأ القيم الأرضية الدخيلة، شيوع الجبرية داخل المجتمع الإسلامي، حيث ترددت مقولات تؤكد على أن الإنسان ليس له الحرية والإرادة في اختيار أفعاله، وإنما هو مجبور في فعله، لأن الفاعل الحقيقي هو الله، ومن ثم يجب قبول الواقع بما هو عليه من توريث للسلطة وغياب للعدالة، ولهذا لا يجب تغيير الواقع السلبي أو الثورة عليه، فقد استخدمت السلطة هذه المقولات ذريعة لتثبيت نظام الحكم الوراثي المبتدع، ولتبرير أفعالها الشائنة ضد الطالبين بالحقوق والحرية والعدالة، ولذلك استعانت بفقهاء الظلام من رجال الدين المتعاونين معهم، في نشر هذا الفكر الجبري، ومن ثم توظيف الدين في خدمة السياسة، واستخدام السياسة في تشويه الدين، تولد عن ذلك “فكر مناقض للحقيقة وللواقع، بل ومناقضًا للدين ذاته، يهدف إلى تزييف وعي الجماهير وخداعهم اتجاه الواقع الاجتماعي المعاش” (1)، والنتيجة قبول كل الشرور الاجتماعية على أنها إلهية جبرية، وتنتزع من خلالها السلطة صك الشرعية الدينية والاجتماعية لوجودها وتضمن عدم الثورة عليها.
وإلى جانب الفكر الجبري، يمكن رصد العديد من القيم الأرضية الدخيلة مثل: العنف والإرهاب السلطوي بكل أنماطه المادية والمعنوية (2)، والتصفية الجسدية للمعارضين (3)، وممارسة الإكراه والتهديد لكل من يقف بجانب الحق والعدالة (4)، وممارسة الإقصاء والتهميش السياسي وعدم استشارة المسلمين في أمور الدولة (5)، والتفضيل والتمايز بين الأفراد والقبائل على أساس القرابة والقومية، مما أسّس لمبدأ عدم المساواة وبروز الفوارق الطبقية بين المسلمين، وإرساء مبدأ الصراع العنصري بين المسلمين العرب والمسلمين من القوميات الأخرى (6).
هذا بالإضافة إلى بعض القيم الأرضية السلبية، التي عملت السلطة على تقويتها ونشرها بين زعماء القبائل كالرشوة السياسية التي قدمتها السلطة إليهم، حيث أغدقت عليهم بالأموال الطائلة والوعود بمزيد من العطايا والإقطاعيات، من أجل ضمان ولائهم، وتثبيت حكمهم، ولمحاصرة كل الطالبين بالرجوع إلى قيم الإسلام الأصيل، والحد من أنصارهم (7).
هذه الاختلالات القيمية، أنتجت بناءًا اجتماعيًّا يتميز بالتمفصل، أدّى ذلك إلى غياب روح السماء والإسلام الأصيل عن المجتمع الإسلامي، فكان ذلك باعثًا لثورة الإمام الحسين(ع) وأنصاره المخلصين في كربلاء من أجل استعادة هذه الروح الغائبة.
إن استقراء الأحداث قبل وأثناء ثورة كربلاء تؤكد على أن الإمام الحسين(ع) جاهد لكي يؤسس لقيمة مركزية سماوية، أراد لها أن تتغلغل وتمتد جذورها في جوانية ضمير كل فرد مسلم، ألا وهي “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر“، هذه القيمة تمثّل منطلقًا لرؤية كونية إلهية، يكون التوحيد فيها أساس النظرة للوجود والأشياء؛ هذه الرؤية الكونية التوحيدية تقوم على موت العادات والتقاليد والعقائد المنحرفة، وموت آلهة الظلم والاستبداد السياسي والاجتماعي، وموت للأمراض الاجتماعية والقيم السلبية كالرشوة بأشكالها المختلفة وحب الرياسة والمناصب والمال؛ وهى أيضًا موت للخوف إلا من الله تعالى، بل هي موت الموت ذاته.
إن هدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو إعادة الواقع الإسلامي، الذي طاله الزيف والتدني إلى حالة النقاء والصفاء، الذي كان عليه الإسلام الأصيل، والذي فقد هويته بفعل أعداء الداخل والخارج الذين ناصبوا العداء والكراهية للإسلام الأصيل، ولكل المدافعين عنه، فكان صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أطلقه الإمام الحسين (ع) من أجل بناء مجتمع إسلامي يعيش فيه الإنسان بحرية بلا قهر، وعدالة بلا ظلم، مجتمع لا مكان فيه للطغاة ولا للجبارين ولا للجلادين، ومن أجل الحفاظ على الإمامة الدينية التي تحولت إلى وراثة ملكية على النمط الهرقلي والكسروي، فالإمام الحسين(ع) لم يكن بأي حال من الأحوال يريد الملك وأبّهته، كما حاول ضعاف النفوس الترويج بذلك، وإنما كما – يقول العقاد- يريد الإمامة التي راحت لغير مستحقيها، وطبيعة الصراع الذي حدث لم يكن صراعًا شخصيًّا بين رجلين، وإنما هو صراع بين الإمامة والملك الدنيوى(8) المشيد على إمامة دينية مزيفة.
هذه القيمة السماوية المركزية “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كانت منطلقًا لإصلاح البناء الاجتماعي المنهار بإحداث عملية تغيير شاملة من خلال منهج تطبيقي هو “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” بواسطة أسلوبين:
الأسلوب الأول: سلمي اقتصر على محاوراتة مع السلطة، ورفضه توريث السلطة لحاكم غير شرعي يريد أن يفرض نفسه على المجتمع الإسلامي، ورفض البيعة له.
والأسلوب الثاني: ثوري، لم يجد مفرًا منه بعد علمه بجدية السلطة في انتزاع الاعتراف بشرعية رئيس السلطة بطرق شرعية وغير شرعية، وأن السلطة لن تتركه حيًّا إلا إذا اعترف بشرعية هذا الحاكم غير الشرعي، فكان واجبه الديني والاجتماعي هو القيام بالثورة، التي ستأتي ثمارها بالتغير الإيجابي في المجتمع، وانتشال الأمة من حالة الانهيار الحضاري بعد أن أُميتت السنة، وأحييت البدع والقيم والأفكار الجاهلية التي طالما حاربها الإسلام وأصبح “الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه، ولزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، وأستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله” (9).
فكيف يرى الإمام الحسين ذلك السلطان الجائر المستحل لحرام الله والناكث عهده، والمخالف لسنّة نبيّه ولا يقوم بالتغيير وهو أحق من يغيّر. لذلك كانت ثورة الإمام (ع) في كربلاء، من أجل تحقيق التغير الاجتماعي المنشود، للانتقال من حالة الخوف والظلم والفساد، الذي فرضته السلطة على المجتمع جبرًا وقهرًا إلى مجتمع العدالة والحرية والمساواة.
وهذه القيمة السماوية تضافرت مع قيمة سماوية أخرى هي الجهاد، فقد تصدى الإمام الحسين(ع) لكل الأفكار الجبرية التي بثتها السلطة في محاولة منها لاستمالة الجماهير وضمان خضوعهم وعدم التحرك ضدهم، فكشف الإمام(ع) عن طبيعة هذه الأفكار التي طالما تؤدي إلى الاستبداد المطلق، والتحكم في مصائر الناس، وتجلّي الجهاد في حالة الصمود والتصدي والتصميم على رفض عملية التوريث السياسي، ورفضه لكل التهديدات والمساومات التي أطلقتها السلطة وممثلوها، خاصة عند حصاره ومنعه من دخول الكوفة، فقد استغل جيش السلطة التفوق العددي والعتادي، وعملية الحصار، ومنع الماء عن الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وجنده، وساوم الإمام(ع) على الاعتراف بشرعية الحاكم المفروض على المسلمين، مقابل النجاة هو وآل بيته، ولكن الإمام الحسين(ع) كان غير قابلٍ للانكسار والاستسلام لشروط السلطة، وكانت إجابته “والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد” (10)؛ لأن الذين يقدمون على مثل هذا الاعتراف إنما هم العبيد الأذلاء الذين ليس لهم شيء من الإرادة، وطالما تكون نفوسهم الضعيفة واقعة تحت سلطان القهر والإكراه وأدوات القمع التي تجبرهم على انحناء الرؤوس والاستسلام رغمًا عنهم، ولكن روح الإمام (ع) الأبية الشجاعة لا تحني رأسها إلا لله، وأبت ألا تعطي الحق لمن لا حق له، وعلمت أن العبودية لله فقط وليس لحاكم غير شرعي، ففضلت الموت على ذلك، فنال الشهادة بعد أن قاتل الأعداء بمفرده بكل شجاعة وصبر على ضرب السيوف ورمي السهام وطعن الرماح التي تراشقت في مناطق عديدة من جسده منها “أربعة وثلاثون ضربة سيف، وثلاثة وثلاثون طعنة رمح، مائة وأربعون رمية سهم”(11).
وفي كربلاء أشرقت قيم التسامح والسلام من أفعال الإمام الحسين(ع) فهو لم يكن داعية حرب، ولم يبتغي الفتنة وضرب الناس بعضهم ببعض، ولا أراد أن يقطع أواصر الأمة كما صورته دعاية السلطة، وهو لم يخرج إلى الكوفة لاحتلالها، وإنما تحقيقًا لرغبه أهلها الذين تعاهدوا على مبايعته وإيوائه، فبلغت رسائلهم إليه ثمانية عشر ألف رسالة يطلبون فيها مجيئه، وهو لم يبدأ بقتال جيش السلطة، ورفض محاولات زهير بن القين بمحاربة طلائع جيش السلطة المتربصين به أثناء ذهابه إلى الكوفة، وهو لم يغضب لذاته أبدًا، فصبر على الشتم والسب الذي ناله من شمر بن الجوشن، ورفض اقتراح مسلم بن عوسجة برميه بالسهام قائلًا له: “لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم بقتال” (12).
والإمام الحسين (ع) لم يستخدم أبدًا آليات السلطة من إرهاب وخداع وقتل للناس في تحقيق أهدافه، فلم يهاجم القبائل ولا القوافل، ولم يروع الأطفال والنساء، ولم يقطع شجرة أو أحرق زرعًا، كما فعل جيش السلطة، وإنما كانت وصاياه دائمًا، وخصوصًا إلى سفيره في الكوفه مسلم بن عقيل، هو الالتزام دائمًا بتقوى الله واللطف بين الناس، فلولا أثر هذه الوصية لفتك مسلم بن عقيل بعبيد الله بن زياد ولتغيّر مجرى الأحداث برمته، ولكنه الإيمان الذي اعتبر أن الفتك ضد الدين.
وصوت التسامح نسمعه عندما أرسى مبدأ أساسي في التسامح، وهو أن الحقوق الإنسانية ليست قاصرة على الإنسان فقط، وإنما أيضًا الحيوان، فها هو يسمح لخيول أعدائه أن ترتشف من الماء بعد أن أصابها العطش والتعب، كما سمح لجنود جيش السلطة أيضًا، فتسامحه هذا المُشرق من جوهر الإسلام الأصيل، منح أعداءه الحق في الماء ولم يستغل حالة العطش ليستخدم الماء كسلاح ضدهم، ولكنه أعطى الأمر بأن: “اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفًا” (13).
هذه بعض القيم السماوية في ثورة كربلاء التي جسدت معاني الحرية والعلو والوعي الإنساني، وأراد من خلالها إدانة التوريث السياسي وتشويه الدين وتحطيم القيم الأرضية التي تعكس قسوة الواقع الذي كان يعيشه المجتمع الإسلامي، حيث حالة الظلم والاستبداد الاجتماعي والسياسي، والبعد عن تعاليم السماء، ولا بدّ من التأكيد على أن القيم ليست مجرد شعارات؛ إذ لا يكون لها وجود قوي إلا بالتطبيق الفعلي لها قولًا وفعلًا وسلوكًا، فالسلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيًّا.
المصادر والمراجع
(1) أشرف منصور، توينبي: سوسيولوجيا التاريخ الإسلامي، مقال منشور في مجلة تحديات ثقافية، القاهرة 2001، عدد 24، الصفحة 73.
(2) ابن العديم، الحسين بن على سيد شباب أهل الجنه، تحقيق وتقديم سهيل زكار، دمشق، دار حسان للنشر والتوزيع، 1989، الصفحة 67.
(3) ابن كثير، البداية والنهاية، القاهرة، دار أبى حيان، 1996، الجزء السابع، الصفحتان 190-و191.
(4) ابن العديم، مصدر سابق، الصفحة 86.
(5) ابن قتيبية، الإمامة والسياسة، سلسلة كتب ثقافية، القاهرة، دون ناشر،1960، الصفحة 53.
(6) محمد عمارة، مسلمون ثوار، القاهرة، دار الشروق 1998، الصفحتان31 و32.
(7) ابن كثير، مصدر سابق، الصفحات 192 – 193.
(8) عباس محمود العقاد، الحسين أبو الشهداء، القاهرة، دون تاريخ، الصفحة 14.
(9) أحمد راسم النفيس، على خطى الحسين، المنصورة، الإيمان للنشر والتوزيع، دون تاريخ، الصفحة 104، نقلًا عن ابن عبد ربه، العقد الفريد، 2/312.
(10) ابن العديم، مصدر سابق، الصفحة 47.
(11) ابن كثير، مصدر سابق، الصفحة 232.
(12) ابن العديم، مصدر سابق، الصفحة84.
(13) ابن كثير، مصدر سابق، الصفحات 191، 213.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15342/karbalaarevolution/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.