تأمّلات بشرية في حمل ومولد الكلمة المقدّسة السلام على الأرض والمسرّة للناس
تقديم
في عيد ميلاد السيد المسيح، نذكّر أنفسنا والناس جميعًا، بالسلام والمحبة، والتي هي خلاصة دعوة المسيح عيسى(ع)، وهي نفس دعوات كل الأنبياء، وكل المصلحين، وكل الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام، بل والأديان الأرضية مثل البوذية والهندوسية وكل الدعوات الإصلاحية، تدعو للسلام.
والسلام يكون على الأرض وليس في السماء، وحاكم الملكوت الأرضي يكون عادلًا عدلًا مطلقًا، بعد أن تلقّف الحكمة من كلمات الرسل، ومنها كرازة السيد المسيح، منذ حمله ثم مولده فبعثته، حتى ارتقى لأعلى السماوات، ليترك الكرازة باقية إلى يوم القيامة، والتي اكتملت بمحمد بن عبد الله الرسول الخاتم، وحامل دعوة السلام والعدل والإيثار.
ومن العدل الطبيعي أن تصل البشرية إلى نوع منشود في دعوات الرسل، وهو إقامة الملكوت الأرضي من خلال مخلّص موعود، فيملأ الأرض عدلًا، بعد أن ملئت جورًا، وهو الإمام الموعود المنتظر، الإمام المهدي (عج)، الحجة الباقية الناظرة وهو في غيبته يدرس مستقبل البشرية بالنقد والتحليل، ليكون ظهوره خاتمة الدعوة الإلهية على الأرض، التي يعيش فيها الإنسان، الأرض التي عاش فيها البشر حياة كلها ظلم وقتل وحروب واغتصاب، من بني الإنسان لأخيه الإنسان، وهو ما سوف يتحقق عند الظهور المبارك، وهو ما يقودنا للحديث أيضًا عن ابن الإنسان.
بين الحمل والميلاد
يحتفل المسيحيون الغربيون بعيد الميلاد يوم 25 ديسمبر/كانون الأول من كل عام، وهو اليوم الذي يكون فيه الليل أطول ليل في العام، والنهار أقصر يوم، وعندما تبدأ الدقيقة الأولى من فجر ذلك اليوم، يكون هو بداية النور، فهو رسول النور، وارتبط المفهوم الغربي لمولد السيد بالتقويم الروماني، واعتبروا يوم 25 ديسمبر/كانون الأول هو أول أيام يسوع على الأرض.
أمّا الكنائس الشرقية فتحتفل بعدها بثلاثة عشر يومًا، أي يوم 7 يناير/كانون الثاني من كل عام حسب التقويم القبطي، على أننا لا نكتب عن أسباب اختلاف موعد الاحتفال بذكرى يسوع المحبة والإنسانية بين الكنيستين الغربية والشرقية، وهو أمر يطول، وأيضًا هو اختلاف يحدث في كل الديانات.
والخلاصة، أنه في يوم الخامس والعشرين بالضبط يكون المسيح قد قضى تسعة شهور بالتمام والكمال في بطن العذراء، ويكون الحمل بعد بشارة الملاك لمريم، أنها تكون أمًّا للمخلص، وإذن كان يوم الحمل المقدس هو يوم 25 مارس/آذار، في بداية الربيع، وهو يوم المعجزة الكبرى الإلهية أن يأتي نبي بدون أب.
ونرى أنه إذا كان يوم الحمل بمعجزة إلهية، فإن يوم الميلاد حدث بشري، لأن المسيح تكوّن جنينًا مثل سائر البشر، فالروح أو النفس البشرية في ناسوته اكتملت إنسانيًّا، بعيدًا عن أقوال الميثولوجيا التي تزعم أن حمل المسيح كان ثلاثة أيام أو عدة ساعات، فمعجزة حمل المسيح اكتملت بمولد، ثم كانت بحديثه في المهد، وهو يدافع عن شرف العذراء، ويقول في آخر كلمته كما جاء في سورة مريم/33: ﴿وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْم وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾، فالسلام عليه من أول حمله وحتى ارتقائه، مرورًا بحديثه في المهد وصبيًّا ورجلًا ونبيًّا مصلحًا. هي دعوة السلام المرموقة بين الشعوب.
ثم سارت حياة المسيح (ع) بصورة بشرية كاملة، يناقش الأحبار ويكشف زيفهم، ويقلب طاولة النقود على أرض الهيكل، بعد أن حولوا الهيكل إلى مغارة لصوص.
كما تنبّأ يسوع بهدم كل أورشليم، ولن يبقى فيها حجر على حجر، وكانت رحلة المسيح على الأرض قصية، ولكنها أثّرت في ربوع البشري، وهو ما أسخط عليه جماعات من اليهود، الذين أباحوا دمه، وأنهم مستعدون أن يكون دم المسيح على رؤوسهم ورؤوس أبنائهم.
إنسانية المسيح
حاول اليهود الإيقاع به، فزعموا للوالي الروماني أن المسيح يطلب مُلك اليهودية، وكان رد المسيح على سؤال الوالي الروماني بيلاطس: “هل أنت ملك اليهود”، فقال: “مملكتي ليست في هذا العالم”، لأن يسوع أراد تأسيس ملكوت أرضي لا يحكمه بشخصه، ولكن تحكمه المبادئ السماوية، وينتشر فيه السلام، فلا نستغرب إذن أن تكون تحية اليهودية “شالوم عليخكم”، وهي نفس تحية الإسلام “السلام عليكم”، وبينهما كرازة يسوع، كما في إنجيل “لوقا”: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة”.
عندما يمجّد الناس الله تعالى، وينشرون السلام على الأرض وليس في السماء، تتحقق المسرة والسعادة بين الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، وتفقد الأديان وظيفتها إذا لم ينتشر السلام بين البشر، في سفر أشعياء جاءت بشارة بالمسيح “روح السيد الرب عليَّ، لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق، لأنادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا، لأعزي كل النائحين”، وهي دعوة حب عن إخلاص سماوي إلهي المصدر.
وفي ذكرى مولد المسيح نتذكره، عندما فاجأ حوارييه ليلة العشاء الأخير، فاجأهم إذ أراد أن يغسل أقدامهم، وغسلها رغم تمنعهم، وبعد أن غسل أقدامهم ونشّفها، جلس معهم، وقال لهم: أترون ما فعلت لكم؟ حسنًا تقولون لي معلّمًا وربًّا وأنا كذلك، ولكن أريد منكم أن تفعلوا أنتم أيضًا ببعضكم البعض ما فعلت أنا بكم”، وهو بذلك كان الكلمة المتجسدة في الفعل البشري قبل اللاهوت الديني.
ولا ننسى موعظة الجبل كما جاءت في إنجيل متى/5 :34، من ضمن ما جاء فيها، تلك البشارات السماوية على الأرض البشرية عبر نبي معجزة في مولده، قال المسيح: “طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات. طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاشى إلى البر، لأنهم يشبعون. طوبى للرحماء، لأنهم يرحمون. طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله. … طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون. … طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم ملكوت السموات… طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا، لأن أجركم عظيم في السموات فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم..”.
الكلمة المتجسدة
الكلمة هي هو، وإنجيل يوحنا بدأ بعبارة: “في البدء كان الكلمة”، والقرآن الكريم صرّح كما جاء في سورة النساء/171: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، فالكلمة هي الأصل، والسلام أهم فرع في شجرة المحبة والكلمة المقدّسة، قال الله في سورة الحشر/23: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ﴾، وفي سورة النساء/94 ورد قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، وفي رسالة بولس “رَبُّ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُعْطِيكُمُ السَّلاَمَ دَائِماً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ الرَّبُّ مَعَ جَمِيعِكُمْ”.
ولا غرابة في الأمر، فالقرآن صرّح بأن القرآن فيه هدى ونور، والتوراة فيها هدى ونور، والإنجيل فيه هدى ونور، وذلك الهدى والنور هو الذي يجب أن ينشر السلام بعد تمجيد الله وتوحيده، والسلام ضد آفة الكبر والتكبر.
إبليس أو الشيطان لم يكن كافرًا أو مشركًا، ولكنه كان متكبّرًا متغطرسًا، فخرج موسوسًا للبشر في خطيئة ممتدة عبر الزمن، تلاقت فيها أهواء البشرية، فصبغتها بالدماء، فابتعد الناس عن الدين، وشرح رجال الكهنوت للمؤمنين الطيبين، أن الأديان ترفض السلام والحوار بين البشر، وهو عكس ما نادى به المسيح، ودعا إليه محمد.
ابن الإنسان .. لا ابن الإنسانة
وبالعودة لميلاد المسيح، نجده الوحيد الذي تحدث عن نفسه باسم ابن الإنسان، وليس ابن الإنسانة، لأنه وُلد بدون أب، فالمسيح يقول: “الحق أقول لكم إن من القيام هاهنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته”، و”فإني أقول لكم لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان”، و”وقال لهم ابن الإنسان سيد السبت أيضًا”، و”بل لتعلموا أن ابن الإنسان له سلطه غفران الذنوب”، “لأن ابن الإنسان جاء ينشد وينقذ الضالين”، ويتضح في كل ذلك، أن ابن الإنسان جاء لكي يقيم ملكوت الله في الأرض، كما قلنا، تلك هي الوصايا اليسوعية، وهي نفس وصايا كل أنبياء الله.
والقرآن يؤكد على أن وراثة الأرض، وليس وراثة السماء تكون، كما جاء في سورة القصص/83: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ومن خلال رصدنا للتاريخ البشري لم نجد أحدًا يستحق وراثة الأرض، إلا في فترات نادرة خلال سير الأنبياء والمرسلين، والغريب أن أغلب الثورات الإصلاحية السلمية هي التي نجحت، مثل ثورة الحسين (ع).
هنا ندرك قيمة الكلمة المتجسدة، أو الكلمة الروحية، ولا نبتعد كثيرًا حول مولد وقيامة وارتفاع المسيح، فالإسلام أكّد على أن المسيح في السماء، قال تعالى في سورة آل عمران/55: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
وهنا قد يحدث الخلاف، ولكن في النهاية يتفق الجميع على أن المسيح رُفع إلى السماء، ودعوته باقية على الأرض، ليكون بالناس المسرة والمحبة، لأن هذا الخلاف أبدًا لا يسقط المحبة ولا رسالة الحب، كما جاء بها محمد والمسيح،،كل عام ونحن جميعًا بخير، مع ابن الإنسان…
سلام على المسيح … سلام على العذراء .. ونحن في انتظار عودة الحجة المنتظر (عج)، ليتمّم رسالة خاتم الأنبياء محمد (ص)، وكرازة السيد المسيح.
المقالات المرتبطة
أخلاقيّات القتال
لأنّ دين الإسلام قائم على الرحمة، وليس مبنيًّا على التشفّي أو الانتقام من المنكسرين أو المهزومين والأعداء، وتعبيرًا عن الأخلاق العالية للمسلم في كلّ مواقع تواجده وجهاده،
معاني عاشوراء
الفكرة التي يمكن تناولها تتعلق بثلاثة صور من المعاني: الصورة الأولى: تتعلق بنفس الواقعة بما هي حدث تاريخي. وفيها أن
جدل الدين والدولة في التجربة الغربية
على المستوى الغربي ثمة بلدان وتجارب حاربت الكنيسة الحداثة السياسية والثقافية، فنتج عن ذلك تقلص وتراجع حضور الدين في الحياة