أزمة قراءة أم عودة فعالية الشفاهي
يكثُر الحديث عن أزمة قراءة وكتاب، ويربط العقل موضوع الثقافة بهذا الفعل الإنسانيّ، وكأنّ الرابط بينهما ضروري ولا يمكن أن يعتريهما انفصال، وينطلق المحللون من وجهة نظر تقول: إنّ القراءة وُلِدت لتبقى وتستمر على حدّ تعبير “دان سبرير”، وهذا الكلام فيه الكثير من الرومانسية والتعلق بالعادة، ولكنّه قد لا يعطي صورة واقعية، وهذا الرابط قد يكون واهنًا، وهو قد يعبّر عن أزمة من نوع آخر أكثر مما يشي عن أزمة قراءة وكتاب وثقافة، وهذا ما يعبّر عنه كلام الروائي النيجيري الحائز على جائزة نوبل للآداب “وول سوينكا” الذي قال: “إنّه ينتمي إلى جيل ضائع لأنّه جيل يعتقد أنّه كتب كثيرًا ولكنّه لا يجد له ما يكفي من القرّاء”، وفي كلامه هذا يعبر عن أزمة تتعلق بسوق ولا تتعلق بالإبداع الثقافي، حيث يصبح غياب التسويق أصلًا لبناء الموقف وليس الفعل التنويري الذي يريد أن ينشر الوعي بين الناس. وهذا الأمر يستدعي العودة إلى التاريخ الإنسانيّ لرؤية هذا الربط الذي لا طائل منه، وهو وليدة تطور حصل في التاريخ الإنسانيّ، وهو لا يخبر عن شيء إلا عن أزمة يُعاني منها قطاع اقتصادي معين، أراد أن يهرب من مشكلته بإبداع مشكلة جديدة.
فالقراءة لم تنمُ كحاجة إنسانية إلّا مع الخوف من ضياع المكتسبات الحضارية الإنسانية، والأصل في الثقافة هو النظام الشفاهيّ، لذلك آثر كثير من الفلاسفة إلى هذا الأسلوب في نشر أفكارهم، وعلى أساسه رفض “فيثاغوروس” و”سقراط” الكتابة باعتبارها وسيلة تشوّه القول وتجعله محكومًا من قبل المتلقي الذي يعيد تأويله انطلاقًا من احتياجاته بسبب غياب المتلقي الذي يستطيع أن يسدّ ثغرة سوء الفهم عن طريق التواصل التفسيري، ولكن هذا الواقع سرعان ما تلاشى مع توسع المجتمعات الإنسانية وانتشارها، وما ترافق معها من ضرورة تدوين الأفكار لكي لا تضيع في ظل نشوء سلطة تقمع الأفراد، وتدفع بهم إلى المحاكم وتقوم بإعدامهم، وهذا ما دفع نظام الكتابة إلى التقدم، وهذا ما فعله أفلاطون عندما أراد أن يخلّد ذاكرة أستاذه فكتب سيرته وأفكاره.
وهذا الانتقال، وإن أتى ليحمل إشكالية الكتابيّ وما تستبطنه من إمكانية التفسير والتأويل، إلّا أنّه ساهم في استمرار الأصول الفكرية وتناقلها عبر الأجيال، فالقراءة وليدة حاجة، وهي كنظام رمزيّ ليست هدفًا قائمًا بذاته، وهي محكومة بآليات السوق الذي يحدّد احتياجاته منها. على هذا الأساس تتنوع بتنوع المادة التي تحملها والغاية التي تبتغيها، وهي ترتبط بالثقافة كآلية من آليات إنتاج وتناقل الأفكار، ولكنّها تختلف عنها في الغايات. فبإمكان الإنسان أن يجد في المقروء وصفات الدواء وطرق استخدام الأشياء والرسوم المصورة والنصوص الأدبية والثقافية، وإن كان الفعل واحدًا ولكن الغايات مختلفة بشكل جذريّ.
الرؤية التي دعمت الرؤية الفاعلة للقراءة بدأت تتعمق مع عصور النهضة فالحداثة، حين تحوّل المكتوب إلى مادة تنويرية في القارة الأوروبية، واستخدم كوسيلة تبشر بالعصور الحديثة، فتوسّع دور الكتاب وأصبح وسيلة فاعلة لتغيير رؤية الإنسان للعالم، لذلك أصبح هناك اقترانًا بين الكتاب والمثقف، وهو ما أدى إلى جعل المكتبات ظاهرة عامة منتشرة في المدن، وتعمل النخب على اقتناء الكتاب والتفاخر به. وهذا الدور بدأ بالتقلص في عالمنا المعاصر وثورة المعلومات فيه، حيث أخذ يتراجع دور المكتوب والمنشور ورقيًّا لصالح وسائل الاتصال الحديثة التي يلعب الحاسوب دورًا مركزيًّا فيها، وأصبح الحصول على المعلومة لا يحتاج إلى العنصر الورقيّ، ولكن هذا لا يعني أنّ فعل القراءة يندثر، إنّما يعني أنّ آلية الوصول إلى مرادات المتلقي قد تغيرت. ومع التطور التقني قد يكون عنصر القراءة لا يشكل أولوية مع انتقال الاهتمام إلى الكتاب الرقمي المسموع، الذي يعني أنّ بإمكان الإنسان الانتقال من المقروء إلى المسموع.
هذا يعني أن تعلم مبادئ الكتابة ضرورية لتحصيل القدرة على القيام بهذا الأمر، ولكن هذا لا يعني أنّ الثقافة بحاجة للقراءة لتبني شخصية المثقف، فمع توفر بدائل تكوينية أخرى أكثر بساطة وتفاعلية وعملانية قد يتمّ الوصول إلى نفس النتيجة بطريقة أسهل، وهنا أقتطف من كتاب أحمد أبو زيد “مستقبليات” شاهدًا نقله عن مقال كتبه “ويليام كروسمان” في مجلة “The Futurist”، يقول فيه: “إنّ الأجيال القادمة سوف تعيد تشكيل الثقافة المعاصرة على أسس تكنولوجية على درجة عالية جدًّا من الكفاءة، بحيث يصبح الكومبيوتر الناطق هو الوسيلة الأساسية للمعرفة بدلًا من القراءة كما هو الحال الآن”.
العالم بدأ يعود إلى المشافهة وحضور المحكي في حياته، وهذا وضع طبيعيّ لأنّ القراءة آلية لجأ إليها الإنسان في مرحلة كان التكوين الثقافي يقتضيها، ولكن هذا لا يعني أنّ الثقافة تمرّ بأزمة؛ لأنّ هناك فارق كبير بينهما؛ فالقراءة تحتاج إلى عين، والثقافة تحتاج إلى عقل، وكلما توسعت قدرة هذا الأخير للوصول إلى المعرفة توسّع أفقه، يقول “أمبرتو أيكو”: إنّه لو أفلح الكومبيوتر في تخفيض عدد الكتب التي تطبع الآن تخفيضًا ملموسًا فسوف يكون ذلك بمنزلة قفزة ثقافية هائلة ورائعة”.
المقالات المرتبطة
الشهادة بين مفهومي الموت والحياة
إن الأهداف الإلهية المعنوية التي تقوم على الغيب وإرادة الله عندما يضحي الإنسان في سبيلها، لن يموت الهدف بموت الشخص، بل ستحيا ويحيا الشخص معها، فالهدف لا يقوم بالشخص بل الشخص قائم بالهدف، “إن الدماء التي تسقط بيد الله فإنها تنمو”
البساطة في منهج الإمام الخميني (قده)
لقد حمل بين ثنايا روحه العميقة بعضًا من محمّد (ص) وعلي (ع)، ذاب بهما حتّى بانت صرافة روحه وسماحتها، وتشبّهت بهما؛ فالشيء لا ينسجم إلّا بما يسانخه في الجوهر والتركيب.
فما هو معنى البساطة في منهج الإمام الخميني (قده)؟ وكيف جسّدها في حياته العمليّة؟
“القائد الش–هيد”.. أيقونة أو أسوة؟
هذه الشخصية المؤمنة الثورية قد تكاملت تدريجيًّا عبر مسار معرفي وجهادي مستمر، إلى أن عبرت من حدود الحياة الدنيا إلى رحابة “لقاء الله” بشهادة قلّ نظيرها.