أكراد مصر… ثقافة عربية وهوية مصرية
مقدمة
هذا بحث ثقافي فكري، وليس سياسيًّا، حتى لو جاءت به بعض المفردات السياسية، فلا نتطرق للشأن السياسي في كردستان بصورة عامة، ولا عن مآسيهم، التي يرون فيها أنهم شعب بلا دولة، ووطن بلا حدود، وجسد جغرافي مبعثر… وهم في كل الأحوال شعب حيوي متميز في كرديته وإسلامه، أضاف الكثير إلى الثقافة العربية والإنسانية التي زالت آثارها ممتدة إلى اليوم.
البحث يدور حول الوجود الكردي في مصر بشكل عام، أو عن المصريين من ذوي الأصول الكردية، مثلهم مثل المصريين من ذوي الأصول العربية … الحجازية والعراقية والمغربية والشامية، أو من السادة الأشراف، أو غيرهم من مكونات الشعب المصري، مثله مثل باقي الشعوب العربية والإسلامية.
لقد كانت المنطقة العربية الإسلامية، عبر التاريخ الإسلامي إلى ما قبل العصور الحديثة، تشهد حالة من “السيولة السياسية”، كما يرى أستاذ الجغرافيا الدكتور جمال حمدان في كتابه “دراسات في العالم العربي”، وأن المنطقة العربية بهذه السيولة، شهدت انتقال الأسر من مكان إلى مكان دون قيود أو حدود، ودون أدنى شعور بالغربة أو إحساس بالوحدة.
وكانت الهجرات المتتالية من وطن إلى وطن تذوب وتنصهر بالتزاوج بعد ثلاثة أجيال أو أربعة أجيال على أقصى تقدير، ولكنها تحمل أسماء المدن والدول التي جاؤوا منها، مثل عائلات البغدادي والعراقي والشامي والدمشقي والتونسي والمغربي والمصري … إلخ من أسماء العائلات.
ثقافة الشعب الكردي الإسلامية
الشعب الكردي شعب مسلم متدين، معتدل في تدينه، متصوف في روحانيته، وكثير منهم أتباع الطريقة الرفاعية والطريقة النقشبندية، بعيدًا عن أي تشنج ديني، وساهم الأكراد في نشر الإسلام في شرق آسيا.
ولقد ظل الشعب الكردي جزءًا لا يتجزأ من دولة الخلافة، منذ الخلافة الأموية وحتى سقوط الخلافة العثمانية، أي منذ اعتنق الأكراد الإسلام، وأغلبهم من أهل السنة والجماعة.
وأشهر من ظهر منهم هو القائد صلاح الدين يوسف بن أيوب، الذي أسقط الدولة الفاطمية، وأعادها إلى الخلافة العباسية إسميًّا، ولكنه كان الحاكم الحقيقي لمصر والشام والحجاز واليمن. ويعتبره المسلمون المنتصر على الصليبيين، ويفتخر به الأكراد، رغم خطاياه في القضية الإسلامية، ومنها القضية الكردية ذاتها، وتحتاج إلى دراسة مستقلة.
والمشكلة للشعب تتلخص في عدم وجود كيان قومي لكردستان، وهي مشكلة سياسية وثقافية واستعمارية تحتاج إلى دراسات ووثائق وسجلات، ودراسات تاريخية، حتى يمكن الوصول إلى حل لمشكلاتهم.
ونبتعد قليلًا عن السياسة، لنواصل المقال كما أردنا، نكتب عن عالم الأكراد داخل الديار المصرية.
الوجود الكردي في مصر
بعد الفتح الإسلامي لكردستان ودخول الأكراد كمكوّن جديد إلى الأمة الإسلامية، ساهم الكرد مع إخوانهم من المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية الزاهية، وأخذوا يتوافدون على مصر، كرجال حكم وإدارة وقادة عسكريين وجنود وتجار وطلبة علم في الجامع الأزهر طوال التاريخ الإسلامي، ومنهم باحثون عن عمل، ولاجئون من اضطهاد … إلخ.
وأصبحوا جزءًا من المجتمع المسلم حينها، ليساهموا بعد الفتح في بناء الحضارة الإسلامية، وتحديدًا مع تولي صلاح الدين الأيوبي “الكردي” سلطنة مصر، ومعه ذووه.
وعاشوا في مصر واستولوا على الأراضي ووزعوها على أفراد الأسرة الأيوبية، ومن ثمّ عندما سقطت الدولة الأيوبية، هربت باقي الأسرة خارج مصر، وانقطع نسلهم، ولكن الشعب الكردي لم ينقطع عن الهجرة إلى مصر.
ويعدّ الجامع الأزهر منذ تأسيسه في عهد الدولة الفاطمية قبلة الراغبين في النهل من علوم الدين، إلا أن الطلبة الأكراد كان لهم وضع خاص، حيث كان يوجد في الجامع الأزهر “رواق” خاص بهم، كما كانت أروقة الشوام والمغاربة، وكانت له أوقاف، حيث يضم غرفًا للطعام وأخرى للنوم، إضافة إلى المكتبة، ويحصل الطلاب المقيمين فيه على الطعام والكساء من الأغنياء، ومن الأوقاف المسجلة عليه.
هاجر الكثير من الأكراد إلى مصر وانقطعت جذورهم مع موطنهم الأول، ولم يبقَ لهم من تلك الصلة سوى الاسم، وخرج الكثير من أبنائهم وأحفادهم من رجال الإدارة والأدباء والشعراء والفقهاء والفنانين، وأسدوا خدمات جليلة لوطنهم مصر، لكنهم لم ينكروا كرديتهم.
الأكراد في مصر في العصر الحديث
لم يشذ الأكراد في العصر الحديث عن ذلك، فكانت هجراتهم إلى مصر مستمرة خاصة طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث كانت مصر في ذلك الزمن ملاذًا للمضطهدين من مثقفي الشام.
– كما جاء كثير من مثقفي الأكراد إلى مصر وأثروا جميعًا الحضارة العربية المعاصرة.
– ومن الذين أثروا الفكر العربي من غير الأكراد المؤرخ “جورجي زيدان”، والصحفية المشهورة “فاطمة اليوسف، أو روزا اليوسف”، التي أسست دار روزا اليوسف التي تصدر حتى اليوم، والأخوين “بشارة وسليم تقلا” مؤسسي جريدة “الأهرام” في مصر، والفنان “بشارة واكيم”، و”يعقوب صنّوع” ، وغيرهم كثيرون أثروا الثقافة العربية والفن العربي.
– ولقد هرب الأرمن من الاضطهاد العثماني، ولجأ الآلاف منهم إلى مصر، واتخذوها وطنًا، ومع الزمن تمصّر الأرمن بالهوية، وتعرّبوا باللغة العربية، وذابوا في المجتمع المصري، وهو نفس ما حدث للأكراد.
وبالفعل وصلت أسر كردية إلى مصر وتزوجوا فيها، وذابوا وانصهروا في المجتمع المصري.
ولا ننسى دور الإسلام في التقريب بين كافة المسلمين وتذويب الفوارق العرقية فيما بينهم، ولأن المصريين عرب يتكلمون اللغة العربية، فقد تعرّب الأكراد، وصارت ثقافتهم عربية، وهويتهم مصرية، وتناسى الأحفاد لغة الآباء، وصار للأكراد أصول عرقية كردية بهوية مصرية وثقافة عربية إسلامية قرآنية، يفتخرون بها، كما يفتخر العرب بالأكراد.
مفكرون وعلماء أكراد في مصر
وعندما استقر الحال بمثقفي الأكراد الذين أسهموا في الحياة الثقافية المصرية بصورة ملهمة، تثبت حيوية شعب كردستان وثقافته وأمله في الحرية والعدل.
وفي القاهرة تم إصدار جريدة “كردستان” يوم 22 أبريل/نيسان 1898 ، وهي أول جريدة كردية باللغة الكردية في التاريخ.
وقد تم تأسيسها على يد مقداد بدرخان، وذلك بموافقة من الخديوي “عباس حلمي الثاني” حاكم مصر وقتها. وما زال لأسرة بدرخان وجود ثقافي وفني مصري عروبي الثقافة، مصري الهوية بعد الانصهار بين الأعراق داخل مصر.
ومن البارزين الأكراد المؤثرين في الثقافة العربية عمومًا، كلًّا من:
– الإمام المصلح “محمد عبده”، والكاتب المشهور “عباس محمود العقاد”، والأديب “محمود تيمور” وشقيقته “عائشة التيمورية”، ومحرر المرأة “قاسم أمين”، وأمير الشعراء “أحمد شوقي”، والكاتب الصحفي “محمود السعدني”، والشيخ المشهور قارئ القرآن الكريم عبد الباسط محمد عبد الصمد.
– ومن الفنانين من ذوي الأصول الكردية الذين تركوا بصمة في الفن المصري، منهم: “محمود المليجي، وعادل أدهم، وصلاح السعدني، وأحمد رمزي، وسعاد حسني وأختها نجاة الصغيرة، والمخرج السينمائي أحمد بدرخان وابنه علي من السلالة البدرخانية المشهورة، والفنان الموسيقار عمر خورشيد، والفنانتان شيرين وشريهان”.
هؤلاء من استطعنا حصرهم من المميزين المصريين من ذوي الأصول الكردية، لكن يوجد غيرهم مصريون .. منهم المشهور ومنهم المغمور، كما هو الحال عند كافة الشعوب.
الانصهار الكردي في التربة المصرية
منذ عدة سنوات التقيت في المركز المصري للدراسات والبحوث الكردية بالقاهرة، الذي يرأسه ويديره الأستاذ “رجائي فايد” المتخصص في الشأن الكردي، وصاحب كتاب “أكراد نعم وعراقيون أيضًا”. التقيت بالأستاذ “الملا حسين”، والذي كان يشغل الممثل الرسمي للرئيس العراقي “جلال طالباني” في مصر، وحكى لنا أنه ذهب مع وفد كردي إلى مدينة “الكردي”، في دلتا النيل في شمال مصر، ومن اسمها يتبين أنها مدينة كردية الأصل، يقول إنه ذهب بالفعل مع الوفد المصاحب له. استقبله الأهالي في “الكردي” استقبالًا حارًّا حسنًا، ولكنه أيضًا لم يجد ما يبحث عنه، فهو ذهب إلى مدينة يعتقد أنها كردية الثقافة واللغة، ولكنه رأى من قابلهم أنهم مواطنون مصريون لا يتكلمون سوى اللغة العربية، ولا يعرفون كلمة من اللغة الكردية.
بعض أهالي مدينة الكردي من المثقفين يعرفون أصل كلمة الكردي، والآخرون لا يعلمون، ولا يدركون سوى مصريتهم وعروبتهم وإسلامهم، الذي يجمعهم مع الأكراد وغير الأكراد من المسلمين.
قلت له: إن الأكراد الذين استوطنوا مصر خلال قرون، ذابوا كما ذاب غيرهم، وتوجد قرى أخرى وشوارع، تحمل اسم الكرد أو الأكراد، مثل:
– “قرية منشأة الكردي” في محافظة الغربية، و”بنو زيد الأكراد”، و”جزيرة الأكراد” في صعيد مصر، “ومدينة الكردي”، و”كفر الكردي”، و”ميت الأكراد” في محافظة الدقهلية.
تقول الكاتبة الدكتورة درية عوني في كتاب “الأكراد في مصر عبر العصور”، الذي ألّفته مع الدكتورين محمود زايد، ومصطفى محمد عوض عام 2013: إن كلمة الزمالك، وهي جزيرة مأهولة في القاهرة، كما أنها منطقة راقية يعيش فيها الأثرياء وكبار الفنانين والكتّاب والمثقفين، هي كلمة كردية الأصل وتعني مصيف الملوك، أو مصيف المشاهير.
وهي بالفعل كذلك، خاصة عندما نعلم أنه أُختلف حول معناها، وتقترب من اللغة الكردية، ولكنها ذابت داخل الثقافة العربية عمومًا، وأن مردود وإنتاج المثقفين من ذوي الأصول الكردية يعود إلى الثقافة العربية، تمامًا كما يعود إنتاج الشاعرين العراقيين الكرديين “جميل صدقي الزهاوي”، و”بلند الحيدري” إلى الثقافة العربية لا الكردية…
إذاعة كردية في القاهرة
عمومًا ومع امتداد الزمن ظلت مصر مهتمة بالقضية الكردية على المستويين السياسي والثقافي، خاصة في فترة الرئيس جمال عبد الناصر أثناء المد القومي، ففي عهده وفي عام 1957، تم إطلاق إذاعة مصرية ناطقة باللغة الكردية من القاهرة، أو القسم الكردي بإذاعة القاهرة، وكانت تبث البرامج الأدبية والشعر الكردي والموسيقى والأغاني الكردية ورسائل المستمعين، وهو الأمر الذي أزعج الدولة التركية، ويروى أن السفير التركي في القاهرة ذهب في الفجر إلى مقر الرئيس عبد الناصر، لتسجيل احتجاج أنقرة على بث إذاعة كردية من مصر.
فقال له الرئيس ناصر في هدوء: “معلوماتي تفيد بأنه لا وجود للأكراد في تركيا، كما تقولون، وأن هؤلاء الذين يوصفون بأنهم أكراد ما هم إلا أتراك جبليون، لماذا إذن أنتم غاضبون من إذاعة كردية؟! فسكت السفير ولم يعلق”.
وظلت الإذاعة الكردية تبث الثقافة الكردية، وكما كانت أول جريدة كردية كانت في القاهرة هي جريدة “كردستان”، كانت الإذاعة أيضًا في القاهرة.
وظلت الإذاعة الكردية تبث إرسالها حتى عام 1968 عندما قللت مدة إرسالها، ثم توقفت تمامًا، بعد وفاة الزعيم جمال عبد الناصر…وتوقفت لأسباب سياسية أكثر منها ثقافية، وإن ظلت مصر تحتفي بالأصول الكردية.
وفي النهاية الشعب الكردي شعب له ثقافته الخاصة، وميراثه الحضاري الإسلامي، وهو دائمًا موضع فخر للأكراد وللعرب وللمسلمين، فهم في النهاية أضافوا للثقافة العربية والإسلامية، وأنار الكثيرون منهم دروب إحياء العقل العربي والإسلامي…
المقالات المرتبطة
قليلٌ من الصبر وبعض التواضع
تصاب بالدهشة عندما ترى كل هذا النقد لموقف المقاومة فيما يتعلق بقضية العمل على فتح الطريق لاستخراج النفط والغاز، وكذلك
اليسار وعاشوراء: مشهد بانورامي
حين دعاني “المجمّع الثقافي الجعفري” للحديث عن “الإصلاح العاشورائي في خدمة الإنسان”، وجدتها فرصة مناسبة للحديث…
المرأة قوة التغيير القادمة..
السيدة الزهراء (ع).. لم تنتظر حركة الرجال لإنصافها، وإنما هي التي دشنت مسار الوقوف بوجه الزيف والانحراف.