حقيقة مفهوم الأثير
يتردّد على مسامعنا في أروقة الإعلام مصطلح “الأثير”؛ وفي استهلال الحديث في الإذاعات خصوصًا، ويعطونه هالة من التأثير السمعي “الشفاء عبر الأثير، الجسم الأثيري، أثير الحبّ، وأثير الكراهية” وغيرها من العبارات.
كلها عناوين لموضوعات ما زالت مطروحة وحاضرة في كلّ مجالات الحياة، الروحية والأدبية والإعلامية والفنية والاجتماعية، على اعتبار أنّ الأثير هي المادة الأساسية في بناء منسوج الكون، وهو فرضية لوسط مادي ليس له لون أو رائحة أو وزن، هو مادّة تملأ ما بين السماء والأرض، وما بين النجوم والكواكب، وتتخلّل كلّ الأجسام وكلّ الأشياء من حولنا، وكلّ شي في الكون، ومن خلاله كان تفسير كيفية انتشار الضوء على شكل حركة موجيّة في حيّز فارغ، فهو وسط يملأ الفضاء وجميع الفراغات فيه.
من أين جاءت فكرته؟ وهل هو موجود حقًا؟ وهل ينتقل الصوت من خلاله؟
جاءت فكرة الأثير لتفسّر انتقال الضوء عبر الفضاء، وبما أن الضوء موجات – بحسب ما كان سائدًا سابقًا- وهذه الموجات تتحرك من خلاله، فقد وُضعت الفرضيات والتكهنات لتعطي فكرة عن هذا الوسط الغريب. وقالوا إنه ساكن، وفي بحره تتحرك الأرض والكواكب، وكل شيء في الكون يُنسب إليه.
هذه الفكرة كانت تتناقض مع نسبية غاليليو التي تقول: إنه لا يوجد في هذا الكون “إطار إسناد قصوري مطلق”، وكل القصورية لا نستطيع أن نتحدث عنها إلا في أطر إسناد أخرى، ومع ذلك قرّر العلماء قبول فكرة الأثير لأنها كانت تحل مشكلة موجات الضوء.
لكن كل هذه الفرضيات لم تكن قوية لما فيه الكفاية، بمعنى أنها كانت محتاجة إلى تجريب وتهذيب الأفكار المنطقية والبناء عليها لإثبات وجود الأثير، وإلا ستظل هذه الفكرة غير موجودة على أرض الواقع، لذلك كان إثبات وجوده ضرورة.
ومن هنا كانت التجربة الحاسمة لهذه الفكرة في عام 1887، حيث قام ألبرت ميكلسون، وإدوارد مورلي بتجربة مفصلية في تاريخ الفيزياء، حيّرت نتائجها العلماء لسنوات، وشكلت نقطة تحول في تاريخ الفيزياء.
وهذه التجربة كانت دقيقة لقياس سرعة الكرة الأرضية بالنسبة للأثير. ومبنية على فكرة تعيين سرعة الضوء في اتجاهين متعامدين. وذلك في مقارنة الزمنين اللذين يستغرقهما مساران ضوئيان متساويان يبدأن من نقطة معينة ويعودان إليها… أولهما موازي لحركة الأرض المزعومة عبر الأثير .. وثانيهما متعامد مع اتجاه هذه الحركة باعتبار أن الأرض تسبح في “أثير” بسرعة 30 كيلومتر في الثانية. وكان يُفترض أن يلاحظا فرقًا يمكن حسابه من تفحص نمط تداخل الشعاعين، وهذه هي الفكرة الأساسية فيما يدعى “مقياس التداخل أو المدخال”، وهذا أشبه بمسألة السباحيْن اللذين يتمتعان بقدرات مماثلة، ويقطعان مسافتين متساويتين من نقطة بداية مشتركة والعودة إليها، فيسبح أحدهما بموازاة التيار المائي (معه وضده ذهابًا وإيابًا)، ويسبح الثاني باتجاه متعامد مع التيار.
وكانت نتيجة التجربة صادمة وغير متوقعة!
وجدوا أن لا فرق مطلقًا في الزمانيين مما أربك علماء الفيزياء، ومع ذلك بقوا متشبثين بالأثير.
ولإنقاذ فرضية الأثير والخروج من ذلك المأزق، أعاد الفيزيائي لورينتز التجربة بعد أن أحدث في تجربة ميكلسون تقلّص في طول المسافة التي كان يقيسها ميكلسون ومورلي في تجربتهما، وبالفعل جاءت تحويلاته بتقلص لتلك المسافة متعلقًا بالنسبة بين سرعة الأرض v في الفضاء، وسرعة الضوء c، وأثبتت تحويلات لورينتز على وجود سرعة قصوى في الكون لا يمكن للأجسام تعديتها، ألا وهي سرعة الضوء c في الفراغ، ولكنّه لم يصل إلى نتيجة واضحة في الخروج من مأزق الأثير. وإنما افترض أن الأثير يؤثر في المادة بطريقة معقدة، وغير مفهومة.
وبينما كان العلماء يبحثون عن تفسير آخر لانتشار الضوء على ضوء فرضية الأثير المبنية على ميكانيكا نيوتن، جاء الحل في عام 1905 على يد الفيزيائي ألبرت أينشتاين، من خلال نظريته الخاصة في النسبية، التي فسّرت كيف يسلك الضوء، وكيف أنه لا يعتمد على وجود الأثير. وفسّر مسألة انتشار الضوء على أساس أن الضوء هو أقصى سرعة في الكون، وأنها ثابتة في الفراغ لا تتغير. وتبلغ 300.000 كيلومتر في الثانية (أي يلف شعاع كهرومغناطيسي مثل الضوء حول الأرض سبع مرات في ثانية واحدة).
وقد ضمنت النظرية النسبية لأينشتاين تحويلات “لورينتز”، وألغت تحويلات “جاليليو” (هي تقريبية بمقارنتها بتحويلات لورينتز)، وقال: إنه لا يصح استخدام تحويل “جاليليو” في سرعات كبيرة، وإنما فقط في السرعات العادية اليومية على الأرض، وأما في الفضاء فيجب استخدام تحويلات “لورينتز” حيث لا تُلحظ فيها الفوارق القليلة. وأثبت أنه لا وجود لأثير ينتقل عبره الضوء وبالتالي الصوت.
وقام أينشتاين بتعريف مبدأ النسبية كالآتي: “القوانين التي تغير حالات الأنظمة الفيزيائية لا تعتمد على إحداثيات؛ أي من نظامين يتحركان بالنسبة لبعضهما البعض بسرعة منتظمة”. وقد أجهزت النظرية النسبية على جوهر الأثير الافتراضي.
من هنا نجد أن فرضية الأثير الذي يملأ الكون وينتقل عبره الصوت، والتي دامت لقرون، لم يستطع علماء الفيزياء إثباتها تجريبيًّا، بالرغم من التجارب الكثيرة التي قاموا بها، بل بالعكس أثبتت تجاربهم أنه لا وجود للأثير، وأنه لا فراغ في الكون، وإنما تملأه مادة مظلمة وجسيمات افتراضية…
وكما أن فرضية الأثير ما زالت متداولة بالرغم من إثبات بطلانها منذ أكثر من مئة عام، يوجد الكثير من الفرضيات العلمية التي اندثرت مثل أزلية الكون، وغيرها من النظريات التي لم ترَ الضوء في التجربة حتى اليوم، وهي ما زالت تُدرس في جامعاتنا، وتُبثّ في وسائلنا الإعلامية والتلفازية، وللأسف نجد العديد من الأشخاص المثقفين على مختلف مستوياتهم قد غفلوا عن معرفة هذا التطور الجديد من الدراسات والاكتشافات الحديثة.
-Albert A. Michaelson And Edward W. Morly, Nov. 1887. 22, “On The Relative Motion Of The Earth And The Luminiferous Ether”, The American Journal Of Science – Third Series, Vol. XXXIV, Pp. 334-345.
– فيرنر هايزنبرغ، الفيزياء والفلسفة، ترجمة: الدكتور أحمد مستجير، المكتبة الأكاديمية، 1992، الصفحات 77-88.
المقالات المرتبطة
تاريخ المغرب العربي
يعلن هذا البحث الذي بين أيديكم عن افتتاح سلسلة حول فن العمارة في الإسلام، ستنشر على الموقع تباعًا، انطلاقًا من هذا الأسبوع،
قراءة في كتاب “ما العدالة؟ معالجات في السياق العربيّ” لمجموعة باحثين
“ما العدالة؟ معالجات في السياق العربي” كتاب صادر عن المركز العربي للدراسات، يقدّم من خلال أراء مجموعة من الباحثين
هل حب الحياة نقيض الحرية؟!!
هل الحياة مقصد من مقاصد القيم والأخلاق التي تطلب لذاتها؟ أم إنها رغبةٌ وميلٌ إنساني يطلبها الإنسان لما تحمل من