الكلمة والثورة عند عبد الرحمن الشرقاوي الكلمة نور وبعض الكلمات قبور

الكلمة والثورة عند عبد الرحمن الشرقاوي الكلمة نور وبعض الكلمات قبور

تقديم

رأينا أن نكتب عن المفكّر والأديب والشاعر عبد الرحمن الشرقاوي، بمناسبة ذكرى ميلاده المائة والواحد، وذكرى وفاته الخامسة والثلاثين، فقد ولد الشرقاوي يوم 10تشرين الثاني/نوفمبر عام 1921، وتوفي يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1987، وهو احتفاء في محله، وإلقاء الضوء على عطائه.

لم يكن عبد الرحمن الشرقاوي فيلسوفًا ولا مؤرخًا على طريقة المؤرخين بمناهجهم ورؤاهم، فقد مزجت كتاباته بين الأدب من شعر ورواية ورؤية التاريخية.

ومن خلال فكره اليساري إن لم يكن الماركسي الأممي، (كما كان يقول)، ولكن كتاباته تميّزت بعمق التفكير وبراءة التعبير القاسي (إذا صحّ التعبير)، اعتبره ناقدوه مؤرخًا على الطريقة الماركسية، فهاجمه الوهابيون وجماعات الإسلام السياسي كالعادة ومعهم بعض مشايخ الأزهر الشريف.

ولكن عبد الرحمن الشرقاوي في النهاية كان رجلًا مسلمًا ثوريًّا، يقف على يسار الأمة، حيث يقف الثائرون ومنهم (كما يرى) الإمامان علي والحسين (ع).

وامتدادًا لثوريته الفكرية والدينية الحرّة المتحررة من قيود السياسة، ظل عبد الرحمن الشرقاوي يهاجم الصهيونية، ويرفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، ويعتبره العدو الفكري الثقافي قبل العسكري، أي أنه ظل حتى آخر يوم في عمره مخلصًا لوطنيته وعروبته، ومخلصًا لمبادئه، ولفكره الديني المثالي.

مؤرخ الثائرين وأديب المهمّشين

يُعتبر عبد الرحمن الشرقاوي مؤرخًا للثوّار، وأديبًا للمهمّشين، فهو من أبرز الأدباء والكتّاب الذين اهتموا بالأدب الواقعي والاجتماعي النقدي، وأول من كتب المسرحية الشعرية العربية مستخدمًا الشعر الحديث أو شعر التفعيلة، الذي كان أحد روادها، كما كان شاعرًا مستخدمًا المصطلحات والرموز الدينية في شعره، وظل منتميًا إلى اليسار الفكري والديني طوال عمره، وكان أيضًا أحد أبرز الأدباء الذين عملوا بالصحافة، ووصلوا إلى أرفع مناصبها، فرأس مؤسسة الأهرام الصحفية عدة سنوات قبل وفاته، كما كان من الذين اشتغلوا بالعمل السياسي الاجتماعي العام.

وقد تضاعف تأثيره على المناخ السياسي والثقافي والفكري والديني في مصر والعالم العربي من خلال دفاعه عن الديمقراطية والعدل الاجتماعي، وقد ظل منحازًا إلى اليسار، وقال: إن يساره الديني يتمثل في انحيازه لفكر الإمام علي بن أبي طالب والإمام الحسين.

ثم جاءت كتبه الأدبية والفنية معبّرة عن فكره اليساري والديني الثوري، فكتب مسرحية “مأساة جميلة” عن المجاهدة الثائرة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي “جميلة بوحيرد”، وانحاز للفلّاح بصورة كاملة، وكتب “عرابي زعيم الفلاحين” عن قصة الثائر أحمد عرابي قائد ثورة 1881 ضد “الخديوي توفيق”، كما كتب مسرحيات “الفتى مهران” – “الفلّاح” – “النسر الأحمر”؛ وكلها مسرحيات تدور أحداثها في القرية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، يصور فيها الحياة بالقرية، وتحالف كل العمدة/السلطة مع الأغنياء/البرجوازية، تحت حماية المستعمر البريطاني، وهو ما حرص على تأكيده عبد الرحمن الشرقاوي.

أما رواية (الأرض)، فقد كانت من أهم ما جسّد الواقع الريفي الحقيقي المؤلم في مصر ما قبل ثورة تموز/يوليو 1952، وأبطالها من المهمّشين، حيث تنتهي أحداثها بقيام السلطة بسحل زعيم الفلاحين “محمد أبو سويلم”، وهو مربوط من قدميه ولكنه متثبت بأظافره بالأرض.

ولقد تميزت قصة “الأرض” بالكفاح ضد الظلم الطبقي والتفريق بين الأغنياء والفقراء، كما حدث ويحدث دائمًا في تاريخ البشرية، وقصة الأرض تحولت لفيلم سينمائي رائع عام 1970 من إخراج “يوسف شاهين” وبطولة الفنان الراحل محمود المليجي والفنانة نجوى إبراهيم، وغيرهما من الفنانين الكبار، ويُعتبر فيلم الأرض من أهم أفلام السينما العربية طوال تاريخها، إن لم يكن الأول.

محمد رسول الحرية

ظل الشرقاوي مثاليًّا في مؤلفاته، خاصة الدينية منها، التي كتبها برؤية الأديب أكثر من رؤية المؤرخ، وإن كان فيها التاريخ بصورته الحقيقية، فكتاب “محمد رسول الحرية” يعبّر بشدة عن رؤية عبد الرحمن الشرقاوي للرسالة المحمدية، فهي في الأصل كما يراها ثورة بشرية رسالية للعدالة الإلهية لتكون على الأرض وليس في السماء، وتكون في الأرض، منطلقًا (كما قال) من قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾.

فهو يصّور بشرية النبي الكاملة في صورتها الإنسانية، لأنه يكتب سيرة إنسان اتسع قلبه لآلام البشر ومشكلاتهم وأحلامهم، وكوّنت تعاليمه حضارة زاهرة خصبة، أغنت الوجدان لقرون طوال، ودفعت سلالات من الأحياء في طريق التقدم، واكتشفت آفاقًا من طبيعة الحياة والناس، مصورًا قصة إنسان رائع البطولة، ناضل ضد القوى الغاشمة المفترسة.

فمحمد رسول من أجل الإخاء البشرى، ومن أجل العدالة والحرية وكبرياء القلب المعذب، ومن أجل الحب والرحمة، ومستقبل أفضل للناس جميعًا بلا استثناء الذين يؤمنون بنبوته (ص)، والذين لا يؤمنون بها على السواء.

رأى الشرقاوي محمدًا الرسول القادم بالحرية، فلم يكتب عن المعجزات الروحية، كان يريد فقط أن يظهر كرامة البشرية في النبي، وبحثه عن الحرية الحقيقية الثورية.

علي إمام المتقين

نفس رؤية الشرقاوي في “محمد رسول الحرية”، ألّف كتابه الرائع “علي إمام المتقين”، وهو كتاب أدى إلى معركة فكرية، لأنه انتقد بشدة في الكتاب بعض كبار الصحابة.

ولكنه في الأصل كتاب يبرز سيرة الإمام علي من أجل نشر العدل ودفع الظلم، والدفاع عن المظلومين، واعتبر مقولة الإمام علي “الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، بأنها تمثل خلاصة الدعوة الإسلامية، وسيرة الإمام الشهيد.

ولكن شيخ الأزهر وقتها الدكتور عبد الحليم محمود هاجم الشرقاوي، لأن الشرقاوي قال “إن العشرة المبشرين بالجنة كلهم من الأغنياء ما عدا علي بن أبي طالب”، وأن سياسة عثمان بن عفان المالية هي التي أدت إلى الثورة عليه ثم قتله.

فرد عليه الشرقاوي بمقال قال فيه إن تاريخ الإسلام زاخر بفقراء لم يمنعهم فقرهم من العمل والتقرب إلى الله.

وبعد أن مات شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، ظل مسيطرون نافذون من رجال الدين بالأزهر يعتبرون الشرقاوي شيوعيًّا، فكانوا ضد أي كتاب يؤلفه، أو أي شعر يلقيه، لدرجة أن بعضهم هاجم فيلم “الرسالة” الشهير، لأن عبد الرحمن الشرقاوي أحد الذين كتبوا القصة والسيناريو، مع كل من توفيق الحكيم – عبد الحميد جودة السّحّار – محمد علي ماهر.

ولكن على المستوى الثقافي العام والحكومي، ظلت الدولة والمثقفون يحتفون به وبكتاباته، في حرب المثقفين ضد الفكر السلفي، الذي مات الشرقاوي، قبل أن يكتمل خطفه للمجتمع المصري وغيره من الدول الإسلامية.

الإمام الحسين (ع) وحكاية ثأر الله

وبنفس الصورة الباحثة عن الحق والعدل، أصدر الشرقاوي كتابه الأشهر، وهو مسرحيته الشهيرة في جزأين “الحسين ثائرًا”، و”الحسين شهيدًا”، وهما تحت شعار “ثأر الله”، وبها روح الثورة الفعلية الروحية، وجاء اسمها معبرًا عن تاريخها (ثأر الله).

وقد حاول فنانون كبار إخراجها على المسرح، وقد اتفق الفنان “كرم مطاوع” وبعض كبار الفنانين على أن تُمثل في المسرح تحت اسم “ثأر الله”، ولكن العمل ظل مظلومًا من حيث التمثيل على خشبه المسرح، ولم تر النور رغم المحاولات الحثيثة، ورفض الرقابة بناء على رؤية الأزهر الشريف، حيث تم العرض على الرقابة، التي أحالتها إلى لجنة من علماء الأزهر، فتحفظت على أربعة نقاط.

أولها ظهور شخصية الإمام الحسين، وثانيها ظهور السيدة زينب، وهو أمر مرفوض من الأزهر بصورة عامة.

وتم التحايل على التحفظين، بأن يتحدث الممثلون بصيغة (الراوي) المفرد الغائب، أي يبدأ الفنان عبد الله غيث – الذي يقوم بدور الحسين- بقوله “يقول الحسين..”، وكذلك تفعل الفنانة أمينة رزق التي تقوم بدور (راوية) السيدة زينب، أي تكون المسرحية عبارة عن رواة ينقلون عن الإمام الحسين(ع) والسيدة زينب.

أما التحفظ الثالث فكان حذف الأبيات التي تنتقد “معاوية ويزيد بن معاوية” باعتبار الأول صحابيًّا، والثاني من التابعين، وهو أمر مفهوم بخصوص معاوية، ولكنه عجيب بخصوص يزيد، وهو ما سخر منه الفنانون والمثقفون بصورة عامة سببت حرجًا لرجال الدين.

وأخيرًا تم تغيير اسم المسرحية “ثأر الله”، فاستقر عبد الرحمن الشرقاوي على “الحسين ثائرًا” عنوانًا لجزئي المسرحية، بعد دمجهما وتمت إجازة المسرحية.

وفي النهاية، وفي أواخر حياة الشرقاوي في أوائل العام 1987، تولى الدفاع عن الشرقاوي الشيخ الأزهري المستنير “عبد المنعم النمر”، باعتبار الشرقاوي باحثًا محترمًا ومجدّدًا، أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات هامة.

وقرر وزير الثقافة – الدكتور أحمد هيكل وقتها- تحقيق حلم الشرقاوي في أن يرى “الحسين ثائرًا” على المسرح، ولكن الشرقاوي توفي بعدها بقليل، فقد توفاه الله في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1987، ولم ترى المسرحية النور حتى الآن.

الكلمة نور … وبعض الكلمات قبور

من أكثر الأبيات الشعرية المؤثرة المعبرة عن روح الثورة الحسينية المتجسدة، والتي جاء بها عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحية (ثأر الله)، التي أنشدها المنشدون في المدائح النبوية وسيرة أهل البيت عليهم السلام، وترنّم بها فنّانون كثيرون، بسبب صدق كلماتها ونبل مقاصدها الروحية، هو ما كتبه عبد الرحمن الشرقاوي على لسان الإمام الحسين (ع).

قال والي المدينة من قبل يزيد “الوليد بن عتبه”: بايع يا حسين، ما هي إلا كلمة، فردّ عليه الحسين بلسان الشرقاوي:

ويحك ….

أتَعرِفُ ما معنى الكلمة؟

مفتاح الجنة في كلمة … ودخول النارِ على كلمة

وقضاءُ اللهِ هو كَلِمة

الكَلِمةُ نور …  وبعض الكلمات قبور

الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة

الكلمة لو تعرف حرمة.. زاد مزخور

وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري

الكلمة فرقان ما بين نَبىٍّ وبَغىٍّ

بالكلمة تَنكَشِفُ الغمَّة

عِيسَى ما كان سِوَى كَلِمَة

أَضَاءَ الدُّنْيا بالكَلِمات وعَلَّمَها للصّيَادين

فَساروا يَهْدُونَ العَالَم

الكلمة زَلْزَلَت الظَّالِم

الكلمة حِصْنُ الحُرِّية.

إن الكلمة مسؤولية

وشرف الرجل هو الكلمة

رحم الله الأديب الثائر صاحب الكلمة والموقف عبد الرحمن الشرقاوي، وسلام محمد وآل محمد، والسلام على الإمام الحسين (ع) الثائر بروحه وجسده الشريف، والسلام على أئمة الهدى …. والسلام على كل المخلصين الرافضين للظلم.

نعم … الكلمة نور وبعض الكلمات قبور..


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
عبد الرحمن الشرقاويالفكر اليساريالماركسية

المقالات المرتبطة

الأسطورة والإيمان

لطالما اجتذبني الكلام في الأساطير، ولطالما اعترفت بقلّة معرفتي بها. لذا فلا تسألني عن معنى الأسطورة في المتداوَل عند أهل الكتب. إلّا أنّي سأحدّثك عن فهمي للأسطورة.

جاك دريدا ومغامرة الاختلاف- المنطق الثالث

ي قراءته للنصوص، يطرح ديريدا منطقًا ثالثًا، يبتعد عن تعافي وإطلاقية المنطق الأنطولوجي الذي يسلم بجوهر موضوعي وهوية ثابتة

الفن الإسلامي

يمكننا طرح السؤال في مادّية الإفادة من العمل الفني في خدمة دين الله، الدين الذي شاء الله به أن يرفع الإنسان من الظلم ويقتلع الفئويّة والطبقيّة من جذور المجتمع، أعني بالدّين، الدين الإسلاميّ.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<