من أين تتأتّى شرعيّة النظام السياسيّ في الإسلام؟
قبل الإجابة على هذا السؤال نشير باقتضاب إلى ماهيّة الشرعيّة، وظروف طرحها كواحدة من إشكاليّات الاجتماع السياسيّ.
الشرعيّة هي، بكلّ بساطة، وصف للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، عندما تكون إيجابيّة بمعنى أنّها تسهم في تحقيق الأهداف العامّة للمجتمع السياسيّ في الاستقرار والأمن والتقدّم والمنعة في مواجهة الفتنة الداخليّة والاعتداءات الخارجيّة.
طرح مفهوم الشرعيّة في العصر الحديث من قبل علماء السياسة والاجتماع في محاولة منهم لإيجاد مبرّرات ومسوّغات عقلانيّة مقبولة لخضوع إرادات الأفراد والجماعات في المجتمع السياسيّ لإرادة الجهة التي تمارس السلطة والحكم.
وكان من الطبيعيّ أن لا يطرح هذا المفهوم إلّا في أجواء الرؤى المستحدثة في النظر إلى الناس بوصفهم متساوين في القيمة والاعتبار والحرّيّة والمسؤوليّة. والتخلّي عن فكرة التفاوت في هذه الأمور بين الناس تبعًا لمنابتهم الطبقيّة، كما كانت سائدة في أوروبا وفي كثير من المجتمعات السياسيّة الأخرى.
في أجواء هذه الرؤى، كان من الطبيعيّ أن يطرح السؤال: ما الذي يسوّغ أو يبرّر عقلًا خضوع إرادات الأفراد والجماعات في مجتمع سياسيّ ما لإرادة أفراد آخرين يشكّلون السلطة السياسيّة لهذا المجتمع؟ وعلى الرغم من كثرة الأجوبة واختلافها في مبانيها، فإنّها تلتقي على أنّ قبول أبناء اجتماع سياسيّ ما بالسلطة السياسيّة لهذا الاجتماع واستجابتهم لأوامرها ونواهيها بصورة طوعيّة هو الذي يجعل هذه السلطة شرعيّة. بصرف النظر عن طبيعة المسوّغات والمبرّرات المعتمدة من قبل الناس لهذه الاستجابة وذلك القبول.
بناءً على ما تقدّم نطرح السؤال:
ماذا تعني شرعيّة نظام سياسيّ؟
إنّها تعني مطابقة سلوك السلطة السياسيّة في إنفاذ مهامّها لمجموعة من القواعد التي تؤمن بها غالبيّة أعضاء المجتمع.
هذه القواعد تتناول:
- مصدر السلطة في الاجتماع السياسيّ؛ أي المبدإ العام الذي يسوّغ لفئة محدودة من فئات المجتمع أن تمثّل الصالح العام لمجموع المجتمع، ويجيز لها بالتالي رسم سياسات العلاقة بينها وبين سائر أعضاء المجتمع، وإلزامهم طوعًا أو كرهًا، للاستجابة لهذه السياسات وتنفيذها. فإذا كان الصالح العام هو ما يخصّ كلّ الناس في اجتماع سياسيّ، والخاص هو ما يخصّ فئة أو جماعة دون غيرها من الفئات والجماعات، فالشرعيّة تعني المبدأ المسوّغ لخضوع الخاصّ للعام؛ أي خضوع المصالح الفئويّة للمصلحة العامّة. وعلى هذه القاعدة نورد الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: لكي يكون هذا المبدأ المسوّغ فعّالًا، أي قادرًا على تحقيق الهدف منه في ضمان أمن المجتمع واستقراره وتقدّمه داخليًّا، وضمان القدرة على الدفاع عن نفسه اتجاه أيّ عدوان خارجيّ، فينبغي أن يكون هذا المبدأ موضوع إيمان وقبول من الأغلبيّة العظمى من أبناء المجتمع، وإلّا فإنّه لا يصلح لأن يكون مبرّرًا لممارسات السلطة السياسيّة لا سيّما لجهة ممارستها الإمرة التي تستوجب الطاعة من قبل سائر أعضاء المجتمع أفرادًا وفئات. وذلك في سبيل تحقيق مصلحة مشتركة لكلّ من الآمر والمطيع.
الملاحظة الثانية: لا يتعلّق الأمر بنوع المبدأ (حقّ إلهيّ، أرستقراطيّة النسب أو المال، الكاريزما الشخصيّة، الاعتقاد العقلانيّ بقيمة مطلقة..)، بل بمدى الإيمان بهذا المبدأ؛ أي بمدى اتّساع أعداد المؤمنين به داخل الاجتماع السياسيّ.
الملاحظة الثالثة: بما هو كذلك، فإنّ هذا المبدأ على صلة مباشرة بالنظرة القائمة داخل الاجتماع السياسيّ للوجود والحياة والإنسان، وبالتالي على صلة مباشرة بنوع الأيديولوجيا السائدة سواء كانت دينيّة أم فلسفيّة. ولذا، يمكن وصف هذا المستوى من الشرعيّة بالشرعيّة الأيديولوجيّة، أو المشروعيّة كما يسمّيها بعض علماء الاجتماع والسياسة.
الملاحظة الرابعة: هذا المستوى من الشرعيّة يشكّل قاعدة الارتكاز لغيره من المستويات؛ أي الشرعيّة بالمعنى الدستوريّ، والشرعيّة بالمعنى القانونيّ، ولكنّ هذا المستوى من الشرعيّة يبقى مُضمرًا لدى المشترع سواء عندما يصوغ الدستور أو عندما يصوغ القوانين، ولا يشار إليه غالبًا إلّا في مقدّمة الدساتير، وكلّما قضت حاجة ربط المواد الدستوريّة بالمبدإ العام.
- نظام الدولة في ما يعود لتوزيع السلطات والعلاقات في ما بينها وكيفيّة إنشاء السلطة وتداولها، والحقوق والواجبات العامّة والمتبادلة بين السلطة السياسيّة وسائر فئات المجتمع، وكيفيّة تطبيقها ونطاق سيادة الدولة؛ أي حدودها. هذا المستوى من الشرعيّة هو الشرعيّة الدستوريّة فما هو شرعيّ هنا هو يأتي متطابقًا مع إحدى مواد الدستور.
- منظومة قواعد أمريّة وزجريّة تقرّها السلطة الشرعيّة ذات السيادة في مجتمع ما، استنادًا إلى الشرعيّة الأيديولوجيّة والشرعيّة الدستوريّة، وذلك بألفاظ واضحة ومحدّدة لتشكّل قواعد مسلكيّة عامّة يستند إليها القضاة في إصدار أحكامهم اتجاه مخالفة بعض هذه القواعد. منظومة القواعد هذه تشكّل ما يسمّى المدوّنة القانونيّة. والشرعيّة هنا، تعني مطابقة سلوكات الأفراد وأحكام القضاة لمضامين هذه المدوّنة القانونيّة.
على ضوء ما تقدّم، نصل إلى الكلام على مآتي أو مصادر شرعيّة النظام في الإسلام.
لا بدَّ أن نشير أوّلًا إلى ما يلي:
أ. عدم تحديّد الإسلام نظامًا للحكم. وهو من المسكوت عنه والمتروك للعقلاء يتدبّرونه على ضوء معطيات الواقع بما فيه واقع المجتمع الذي له النظام، وواقع التطورات الفكريّة والتدابير العقلائيّة الدائرة حول هذا الموضوع. الاكتفاء بتحديد مبادئ عامّة منها توخّي العدل والإنصاف والوسطيّة والشورى.. وعدم الخروج على الأوامر المولويّة أو الإرشاديّة إلّا بتسويغ مستند إلى مراعاة هذه المبادئ العامّة التي يفتي فيها أهل العلم بالإسلام وبأحوال العصر ومتطلّبات استقرار المجتمع وحسن سير إدارته.
وبناءً عليه، يمكن تحديد مصادر شرعيّة النظام في الإسلام:
أولًا: الشرعيّة الأيديولوجيّة تقوم على إيمان كلّ من السلطة والمجتمع بالإسلام الحنيف من حيث هو رؤية عامّة للوجود والحياة والإنسان تقوم على التوحيد بأوسع معانيه الألوهيّة والربوبيّة والتدبيريّة. والإيمان أيضًا بصلاحية ما ترتّب على هذه الرؤية من أوامر ونواه مولويّة وإرشاديّة مأخوذة في تكاملها وتوحّدها بعيدًا عن الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض.
ثانيًا: الشرعيّة الدستوريّة تقوم على مراعاة البعد الإيمانيّ المذكور في صياغة أي دستور يراد له أن يكون إسلاميًّا، سواء عند تحديد شكل النظام وكيفيّة إقامة السلطة، وكيفيّة انتقالها أو تداولها، وتحديد العلاقات بينها وبين المجتمع، وغيرها من الأمور.
ثالثًا: الشرعيّة القانونيّة تتأتّى في الإسلام عن مطابقة المدوّنة القانونيّة في النظام الإسلاميّ، للأوامر والنواهي الإلهيّة المولويّة منها والإرشاديّة، أو على الأقلّ، عدم مخالفتها في التشريع والتقنين الذي تفرضه المستجدّات… والحكم في هذه المطابقة أو عدم المخالفة يعود للعلماء في الإسلام ولا سيّما الفقهاء ومنهم والمشهود لهم بالعلم والتقوى.
إنّ نظامًا إسلاميًّا يراعي الشروط المتقدّمة الذكر يكتسب الشرعيّة منظورًا إليها من الزوايا الأيديولوجيّة والدستوريّة والقانونيّة.
بصرف النظر عن طبيعة هذا النظام (مَلَكيّ، جمهوريّ، ولائي…)، وعن مدى قبول الناس به. ولكنّ تأكيد الإسلام على أصالة حريّة الإنسان وما يترتّب على ذلك من قواعد تدبيريّة عقلائيّة تقتضي أن يكون الناس على قناعة بالنظام الذي عليهم أن يخصّصوا له ما يجعل استجابتهم لأوامره ونواهيه أقرب إلى الاستجابة الطوعيّة منها إلى الاستجابة الإكراهيّة، الأمر الذي يمكّن النظام من تحقيق أهدافه العامّة بفاعلية أكبر. نقول: إنّ كل ذلك يطرح مسألة دور الناس في جعل نظام إسلاميّ شرعيًّا لا من حيث المبدأ لأنه محسوم نظريًّا لصالح الإسلام، وإنّما من حيث الممارسة والتطبيق وما عليه القواعد التدبيريّة العقلائية.
في معالجة هذه المسألة، نشير إلى ما ذكرناه سابقًا أنّ الإسلام لم يحدّد نظامًا للحكم لا من حيث كيفيّة إنشاء السلطة ولا تداولها، ولا العلاقة بينها وبين الناس من حيث الحقوق والواجبات المتبادلة… وترك تحديد هذه الأمور للناس يتدبّرونه على ضوء الواقع بما فيه واقع المجتمع الذي يُقام له النظام، وواقع التطورات الفكريّة والتدابير العقلائيّة الدائرة حول هذا الموضوع، وأكتفي بتحديد مبادئ عامّة منها: توخّي العدل والإنصاف، والوسطية والشورى التي يجب أن تراعى في إقامة النظام.
في هذا المسكوت عنه يكون دور الناس أساسيًّا وحاسمًا في:
- تقرير كلّ ما هو مسكوت عنه لحهة قبوله أو رفضه، ولجهة مراقبة حسن تطبيقه، وتصويب ما يمكن أن يبرز من الخروج عليه.
- وضع الآليّات التنظيميّة التي تسمح للناس بممارسة هذه الأدوار في الاجتماع السياسيّ الإسلاميّ.
وعلى هذا، فإنّ الشرعيّة في هذا النطاق وداخل هذه المساحة مرتبطة بصورة كاملة بالإرادة الشعبيّة الحرّة في إطار المبادئ العامّة المذكورة. ومن هنا، تنشأ أصالة هذه الإرادة في إقرار دستور النظام السياسيّ أو الموافقة عليه، وفي إقرار كافة القوانين التي لم يُنص عليها مباشرة، أو استُخرجت من النص تبعًا لقواعد أصول الفقه… وهذا ما يفسّر لماذا أصرّ الإمام الخميني (قده) على “جمهوريّة إسلاميّة”، وعلى الاستفتاء على الدستور، الذي صاغه المختصّون ليكون دستورًا للجمهوريّة الإسلاميّة الناشئة.
يُستنتج ممّا تقدّم، أنّ لشرعيّة النظام الإسلاميّ مصدران هما: الإسلام، والإرادة الشعبيّة. ولكلّ منهما أصالته ونطاقه وحدوده، وإن تكاملا في رسم الشرعيّة العامّة للنظام الموصوف بأنّه إسلاميّ.
الشرعيّة والسيادة
السيادة هي صفة لمن يملك القرار الأخير والحاسم في تحديد أمر من أمور الاجتماع السياسيّ. ومن هنا، غالبًا ما يعتبر خطأ، أنّ الشرعيّة هي السيادة؛ ذلك لأنّ السيادة قد تتطابق مع الشرعيّة في أوضاع سياسيّة معيّنة، وقد لا تتطابق في أوضاع أخرى. فإذا كان صحيحًا أنّنا لا نجد نظامًا سياسيًّا، قديمًا أو حديثًا، لا يسعى لتحقيق درجة عالية من الشرعيّة بهدف تأمين أحد أهمّ عوامل استقراره واستمراره، فإنّه صحيح أيضًا أنّ الكثير من الأنظمة السياسيّة القديمة والحديثة، تمارس سيادتها اعتمادًا على القوّة القاهرة، وعلى ادعاءات بالشرعيّة لا تزيد عن مزاعم أو أوهام لا تستند لأيّة معطيات واقعيّة.
ولكن على الرغم من اختلاف الشرعيّة والسيادة في مفهوميهما، وفي مصدريهما، وفي مدى تطابقهما في الممارسة، فإنّ أفضل أشكال السيادة هو ما يستند في ممارسته على الشرعيّة الحقيقيّة في المستويات المختلفة التي أشرنا إليها سابقًا (الأيديولوجيّة، والدستوريّة، والقانونيّة) في تكاملها وتجانسها وانسجام معطياتها بالحدود القصوى الممكنة من جهة، وفي قبول الناس (الأغلبيّة العظمى منهم) بهذه المستويات ومعطياتها أو مضامينها من جهة ثانية.
وعندما يتعلّق الأمر بالنظام السياسيّ في الإسلام، فإنّ أفضل أشكال السيادة هو ما يستند إلى الشرعيّة بمعنى مطابقة ممارسة السيادة من قبل السلطة المسلمة لتعاليم الإسلام من جهة، ومطابقتها للإرادة الشعبيّة في كلّ من سكتت عنه تعاليم الإسلام وبما لا يخالفها نصًّا، أو روحًا أو مقاصد من جهة ثانية، وهذا ما قد يفسّر بعض جوانب مفهوم “السيادة الشعبيّة- الدينيّة”، الذي أطلقه السيد الخامنئي (دام ظلّه)، تأكيدًا منه على أصالة كلّ منهما، وعلى تكاملهما في مفهوم واحد عندما يتعلّق الأمر بالنظام السياسيّ الإسلاميّ.
المقالات المرتبطة
تأمّلات فلسفيّة في الطبيعة الإنسانيّة من خلال النظر إلى تداخل الآخر في الذات
تنظر الذات إلى ذاتها مباشرةً في سياق صيرورتها، كما تنظر إلى ذاتها انعكاسيًّا من خلال نظرتها إلى الإنسان عامّةً.
من خلال التجربة التاريخية العلاقة الملتبسة بين المنبر|الدين والسلطة|السياسة
توجد علاقة طردية بين المنبر والسلطة، في كل الأديان، ولكننا نكتب عن السلطة والمنبر عند المسلمين، والعلاقة الطردية تعني أنه
أسباب تخلّف المسلمين
كثيرة هي المعالجات التي اشتغلت على موضوع تخلّف المسلمين وانحطاطهم الحضاريّ بعد أن كانوا هم قطب الرحى في عصورهم الماضية.