إيزوتسو ودراسته لفلسفة السبزواري*
بادئًا ذي بدء، نقول: إن حقبة متطاولة انقضت وانصرمت، وجهودًا مضنية بُذلت وصُرفت قبل أن يدرك المنهمون بالقول الفلسفي أن الانشغال الفلسفي ما انفك يكشف عن مطارحاته الإبداعية ومقولاته التجديدية.
فمنذ أن بدأت حركة الاستشراق الفلسفي في بلادنا، سرت في أوساط القسم الأكبر من المستشرقين، وتاليًا، ممن سار على خطاهم من الباحثين العرب والمسلمين، إلا ما شذّ وندر، عدة مقولات أصبحت من اللازمات والبديهيات في تاريخيات الفلسفة العربية الإسلامية وذلك من قبيل أن الفلسفة “ماتت بموت ابن رشد”، أو أن “الغزالي قد وجّه ضربة قاضية للفلسفة لم تقم من بعده قائمة”. أو أن “ابن رشد كان نهاية مرحلة طويلة ازدهرت بالفكر والحضارة فلم تقم للمذاهب الفلسفية باللغة العربية قائمة بعد…”. أو أن “ابن رشد كان خاتمة المطاف في التفكير الفلسفي العربي الإسلامي” وما شاكل ذلك من المقولات. فقد صوروا أن حركة الفلسفة الإسلامية العربية قد توقفت بموت ابن رشد (595- 520هـ/1126- 1198م) وتعرقلت خطاها، أو بالأحرى توقفت عجلتها تمامًا وانتهى الأمر. و”لا قرية وراء عبدان”[1]، كما يقول المأثور الفارسي.
إذن، ترى الغالبية الساحقة من المستشرقين أن ابن رشد كان آخر فلاسفة الإسلام بنحو لم يتلوه أي فيلسوف من الطراز الأول يكون صاحب مدرسة فلسفية أو نهج خاص به. لقد بنوا رأيهم هذا على أساس استنتاجهم أن الغزالي (1059- 1111) في كتابه تهافت الفلاسفة قد وجه ضربة قاضية للفلسفة الإسلامية إلى حدّ أن كتاب تهافت التهافت لـ ابن رشد لم يقدر على رأب الصدع ليضع الفلسفة مجددًا على سكة التطور.
إن الزعم بأن الفكر الفلسفي الإسلامي لم يعرف بعد ابن رشد إبداعًا فلسفيًّا ينطوي على مغالطة روج لها الاستشراق، كما يعكس حجم الجهل بالتراث الفلسفي الإسلامي في شرق البلاد الإسلامية لا في غربها، لأن اهتمام العالم الغربي بالاطلاع على الفلسفة قد تركز في الماضي على التأثير الفعّال الذي مارسه الفلاسفة المسلمون على الصياغة التاريخية للفلسفة المدرسية المسيحية في القرون الوسطى… وبناءً عليه، فإن الفلسفة، وفقًا للمستشرقين، تنتهي بنحوٍ غامض بحدود القرن الثالث عشر؛ أي ذلك العصر الذي حدث فيه فك الارتباط الفكري بين الشرق والغرب، بعد أن كانت العلوم العقلية الإسلامية ذات نفوذ هائل في الغرب.
“ليس دقيقًا، ولا هو نفسيًّا سويٌّ الإصرار على اعتبار ابن خلدون آخر المبدعين العرب والمسلمين، ولا هو سديدٌ، أو نافعٌ ذلك الزعم الظنان الفضفاض. فذلك رأي، أو انطباع، أو تغييب وإبعاد، تلميعٌ وطمسٌ أو حجب. ومنطق المحاكمة تلك، أو أصولها وفلسفتها وأجهزتها، ليس دقيقًا؛ لأنه منطق قطعي، وثوقي، استبدادي، مهيمن”[2].
ثم توجه للمنجز الفلسفي ضربةٌ قاضيةٌ بعد ابن رشد، بل استمر تصاعديًّا وتكشف عن إبداع متميّز عرف بمذهب الحكمة المتعالية الذي صاغه صدر الدين الشيرازي (72/ 1571- 1640م) المعروف بـ الملا صدرا، أو صدر المتألهين، والذي نزعم أنه إبداع فلسفي تجازو المرحلة الرشدية، بحيث إنه قدّم مشروعًا فلسفيًّا ناضجًا ومتكاملًا استطاع الملا صدرا من خلاله أن يحدث نوعًا من استمرارية لا قطيعة للقول الفلسفي في تاريخ الحركة الفلسفية الإسلامية عندما تمكّن من حل مشكلات أساسية مزمنة واكبت التفكير الفلسفي قبل ابن رشد وبعده، كما قدّم ابتكارات جديدة تعد رائدة وسابقة لما تم التواصل إليه في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.
“إننا نعلم الآن أنه كانت ثمة مدارس أخرى، ونستطيع بصورة خاصة أن نقدّر لِمَ أحييت الفلسفة بصورة مجلّلة رفيعة في إيران والعالم الشيعي خلال العهد الصفوي، بينما يسود الاعتقاد في كل مكان من العالم الإسلامي أن التطور الفلسفي انتهى مع ابن رشد في القرن الهجري السادس (القرن الثاني عشر الميلادي). إن محقّقًا يوفَّق إلى أن يجد طريقًا إلى قلب الفكر الشيعي، سينكشف أمام عينيه أفق جديد، أفق لا شك في أن طرح مسألة وضع الفلسفة في الإسلام وارتباط الفلسفة بالمعتقد الإسلامي خارج نطاقه وبمعزل عنه، خطأ واضح”[3].
من هنا تبرز الأهمية الاستثنائية والحاجة الملحّة إلى تسليط الضوء والتكشيف عن مآل النظر العقلي في المجال الإسلامي في الفترة التي زُعم أنها فترة ظلام معرفي كما بعدها، رغم أننا لا ندّعي، في الوقت عينه، أن الانهمام الفلسفي لم يتعرّض إلى إخفاقات وعقبات عدة إثر حملة الغزالي الشهيرة، إلّا أن هذه الانتكاسات لم ترق إلى ما دُعي “بالضربة القاضية”، لا سيما في الشرق الإسلامي، تحديدًا إيران، حيث استمر الانشغال الفلسفي متلألئًا لم يتأثر كثيرًا بما كان يجري للنشاط العقلي في أمكنة أخرى من توهين وتقويض مثلًا. من هنا، أيضًا، تأتي أهمية الملا هادي بن مهدي السبزواري (1212 – 1289/ 1797-1878) التي تعتبر حلقة أساس في سلسلة الحلقات التي تبدّت من خلالها صورة التأمل الفلسفي في المجال العربي الإسلامي على مدى ساحة توتره ووجوده.
وهو بعدُ، لا يعتبر مؤسسًا لمذهبٍ جديدٍ في الحكمة، بل هو بالأحرى، أحد أركان مذهبٍ عُرف باسم الحكمة المتعالية؛ وهي نظام فلسفي خاص في قبالة سائر الأنظمة الفلسفية السائدة، تمكّن من إشادته الملا صدر الدين الشيرازي بعد تعمّقه في سبر أغوار الفلسفة المشائية بشقيها الأرسطي والسينوي والفلسفة الإشراقية والعرفان النظري والعملي مضيفًا إلى ذلك الآيات والروايات المحكمات، جامعًا كل ذلك في وليفة اتحادية منتجًا بعد ذلك كله مولودًا فريدًا ومميزًا أطلق عليه اسم الحكمة المتعالية.
ويُعتبر السبزواري من ورثة صدر المتألهين والتابعين له، ومن شارحي الحكمة المتعالية. وهو لم يكن تابعًا وشارحًا بالمعنى الحرفي، بل كان حكيمًا فيلسوفًا مستقل الرأي، وقد كانت له إسهامات وابتكارات عديدة في مختلف المجالات المنطقية والفلسفية والعرفانية[4]. وقد أصبحت كتبه محورًا لكبار أساتذة الحكمة المتعالية، كما شغفوا بعده بها من حيث الشرح والتعليق والتدريس، خصوصًا مؤلفه الأساس شرح المنظومة في الفلسفة والمنطق.
وإذا كان لنا أن ندرك ماهية التطور العقلي لـ السبزواري، فلا محيد لنا من إدراك مبدأ محوري شكّل العماد الذي يقوم عليه بنيانه الفكري؛ وهو العلاقة الضرورية المتبادلة بين الفلسفة والعرفان. وتحديدًا، المبدأ القائل بأن العرفان مجردًا من القوة العقلية النظرية المفهومية هو عرفان ناقص، تمامًا، كما أن الفيلسوف مجردًا من التجربة العرفانية المتمثلة في المعرفة الحضورية والمعيوشة للواقع العيني ليس إلا فيلسوفًا ناقصًا أيضًا.
إن نظام السبزواري في مجموعه، هو عبارة عن بناء مفهومي متين، هو ثمرة تفكير فلسفي مرتكز على حدسٍ صوفيٍّ عرفانيٍّ عميق للواقع. وكصوفي، كان السبزواري قادرًا، بسبب من تجربته الشخصية والعميقة على اختراق عمق ما يسمى عالم الوجود (Ocean of Being)، وعلى مشاهدة أسرار الوجود ببصيرته. وكفيلسوف، ذي قدرة تحليلية فائقة، كان قادرًا على تحليل تجربته الفلسفية الأساس إلى مفاهيم محددة جيدًا ليؤلف، بعدها، هذه المفاهيم بصورة منظومةٍ مدرسيةٍ (Scholastic)[5].
أما في ما خص واضع الدراسة؛ أي توشيهيكو إيزوتسو، فهو كان لا يزال مغمورًا، عربيًّا، إلى أن تُرجم له عام 2007م. كتاب “God and man in the Koran: Semantics of the Koranic weltanschauung”، (“الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم”)[6]. فقد كان قبل هذا التاريخ مجهولًا تمامًا في العالم العربي إلا ممن كان له اطلاع وثيق على الفلسفة ذات الجذر الإيراني، حتى إن عَلمًا بارزًا من أعلام الفلسفة العربية المعاصرة، وهو عبد الرحمن بدوي، لم يكن يعرف بوجوده؛ حيث إن موسوعته (موسوعة المستشرقين) لم تتسع له، على الرغم من أنها وسعت لعشرات غيره ممن لم يكن لهم نصيب في الإضاءة على موروثنا الفكري سوى بضعة مقالات ودراسات متواضعة.
ويعتبر إيزوتسو واحدًا من أبرز الباحثين اليابانيين في مجال الدراسات الإسلامية الذين أنجبتهم اليابان في العصر الحديث. فهو لم يكن ملمًّا فقط باللغات الرئيسة للحضارات الغربية والإسلامية وآسيا الشرق الأقصى؛ بل كان على دراية بحوالي عشرين لغة حية؛ إذ كانت موهبته في هذا المجال فذة وفريدة من نوعها. فهو كتب باليابانية والإنكليزية وقام بعمل جبار ألا وهو ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية، مع ما ينطوي عليه ذلك من براعة وتمكّن باللغة العربية.
وفي الوقت الذي يملي علينا الانفجار العلمي والثورة المعرفية مزيدًا من التخصص في العلوم، فإننا نرى في إيزوتسو موسوعية مثيرة في نطاق معارفه. فنظرة واحدة على أعماله المنشورة وغير المنشورة، المكتوبة أو المنقولة من العديد من لغات العالم إلى اللغتين اليابانية والإنكليزية، تشهد على سعة أبحاثه؛ إذ إن دراساته تمتد من الفلسفة اليونانية القديمة وفلسفة القرون الوسطى الغربية مرورًا بالفلسفة اليهودية والفلسفة الهندية والفكر الصيني بشقيه الكونفوشي والتاوي إلى فلسفة الزن البوذية والشينتاوية، ثم امتدادًا إلى الفلسفة والتصوف الإسلاميين والدراسات القرآنية، هذا فضلًا عن ترجمته لمعاني القرآن الكريم إلى اليابانية كما سلف.
إن الهدف من ترجمة هذه الدراسة هو أن نوفر للقارئ صورة واضحة قدر الإمكان عن الحكمة المتعالية التي أسسها ملا صدرا واستمرت مع السبزواري؛ لإدراك أهميتها كنهاية قصوى ومبدعة في تاريخنا الفلسفي. فالباعث الأول هو التعريف بفلسفة السبزواري تعريفًا عربيًّا، سيما على المستوى الأكاديمي؛ لأن هذا الميدان ما زال أرضًا بكرًا وخصبًا ينتظر أهل هذا الفن لاستكشافه، لكسر طوق الاستشراق من حول عقلنا العربي – الإسلامي، ولتهديم ثوابته وبداهته الوهمية التي أرّخ من خلالها لفلسفتنا العربية الإسلامية.
مضافًا إلى أن هدفه من وضعه للدراسة تمثّل في عرض الخطوط والمصطلحات الرئيسة في فلسفة السبزواري عرضًا تحليليًّا مقارنًا إلى حدٍّ كبير، فإن إيزوتسو كان له هدف ثانٍ ملفتٌ تمثل في “تسليط الضوء على وثاقة عُلقة هذا النوع من الفلسفة بالوضع المعاصر للفلسفة العالمية. وإن لمن المثير ملاحظة هذه الوثاقة غير المتوقعة القائمة بين هذا النوع من المدرسية الشرقية البادية وكأنها “قروسطية” (medieval) ومهجورة الآن، وبين المبادئ المحدثة أخيرًا للفلاسفة الوجوديين المعاصرين في الغرب من أمثال هيدغر وسارتر[7].
ثمة هدف ثالث يضيف إيزوتسو قائلًا: “إني على قناعة جازمة بأنه آن الأوان للقيمين على حكمة الشرق البدء ببذل جهدٍ واعٍ وممنهج للمساهمة إيجابيًّا في إنماء وتطوير الفلسفة العالمية، ولإنجاز هذا الهدف، من ناحية ثانية، فإن على الشرقيين أنفسهم أن يظهروا إرثهم الفلسفي الخاص بهم تحليليًّا وبعمق، وأن يخرجوه من ظلمة الماضي مهما كانت وثاقة علقته المعاصرة، وأن يقدّموا نتائج أبحاثهم بصورة مناسبة للوضع الفكري السائد حاليًّا”[8]
* مداخلة قدّمها الأستاذ بلال لزيق خلال مناقشة كتابه أصول فلسفة السبزواري.
[1] مثل فارسي يشير إلى خاتمة المطاف، وأن ليس بعد هذا الحد أو الأفق أي حد أو أفق آخر.
[2] علي زيعور، القول الفلسفي وحالات نفسية في الشخصية والمجتمع والعقل، بيروت، دار الهادي، الطبعة 1، 2008م، الصفحة 311.
[3] هنري كوربان، مقام صدر الدين الشيرازي في الفلسفة الإيرانية، ترجمة: سيد حسين نصر، مجلة كلية الآداب بجامعة طهران، العدد الأول، السنة الثانية عشرة، نقلًا عن “فلسفة صدر المتألهين الشيرازي: المباني والمرتكزات”، مجموعة من المؤلفين، بيروت، دار المعارف الحكمية، الطبعة 1، 2008، الصفحة 113.
[4] غلام حسين عماد زاده، نظرية المعرفة عند الملا هادي السبزواري: معرفة الأسماء والصفات الإلهية، أطروحة أعدت لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، الجامعة الإسلامية في لبنان، كلية الدراسات الإسلامية، 2011، الصفحات 287- 369.
[5] عبد الرحمن بدوي، الموسوعة الفلسفية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة 1، 1984، الجزء 2، الصفحة 599.
[6] ترجم هذا الكتاب في عام 2007 م كل من هلال محمد الجهاد وعيسى علي العاكوب عميد كلية الآداب بجامعة حلب. الأول أصدره من خلال المنظمة العربية للترجمة في بيروت، والثاني أصدره من خلال دار الملتقى بحلب. وفي عام 2008م، ترجم العاكوب كتابًا ثانيًا لإيزوتسو بعنوان: Ethico Religious Concepts in the Quran (المفهومات الأخلاقية – الدينية في القرآن). وفي عام 2010 م أيضًا، ترجم العاكوب نفسه كتابًا ثالثًا بعنوان: Concept of Belief in the Islamic Theology (مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي)، والاثنان صدرا عن دار الملتقى بحلب أيضًا.
[7] التذييل من الباب الثاني للدراسة.
[8] خنجر حمية، نظرية الحركة والزمان عند صدر الدين الشيرازي.
المقالات المرتبطة
قراءة في كتاب “مقاربات منهجية في فلسفة الدين” | حين ينظر المتديّن إلى دينه من بُعد
تخيَّر المؤلف الشيخ شفيق جرادي لنفسه في عمله هذا “مقاربات منهجية في فلسفة الدين” أن يقرب أمرًا لا يؤخذ عنده
هل لدينا علم كلام جديد؟
إن التغيّر قد أصاب المقاصد العامّة التي يتحدث عنها العلم القديم، فهذا أمر مرفوض بالكلّية في علم الكلام لأن مقاصده الأساسية التي يبحثها ويدافع عنها هي الإسلام، وهو لا يقبل التغيّر في أصوله ومقاصده الأساسية
عاشوراء: منهج إصلاحيّ أنتروبولوجيّ
التديّن حاجة فطريّة لدى الإنسان، تتجلّى في لجوئه إلى الله تعالى عند الشدّة، وهذا ما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾