النص، السلطة، الدلالة

by الدكتور علي زيتون | سبتمبر 29, 2022 11:22 ص

شكَّلت الدلالة التي ينطوي عليها نص من النصوص المشكلة الأساسية التي شغلت بال النقد الأدبي منذ أقدم العصور، وفي ثقافات الأمم المختلفة. وإذا كانت المساهمة الغربية هي المساهمة الأقوى في عصرنا الحديث، فإنه لا يجوز لنا أن نتجاوز ما جاءت به الثقافة العربية القديمة تمهيدًا ضروريًّا تنطلق منه لمعرفة ما جاءت به الثقافة الغربية الحديثة.

أ. الثقافة العربية القديمة والدلالة

تناولت ثقافتنا القديمة الدلالة من خلال علمين أساسيين: الأول علم التفسير وما يترتب عليه من أمور الفقه والتشريع، والثاني علم النقد الأدبي.

أ.1. علم التفسير القرآني

ارتبطت التجربة العربية في عملية استكناه دلالة النص بنزول الوحي، كلام الله. فقد احتاج المسلمون إلى معرفة دلالة النص القرآني، منذ أول عهدهم بالإسلام، لكي يكونوا على بيِّنة من أمر عقيدتهم وسلوكهم ومعاملاتهم، ولم يغفل النص القرآني هذه المشكلة. حدَّد مسارها خلال الآية الكريمة التي قسَّمت الآيات إلى آيات محكمات آحادية الدلالة يجب ألا يختلف حولها اثنان، وأُخر متشابهات تحتمل غير دلالة وتحتاج إلى تأويل. وهكذا يكون موضوع التفسير ما أُحكم من الآيات، وموضوع التأويل ما تشابه منها.

والتفسير مرتكز، حسب لغة العصر، إلى علمين مستقلين: الأول علم اللسان (السيمانتيك)، حيث يتحكَّم النظام اللغوي معجمًا، وصرفًا، ونحوًا بتحديد الدلالة الواحدة التي يحتملها النص. والثاني علم العلاقات (السيميولوجيا، أو العلامية)، حيث يُحيَّد النظام اللغوي فيتحكَّم بتحديد الدلالة لازم الخبر أو الصورة البيانية أو البديعية. أما التأويل فيحتاج إلى العلم الثاني وحده. والدلالة التي نبحث عنها في النص القرآني سواء احتجنا إلى التفسير أم إلى التأويل هي الدلالة التي أودعها الله في نصه.

فالسلطة التي تتحدد على أساسها جميع عمليات البحث عن المعنى هي سلطة الله تعالى، مؤلف النص. وحين تكون السلطة للمؤلف تصير القصدية هي المتحكمة بالدلالة. وتقتضي القصدية برامج محددة في عملية البحث عن المعنى. صحيح أن مسافة لا تقاس تفصل النص الإلهي عن النص البشري. ذلك أن القصدية الإلهية قائمة على العلم والمعرفة المطلقين اللذين يجعلان من النص القرآني نصًّا قادرًا على الإجابة عن كل أسئلة العصور بخلاف القصدية البشرية القائمة على ثقافة محدودة وقناعات محدودة، إلا أن القصدية تظل العامل الحاسم في تحديد الدلالة بقطع النظر عن العوامل الأخرى التي ستقول بها مناهج النقد العربية الحديثة.

أ.2. علم النقد الأدبي العربي القديم

لعلّ أهم ما لاحظناه في أثناء الحديث عن التفسير القرآني هو أن صاحب السلطة في العملية الكتابية هو المتحكِّم بتحديد الدلالة بالبرامج المطلوبة للبحث عن المعنى، ولذلك سنحاول التعرُّف إلى من نسبت إليه السلطة في نقدنا الأدبي القديم. وتتوَّزع نقدنا القديم مدرستان: المدرسة الكلامية الشيعية المعتزلية، والمدرسة الكلامية الأشعرية.

وإذا رأت المدرسة الأولى أن البلاغة؛ أي العملية الإبداعية، هي إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، ترتب على رأيها هذا أن المعنى الذي سيوصل إلى قلب المتلقي هو المعنى الذي يدور في خلد المؤلف. والمؤلف هو السلطة، والقصدية هي الحاكمية. ولا يخرج هذه السلطة من يد المؤلف كلام الجاحظ المعتزلي الذي يرى أن المعاني مطروحة في الطريق، أي أنها مشاعة، والمشاعية سواء أكانت حقيقة أم باطلًا لا تلغي قصدية المؤلف ولا تبطل سلطته.

أما المدرسة الثانية، المدرسة الأشعرية، فإنها وإن اختلفت مع المدرسة الأولى حول مكمن الإبداع حين رأت أن البلاغة هي الكشف عن المعنى القائم في الذهن، إلا أنها ستلتقي معها حول سلطة المؤلف، فالكشف عن المعنى هو الكشف عن المعنى القائم في ذهن المؤلف. ويعني ذلك أن ذلك المعنى هو معنى مقصود من قبل المؤلف دون غيره.

والتفات المدرسة الشيعية المعتزلية إلى جمالية الدال (الأصوات والألفاظ) لا يعني تغييب حاكمية المعنى، ظلَّت تلك الجمالية محكومة برئاسة المعنى. والبنية اللفظية الأجمل هي البنية التي تقدِّم مقاصد المؤلف الدلالية كما مرَّت في ذهن المؤلف وبوضعيتها المثلى. ولم يكن التفات المدرسة الأشعرية السنية إلى جمالية المدلول (البنية المعنوية المتشكلة في ذهن المؤلف) بأقل تركيزًا على حاكمية المعنى خصوصًا أنها قد رأت في اللفظ خادمًا للمعنى مُستتبعٍ لا يلوي على أي سلطة. والمدرستان في بحثهما عن المعنى بحثتا عن معنى مقصود محدد بسلطة المؤلف وذلك وفاق العلمين اللذين تحدثنا عنهما في أثناء الحديث عن التفسير القرآني. والعلمان وإن لم يكونا في ثقافتنا القديمة، معروفين باسميهما الحديثين، إلا إنهما كانا موجودين بما وُظِّفا له في عصرنا الحديث. والكلام على معنى المعنى من قبل عبد القاهر الجرجاني لم يكن مختلفًا عما ترمي إليه السيمائية والسيمائية المركبة التي سمّاها بارت بالأسطورية (Mythologie ). ومعنى المعنى لم يكن شيئًا آخر غير لازم الدلالة في الجملة الخبرية أو في الصورة البيانية أو البديعية.

ولم يكن المنهج السيميولوجي هو المنهج الوحيد الذي لجأ إليه نقدنا القديم ولكنه لجأ، مثله مثل التفسير القرآني إلى هذا المنهج وإلى المنهج الآخر عنيت به علم اللغة السيمانتيكي الذي يعتمد النظام اللغوي قاعدة في البحث عن الدلالة، وما تركيز عبد القاهر الجرجاني على التنكير وهو مسألة تنتمي إلى النظام النحوي في البحث عن دلالة الآية الكريمة ﴿واشتعل الرأس شيباً﴾، إلا من قبيل الارتكاز إلى علم الدلالة السيمانتيكية. وهكذا نجد أن ثقافتنا القديمة بشقها القرآني وبشقها النقدي قد رأت في سلطة المؤلف السلطة العليا التي تتحدد دلالة النص على أساسها، وذلك ارتكازًا على القصدية التي آمنت بها إيمانًا مكينًا.

ب. الثقافة الغربية الحديثة والدلالة

الانتقال إلى الحديث عن الثقافة الغربية وعن دورها في البحث عن دلالة النص يبعدنا عن مرتكز أساسي ارتكزت إليه الثقافة العربية القديمة عنيت به الوحي الإلهي. والثقافة الغربية المتعلقة بالعملية الكتابية لم ترتبط في أي مرحلة من مراحل حياتها بذلك الوحي، خصوصًا أن الغرب المسيحي لم يجد بين ما وجده العرب المسلمون من كتاب مقدَّس هو نتاج إلهي مضمونًا وأسلوبًا. ولذلك فإن الإنجيل الذي دُوِّن بأسلوب بشري لن يتدخل في تحديد الأدبية عن الغربيين، كما تدخل القرآن الكريم في الحياة الثقافية العربية. ويتحتم على ذلك أن تكون السلطة المتحكمة بتحديد دلالة النص وبالبرامج المطلوبة للبحث عن المعنى في الغرب، سلطة متحوِّلة بتحوّل الثقافة الغربية من مرحلة إلى مرحلة. ويدعونا ذلك إلى المرور على المناهج النقدية الغربية وفاق تسلسلها الزماني قدر الإمكان للكشف عن مركز السلطة بها، ولتحديد مدى صلاحيتها في التعامل مع النص القرآني.

ب.1. المنهج التاريخي

وهو من أقدم المناهج النقدية الغربية وأكثرها بدائية، فهو يعتمد على نظرية المحاكاة الأرسطية التي ترى إلى الأدب على أنه انعكاس لأقوال البشر وأفعال وظروف معيشتهم: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقدية.

وهذا المنهج يحرم المؤلف من سلطة فاعلة في نصه؛ لأن النص بالنسبة إلى هذا المنهج، ليس سوى انعكاس للمناسبة وللظروف التاريخية بكل أبعادها، والنص ومن خلفه كاتبه ليسا سوى مرآة لا حول لها ولا طول، ولا يمكنها أن تعكس إلا ما يوجد قبالتها. فهي حيادية إلى حدٍ بعيد، ولا دخل لها بما توافر من مؤثرات خارجية. وفهم وظيفة كل من الأدب والأديب على هذه الشاكلة يعطي التاريخ السلطة العليا في تحديد دلالة النص من جهة، وتحديد طريقة البحث عن تلك الولاية داخل النص من جهة أخرى. وتأتي المناسبة، ومعرفة الظروف التاريخية التي أحاطت بالأديب من أمور اجتماعية أو اقتصادية، أو سياسية، أو غيرها لتعطينا المفتاح الأقوى على فتح ما استغلق داخل النص من معاني. والانتقال بهذا المنهج من النص البشري إلى النص القرآني يجعله عديم الفاعلية ليس بالنسبة إلى المؤمن بأن النص القرآني نص متعالٍ على التاريخ وعلى الظروف المختلفة، ولكن بالنسبة إلى غير المؤمن بتعاليه أيضًا، لأن النص القرآني، وإن شكَّل حلقة في سلسلة من الأديان التي سبقته، إلا أنه نص مؤسّس للتاريخ، ما زال يرى إلى نفسه أنه مفتاح كل ما استغلق من مشكلات تعترض السيرورة البشرية عبر التاريخ.

ب.2. المنهج الاجتماعي

يعدّ هذا المنهج، مثله مثل المنهج التاريخي، منهجًا تكوينيًّا، لأنه يرتكز إلى نظرية الانعكاس عينها، وإن اختلفت الحقيقة، مادة الانعكاس. ولعلّ أعمق من أخذ بهذا المنهج هم الواقعيون الماركسيون. فهم يؤمنون أن البنية الفوقية ومن بينها الفن والأدب هي نتاج للبنية التحتية المتمثلة بقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. والمبدع في هذه المدرسة، إنسان يحتل موقعًا داخل هذه البنية التحتية يحدِّد سلوكه وقناعاته وطريقة تفكيره وقواه الإبداعية الفنية والأدبية. وإذا تحدَّد كل ذلك سلفًا وبناءً على تلك الموقعية يعني أن المعنى الذي يتضمنه نصه هو من تكوين تلك البنية، أي من تكوين الحال الاجتماعية التي ينتمي إليه المؤلف، والسلطة العليا في تحديد ما يمكن أن يعنيه نص من النصوص هي سلطة المجتمع. وعودة السلطة إلى المجتمع في العملية الكتابية تحرم المؤلف من مقاصد ذاتية تخصّه. والقصدية قصدية المجتمع، والبحث عن المعاني التي ترتبت عليها داخل النص لا يتم إلا من خلال المعرفة بذلك المجتمع وتطلعاته وهمومه والحياة التي يصبو إليها. وإذا كان الناقد ماركسيًّا بحث عن المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع: المشاعية، أم العبودية، أم الإقطاعية، أم البورجوازية، أم الاشتراكية، وحاول تحديد الطبقة الثورية الصاعدة والطبقة التي ينتمي إليها المؤلف، لأن كل ذلك قد أسهم في تكوين النص وكل ذلك قادر وحده على إضاءة معانيه.

وإذا أردنا التفكير في قدرة هذا المنهج على مساعدتنا في فهم دلالات نصوص الصحيفة السجادية، علينا أن نبحث عن قدرة اختراق المادية التاريخية للحياة الإسلامية. وإذا ما ظهر الإسلام في مرحلة كان المجتمع العربي فيها قائمًا في شق من حياته على المشاعية، مشاعية الأرض، وفي شق آخر على العبودية، فإن مشروعه لم يكن مشروع إلغاء لكل من المشاعية والعبودية على المدى الاستراتيجي فحسب، ولكنه مشروع عدم سماح بقيام طبقة إقطاعية تستأثر بالأرض أيضًا. كان نظام الإرث الإسلامي عامل تفتيت دائم للثروة يحول دون تحوّلها إلى ثروة قادرة على الاحتكار وهو إلى ذلك لا يسمح بملكية زراعية ينتقل إلى من يستطيع، ويعني ذلك أن الإسلام نظام مختلف عن النظام الماركسي له قوانينه التي لا يمكن لقوانين الماركسية أن تخترقها. ويقودنا هذا الأمر إلى القول: إن ذهنية الإمام زين العابدين (ع) واقعة خارج نطاق المؤثرات التي تحدثت عنه الماركسية. والإمام (ع) إلى ذلك رجل ثقافة يحمل إرثًا علميًّا متحدِّرًا إليه من الرسول الأعظم (ص) عبر الأئمة المعصومين ولا يمكن أن يفهم نصه إلا من خلال قصدية المؤلف المنتمية إلى الثقافة الإسلامية المرتبطة بأئمة أهل البيت (ع).

وإذا كان هذا المنهج عاجزًا عن مقاربة نص الإمام زين العابدين (ع)، فكيف به أمام نص القرآن الكريم المتعالي على المجتمع وعلى التاريخ.

 

ب. 3. منهج التحليل النفسي

هذا المنهج منهج تكويني أيضًا، مثله مثل المنهجين السابقين، فالنص الأدبي انعكاس لما هو قائم داخل العقل الباطني الخاص بالمؤلف. وأستاذ هذا المنهج بامتياز هو فرويد الذي رأى أن اللاوعي متعال على الوعي داخل ثنائية (اللاوعي/ الوعي). والمكبوتات ومركبات النقص أو التفوق هي التي تتحكم إلى حد بعيد بسلوك الإنسان ونشاطه العملي والإبداعي بعيدًا عن سلطة الوعي، العقل الظاهر، الذهن. وحين يتحكم اللاوعي بتحديد فنيّة النص والدلالات الكامنة منه يعني تهميشًا لدور المؤلف وإقصاءًا لقصديته. والبحث عن معنى النص ينفك عن القصد الواعي للمؤلف ليتوجه إلى طفولته وإلى سيرته التي أنتجت بنية لا وعيه ليجد فيها مفاتيح ما استغلق من معاني النص. وكتابات زين العابدين (ع) لا يمكن أن تكون السلطة العليا المتحكمة بها هي سلطة عالم اللاشعور؛ لأن كتاباته رسالية فاعلة لا منفعلة. والانتقال إلى النص القرآني يجعل هذا المنهج واقعًا خارج دائرته تمامًا.

ب.4 . المنهج البنيوي

هو منهج يرى إلى نفسه على أنه المنهج العلمي بامتياز، ولذلك فهو صنو الحداثة بمقدار ما يعد المنهج التفكيكي صنو ما بعد الحداثة. وإذا قامت حركة الحداثة، بشكل أساسي، على العقلانية والعلمية، انبثق المنهج البنيوي من اللسانية بوصفها ممثلة لتحوّل الدراسات اللغوية إلى دراسات علمية. ولقد جاءت اللسانية بمفهوم العلامة اللغوية القائمة على ثنائية الدال والمدلول فكان أن انبنى على هذه الثنائية هذا المنهج العتيد فتعدّت إمكاناته اللغة إلى الأدب وإلى سائر الحقول المعرفية من اجتماع، وفلسفة وتاريخ، ورياضيات، وغيرها. وصار النموذج اللغوي القاعدة التي ندرس من خلالها كل بنية، وإذا قام هذا المنهج على ثلاثة مبادئ هي: الشمولية، والتحوّل، والتحكم الذاتي، فإنه قد نظر إلى البنى، ومن بينها بنية النص على أنها وجود موضوعي مستقلة عن منهجها، وعن عصره، وعن أي شيء يقع خارجها، حتى لقد دعا الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي هذا المنهج فلسفة موت الإنسان. وما يعنينا من هذا المنهج أنه لم يهتم بما عبَّر عنه النص، وحاول الإجابة عن سؤال آخر هو كيف عبَّر، وطبيعة هذا السؤال تفيد أنه مهتم بالجانب الفني، أو الشكلي وحده من دون أن يأبه للمضمون. ومنهج يرى أن السلطة العليا في العملية الكتابية للنص وحده، وأن بنية هذا النص تتصف من بين ما تتصف به بأنها بنية متحوِّلة لا تستقر على حال، حتى ليحس الناقد أنه أمام بنية غير مكتملة. والنص بناءً عليها سعي إلى هذه الوضعية لا يتحقق ولا يكلل بالنجاح.

وإذا كان بإمكاننا أن نطرح سؤال المنهج البنيوي الأثير: كيف عبَّر النص عما عبَّر عنه على نص الإمام زين العابدين (ع) وهو سؤال مشروع للناقد، فإننا لا نقيد في هذا المنهج في الكشف عن دلالات نص السجَّاد (ع)؛ لأنه نهج لا يطرح سؤال الدلالة وكذلك بالنسبة إلى تفسير النص القرآني، وإذا جاز لأحدهم أن يسأل: هل يجوز أن نتعامل مع النص القرآني من خلال المنهج البنيوي؟ قلنا يحتاج الأمر إلى فتوى ناقد ضليع بأمور القرآن مثلما هو ضليع بأمور النقد.

ب. 5. المنهج البنيوي- السيمائي

هو منهج قائم على التعاضد بين البنيوية التي عرفناها والسيمائية. والسيمائية هي علم العلامات، أو علم الأنظمة العلامية. واتصال الإنسان بالعالم وبالآخرين لا يتم بوساطة اللغة وحدها، ولكن بوساطة العلامية أيضًا، والإنسان سابح في بحر علامي، اللغة جزء منه، الثياب علامات دالة، الحركات علامات دالة، السلوك علامات دالة، كل ما في الوجود علامات دالة. وأن يسمّي القرآن الكريم الجزء الصغير من السورة آية، وأن يدعونا للاعتبار من كل أثر ومظهر يعني أن القرآن الكريم يدعونا إلى الأخذ بالمنهج السيميولوجي في كل مجال من مجالات تفكيرنا. والانتقال بالسيمائية إلى النص يعني تحييد النظام اللغوي، معجمًا، وصرفًا، ونحوًا، والاعتماد على لازم الدلالة الذي يؤمنه كل من التشبيه والاستعارة والكناية والطباق والمغالاة وغيرها. وارتباط السيمائية بالبنوية يعني أن هدف هذا المنهج المركّب لم يعد الإجابة عن السؤال: كيف عبَّر النص؟ كافية، ولا بدَّ من الإجابة عن سؤال ثانٍ هو عمَّ عبَّر؟ أيضًا. ويمهّد هذا السؤال الجديد إلى أن يكون هذا المنهج منهجًا صالحًا للتعامل مع كتابات الإمام زين العابدين (ع) في الصحيفة السجادية، وقد يكون صالحًا للتعامل مع النص القرآني أيضًا، شرط أن يعترف بالمنهج السيمائي بالقصدية، أي سلطة المؤلف.

 

ب. 6. المنهج البنيوي- التكويني

منهج أسسه لوكاتس الذي كان بنيويًّا فقط قبل اعتناقه الماركسية. وعندما اعتنق الماركسية صار بنيويًّا- تكوينيًّا، بعد أن زاوج بين البنوية والاجتماعية، معطيًا السلطة للثنائي(النص/المجتمع).

وإذا كنا قد تناولنا كلًّا من طرفي هذا الثنائي سابقًا، فلا داعي للتفصيل مع ما يمكن أن تنتجه المزاوجة من أمور لا يؤمنها كل جزء من جزئي المنهج المركب منفردًا.

ب. 7. المنهج الموضوعاني

ينطلق هذا المنهج من فهم للأدب مفاده أن الأدب موضوع تجربة أكثر مما هو معرفة. وأن هذه التجربة ذات جوهر روحي. ويعني ذلك أن موضوع التجربة هو وعي الذات.

ولكن على أي مستوى يتم هذا الوعي؟ يرى هذا المنهج أن الكاتب عندما يمارس الكتابة لا يقول ذاته فحسب، بل هو يبتدعها في استخدام الكلمات. أي أن هذه الكلمات لا تأتي مصطبغة بذات كاتبها فحسب، ولكنها تعيد تكوين تلك الذات وإنتاجها أيضًا. ونجدنا أمام معنيين لهذا الكلام، هل المقصود بذلك أن الكتابة هي إبداع مركّب: إبداع للكلمات يعطيها أبعادًا دلالية لم تكن لها، وإبداع للعالم عبر تعديله؟ أم المقصود هو ما ذهب إليه لاكان من أن وجود الذات لا يتحقق إلا عبر الكتابة؟ والحقيقة أن هذا المنهج يرى إلى العمل الأدبي على أنه مغامرة، مصير روحي يتحقق في حركة إنتاج الذات. فالأنا المبدع يبتدع نفسه في الحركة التي يقول فيها ذاته. وقول الذات هو ابتداع الذات. أي أنه يعبِّر عن نفسه بتجاوزها ويؤدي ذلك إلى القول بأن العمل الأدبي وعي دينامي قيد التشكّل.

وفعل القراءة للموضوع الذي يتحدد بحسب تكراره ظاهرًا أو خفية، ينطوي على التقاء وعيين: وعي القارئ، ووعي المؤلف. وهذا اعتراف صريح بالقصدية وبسلطة المؤلف. هذه السلطة وإن كانت أساسية في هذا المنهج إلا أنها ليست السلطة الوحيدة. تشركها سلطة القارئ، وهذا يعني شراكة بين المؤلف والقارئ، شراكة، يُضاف إليه مفهوم الأدب المغامرة. تطلّب منّا التفكير طويلًا وعميقًا قبل الإعلان عن موقف يتعلق بعلاقة هذا المنهج بالديني والمقدَّس.

ب. 8. منهج ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة يعني رفضًا للحداثة بكل قيمها ومناهجها خصوصًا ما يتعلق باللوغو مركزية أي سلطة العقل وسلطة العلمية. ولقد أنتجت هذه المرحلة منهجين: الأول هو نظرية التلقي، والثاني هو المنهج التفكيكي.

ب.8.1. نظرية التلقي

وهي نظرية ألمانية المولد والنشأة ترى في جانبها المتطرف، أن المؤلف لا يحدد قصده. يعني أنه فاقد لأي سلطة فيما يتعلق بتحديد المعنى وإن نفت هذه النظرية سلطة المؤلف فإنه لا تقف عند هذا الحد ولكنها تنفي، وبجانبها المتطرف أيضًا، أي سلطة للنص في تحديد المعنى. السلطة كل السلطة للمتلقي الذي يحدِّد وحده ما يقوله النص. والنص إثبات على ذلك يقول معنى مختلفًا مع كل قارئ جديد، وإذا كان الأمر كذلك. هل يمكننا أن نتعامل من خلال هذه النظرية مع المقدَّس والديني؟ وقبل ذلك ما مدى قناعتنا بها؟

ب. 8.2. المنهج التفكيكي

ينفي هذا المنهج مركزية العقل ومرجعيته، أي أن العقل بالنسبة إليه ليس مرجعًا صالحًا تحدِّد على أساسه الخطأ والصواب. والأنظمة العقلية أنظمة بلاغية، وأنظمة في الإقناع. ويعني هذا  وجود للحقيقة. الحقيقة مجرَّد وجهة نظر تتحدد بإرادة القوة. ولن أدخل في تفاصيل هذا المنهج ومنعرجاته، ولكني مركز على ما يتعلق بهدفنا من هذا اللقاء. وهي عملية البحث عن المعنى في نص من النصوص. وهنا أجدني أقف عند ثنائية (الذات/ الآخر). فالذات ليست سوى مكان يتزاحم الآخرون فيه. يأتي الإنسان إلى الحياة وهو مجرَّد إمكانية. لا يمتلك أي ثقافة، يتدخل الأبوان أولًا ثم المجتمع ثم المدرسة والكتاب لملء الفراغ الثقافي. والمعرفة التي جمعها ليست سوى حضور الآخر في ذاته. فالذات هي هذا الآخر المجتمع من مختلف الأزمان والأمكنة. وأنا لست أنا، أنا هو الآخرون.

ونقف أيضًا عند دلالة الكلمة. والكلمة كما هو معروف في علم اللغة عبارة عن نماء مستمر تكتسب مع كل استعمال جديد أبعادًا دلالية جديدة. والبعد الجديد هو أثر لأصل. والأصل هو أثر لأصل سبقه وصورًا إلى لحظة ولادة هذه الكلمة. والوصول إلى دلالة الكلمة عند ولادتها لا يعي أننا وصلنا إلى الأصل الأول. فهذه الكلمة أثر لأصل كان انفعالًا قبل ولادة اللغة وهذا الانفعال أثر لأصل انفعالي سبقه، وصولًا إلى ما لا يمكن أن نصل إليه، إلى اللامعنى. والنص كالكلمة هو أثر لما لا يعد ولا يحصى من النصوص التي قرأها كاتب هذا النص. والنصوص التي لا تعد هي أثر لنصوص أخرى وهكذا وصولًا إلى ما لا يمكن الوصول إليه إلى اللامعنى.

وأختصر الكلام لأقول: إن هذا المنهج بخلاف كل المناهج التي سبقته. فتلك المناهج تبحث عن معنى بقطع النظر عن السلطة التي تحدده. أما هذا المنهج فباحث عن تضييع المعنى، عن العدمية.

ومما لا شك فيه أن هذا المنهج بهول ما يطرحه يدعونا إلى تأسيس المؤسسات الثقافية التي تطرح على نفسها أسئلة جادة بحجم هذه التحديات التي تواجهنا بها هذه المناهج. صحيح أن هذه المناهج لم تضع في حسابها النص المقدس، إلا أن إهمالها ذلك النص ليس أمرًا حياديًّا بلا دلالة، ونحن مدعون لإنتاج ثقافتنا التي تمكننا من الإجابة عن مجموع هذه المناهج من جهة، ومن إنتاج مناهجنا من جهة أخرى.

 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/15361/arabicculture/