نحو هوية متنوعة بنّاءة
اشتدت صراعات الهوية في نهاية القرن الماضي، على وقع تفتت الكيانات متعددة القومية، وتآكل وظائف الدولة، ولم تكن هذه الصراعات مجرد حروب تقليدية على المصالح أو احتكاكات عابرة بين أطياف تبحث عن تسوية، بل جاءت في سياق اتجاه عام نجم عن تضارب ما بين معنيين للدولة، الدولة كقيمة رمزية عليا مهمتها التعويض عن ضعف العناصر اللازمة لتماسك الأمّة، والدولة كمعطى جيواستراتيجي، تضطرب تبعًا لاضطرابه وتستقر باستقراره، وفي هذه الحالة تحمل الدول هويات مؤقتة وانتقالية بين نظام إقليمي ودولي، وبين آخر.
وفي ظل الانهيارات والتحولات الهائلة التي حدثت في العقدين الأخيرين، لم يعد بوسع العملية الديموقراطية أن تستوعب المتغيرات الكثيرة في لغتها المبسطة وأحادية المعنى: صندوق الاقتراع، وغدا النقاش متمحورًا حول سؤال رئيسي: هل أننا نمضي فعلًا إلى طي مرحلة الدولة القومية، سواء بالاندماج أو التفكيك، أم أن الفراغات الانتقالية وفشل النظام الدولي في إيجاد نقطة ارتكاز جديدة له أدى إلى أن تبسط الهويات الدنيا والعصبيّات المتغلّبة سلطانها على الدولة، مستغلة حدوث اهتزازات داخلية وخارجية تولد ضغوطًا أشد من قوّة التماسك الذي يسود بين أبنائها.
إن ارتفاع وتيرة النزاعات القائمة على التمييز الإثني والديني، يدل على حدوث تراجع في وعي مسألة الهوية، فلم تعد تعبيرًا سياسيًّا متغيّرًا أو انتماءً تعاقديًّا متجددًا، بل بنية ثقافية تاريخية ثقيلة الوطأة وانتماء أوليًّا لا يتغير، وهذا ما بدأ يطيح بالمكتسبات التي تحققت مع بروز الهويات “المصنوعة” إراديًّا من رحم تحولات تاريخيّة، كتطوير للهويات الإثنية والطائفية المعطاة.
وبحسب الاستعمال الكلاسيكي، فإنّ الأمة عبارة عن جماعات مندمجة جغرافيًّا بواسطة المسكن والجوار، وحضاريًّا باللغة والعادات والتقاليد المشتركة، لكن الأمة حاملة السيادة كما يعبر “يورغن هابرماس” لم تنشأ إلّا في بدايات العصر الحديث على أساس الاندماج السياسي المقصود، وفي إطار علاقة شرطية بين الهوية القومية والمواطنة المكتسبة ديموقراطيًّا، وفي نفس المعنى تأتي كلمة “أرنست رينان الشهيرة” بأنّ وجود الأمّة هو تصويت يومي. هذا يعني أنّ ارتقاء الهوية يستلزم وجود جماعة وطنية مؤلفة من مواطنين يختارون انتماءهم على أساسين متداخلين: طبيعي موروث، وسياسي مكتسب في إطار ممارسة حقوق المشاركة والتواصل الديموقراطي الدائم، كما يستدعي وجود نظام سياسي- اجتماعي قادر على عقلنة الهوية وضبط حراكها الذي يكون خطيرًا في بعض الأحيان، كما يسمح لها بإشهار تنوعها.
إنّ نقطة ارتكاز الهوية ليس فقط فيما تتناقله الأجيال أو ما يقتضيه التبادل المستمر للمصالح، بل في حرية الاختيار التي تقوي الترابط العضوي بين أفراد الأمة من دون التفريط بتنوعها الداخلي، وإذا كانت الحريّة هي الشرط الأول لقيام هوية بنّاءة تحتوي في آن معًا على قيم الحداثة السياسية وعلى التمايزات الثقافية والعقائديّة، فإنّ الشرط الثاني هو التسامح؛ الذي لا يعد فحسب فضيلة تمليها أو تسلبها التعاليم والفلسفات، بل يمثل استجابة للمتطلبات الاجتماعية والسياسيّة في أوقات الاضطرابات الكبيرة، ويعتبر جون لوك على سبيل المثال بأن الصراعات الدينية المدمّرة في أوروبا هي التي فرضت على مفكري الإصلاح الديني المناداة بحق الاختلاف والاعتراف المتبادل. وبينما تنشأ “الهوية البنّاءة” في إطار سلسلة من الخيارات الواعية، التي لا يمكن أن تتم خارج فناء الدولة، تستتب قوة هذه الأخيرة ويتكرس حضورها في اللحظة التي تستطيع فيه نقل محاور الاستقطاب داخل الأمة أو الجماعة الوطنيّة من قضايا الهويّة البحتة إلى الصراعات الاجتماعية والأيديولوجيّة التي تنتهي إن تمكنت الدولة من تكييف نتائجها، إلى إقرار سلام اجتماعي مديد عند مستوى أعلى في سلّم التطور.
إنّ نجاح الأمّة أو الجماعة في صناعة هويتها الخاصة المتجددة، على أساس قيم اجتماعية وثقافية ودينيّة تختارها بنفسها، هو الذي يسمح بمعالجة أزمات الهوية والحد من انقباضاتها المؤلمة، حتى لو كانت الجماعة تلك شديدة التجانس. فالهوية الحيّة هي التي تستوعب في داخلها التناقضات والاختلافات إلى أقصى حد من دون أن يضطر المختلفون والمتناقضون إلى الانشقاق عن الهويّة الجامعة، أو العودة إلى رحم هويّاتهم الأوليّة الصغرى.
بالنسبة للبنان، فقد اعتمد مع تأسيسه معالجة متفق عليها لإشكالية الهوية، فلم تكن الهوية الوطنية حصيلة تفاعلات تاريخية أو محصلة تطور اجتماعي سياسي، بل عبارة عن توافق داخلي هيأت له الترتيبات الانتقالية في أثناء الحرب العالميّة الثانية وما بعدها، لكن هذا الفعل الإرادوي لم يمهد للنقلة التالية، من التعايش المدار بين الهويات المتآلفة حينًا والمتنابذة أحيانًا، إلى هوية مشتركة قوية بما يكفي للتعبير عن وجود الجماعة الوطنيّة والمرنة بما يسمح لمكوناتها الداخليّة (الطائفيّة والمناطقيّة والثقافيّة..) بالبقاء والاستمرار. وعوضًا من أن يكون الاستقلال بداية معاصرة وحديثة لتشكل الجماعة الوطنية، فقد مهد لقيام أمة قلقة وانتقالية دائمًا، بهويّة مترددة رخوة.
تتمثّل مشكلة الهوية في عجز الميثاق الوطني الأول (1943)، والثاني(1989)، عن تركيز جسر عبور من الهويّة التاريخيّة وهي في لبنان هويات عدّة وليس هوية واحدة، إلى الهويّة التي تجمع ما بين الانتماء الأصلي والاختيار الحر، وذلك بسبب قيام القابضين على مقاليد السلطة المعلنة والمستترة بتجفيف منابع التغيير كلما تدفقت مياهه، ونتيجة تجنيب الهويّة اللبنانيّة الاختبارات الأساسيّة التي لا بدّ منها لتحقيق تماسك الجماعة الوطنيّة وبلورة وجودها. وسنشير في التالي إلى ثلاثة اختبارات رئيسيّة:
1- الاختبار السياسي، وهو ضروري جدًّا لتحقيق هدفين: الاندماج الداخلي بالحدود التي تكفي لوجود دولة المواطنة وبلورة غاياتها العليا، والتجديد ثم التصحيح الدائم للخيارات الجماعيّة، ووضع الانتماءات الفرعيّة تحت رقابة العمليّة السياسيّة.
بخلاف ذلك جرى تحويل المصالح المحلية قيودًا على العملية السياسيّة، ففقدت هذه فعاليتها وجدواها في الارتقاء بالهويّة الجامعة، هذا ما يظهر بأوضح وجه، في التكييف الدوري لقانون الانتخاب مع احتياجات القوى التقليديّة والاقطاع الطائفي وبما يتناقض مع مصالح تيارات التحرر والاصلاح، ويظهر أيضًا في تعقيم العمليّة الديموقراطيّة التي لا تسمح بتطوير النظام السياسي ولا بحصول تداول فعلي وحقيقي للسلطة. فمع مرور الوقت يؤدي تداول السلطة إلى قيام هوية ديموقراطيّة حيويّة وغير متصلّبة، مرتبطة بالحقوق والواجبات أكثر من ارتباطها بالانتماء العضوي الثابت الممهور بخاتم الركود.
2- الاختبار الاجتماعي والأيديولوجي: إن استقرار أيديولوجيا النظام في لبنان على الرغم من مرور سبعة عقود وأكثر على الاستقلال، لا يساعد على تجديد الهوية اللبنانيّة من غير الطريق المعروف وهو التخفيف من الطابع الطائفي للنظام. فهناك فرصة جديرة بأن تختبر وهي البدء من نقطة تقوية حضور وتمثيل الشرائح الاجتماعية الكبرى – وهي بالمناسبة عابرة للطوائف- داخل النظام، كمحطة عبور نحو الانتماء التعاقدي غير العصبوي، وذلك في مقابل تخفيف احتكار الأقليات المهيمنة والنافذة، غير الطائفية بدورها. سيساعد تحويل الاستقطاب الطائفي إلى استقطاب اجتماعي وأيديولوجي إلى أن تكتشف فئات شعبيّة واسعة أن مصالحها الفعليّة لا ترتبط فقط بالهوية الصغرى التي تنتمي إليها، بل برؤية عامة تتضمن خيارات وطنية متنوعة.
3- الاختبار الوطني: على عكس الاختبارين السابقين، تمكن لبنان من خوض غمار هذا الاختبار في الوقت الذي فشل فيه القابضون على السلطة في تكريس مقولاتهم “الوطنيّة” والدفاع عنها لوقت طويل؛ كالدعوة إلى حياد لبنان في محيطه العربي، واعتباره صاحب هوية مزدوجة عربيّة وغربيّة، أو الإصرار على أنّه جسر ومعبر بين الشرق والغرب.
إن نجاح المقاومة اللبنانية في الاستمرار بعد الحرب الأهلية وتوحد اللبنانيين فترة طويلة نسبيًّا حول أهدافها رغم خلافاتهم السابقة واللاحقة حولها، وسّع من إمكانية العبور إلى وعي جديد للهوية، وأدى إلى توظيف التنوع في خدمة الإطار الجامع والمشترك للجماعة الوطنية، عبر تكريس البعد العربي والقومي للهوية الوطنية كبعد موازن للبعد المحلي.
وكما بات واضحًا، فإن الحصول على هوية مستقرّة يتطلب تجديد الهوية اللبنانية كما يتلقاها الوعي العام اليوم، بل وربما صناعتها من جديد. وهذا ما يتطلب توافقات وصراعات (سلمية طبعًا) مكلفة، لكن لا بدّ للقوى الحيّة من خوضها والتعامل مع نتائجها، بالشراكة مع الجمهور الواسع الذي بات يعتبر قاعدة حقيقية لتنمية الهوية الوطنية. الصراع مع العدو هو أحد هذه الصراعات لكن لا بدّ من إضافة نضالات اجتماعيّة أخرى لتحطيم العقبات التي لا زالت تمنع من تحرك قاطرة التغيير.
إنّ تحقيق الاندماج السياسي الاجتماعي الداخلي على أساس من التنوع والتكافؤ يساعد على الخروج من الالتباسات الرئيسية التي طبعت الهوية اللبنانية والمتجسدة في: العلاقة مع الخارج (التبعية التي تفجر الأزمات)، العلاقة بين المكونات المحلية للجماعة (مبدأ العيش المشترك كمانع للتقارب لا كمشجع عليه)، وفي الثوابت الأيديولوجيّة التي لم تحقق مصالح جميع الأطراف، ولم تقم التوازن بين الأقليات المهيمنة والأغلبيات المستبعدة. إن إحداث ثورة في وعينا للهوية الوطنية يستدعي بادئ ذي بدء مصالحة استهلتها المقاومة بين الأبعاد الثلاثة للهوية: البعد العربي، البعد الوطني، والبعد المحلي، ويتطلب تاليًا إضافة بعد تعاقدي رابع ينبثق من الاختيار الحر ويرتبط بمشروع وطني يحظى بقاعدة شعبية واسعة.
المقالات المرتبطة
إضاءات فكريّة حول القضيّة المهدويّة
إنّ قضيّة المصلح العالمي أو المخلِّص الأممي هي قضيّة إنسانيّة قبل أن تكون دينيّة، هي عنوان ٌعامٌّ لطموحٍ مشروعٍ يتّسم بالرقيّ والسموّ تتّجه إليه اليشريّة بمختلف أديانها ومذاهبها وانتماءاتها.
المفهوم القانوني للحياد
بعد البحث والسؤال والتواصل مع المختصين القانونين والاطلاع على بعض الدراسات والرسائل في علم القانون، تبين أنه من الصعب الوصول إلى تعريف
الإبستيمولوجيا في الفلسفة الإسلاميّة
صنّف الفلاسفة المسلمون الوجود إلى قسمَين: الوجود العيني (الخارجي) والوجود الذهني (النفساني).