ثورات المهمّشين المنسية في التاريخ الإسلامي
يهمل التاريخ الإسلامي قصة ثورات كثيرة قام بها المهمّشون في عصور مختلفة للخلافات الإسلامية. ولم يهتم المؤرخون بها حتى لا يبرزوا سيئات الأنظمة القمعية السلطوية وغير العادلة المخفيّة خلف مصطلح “الخلافة”.
فالتاريخ الإسلامي عمومًا كُتب أغلبه من وجهة نظر مؤرخي السلطة، إذ كانت هنالك وظيفة تُسمّى مؤرخ البلاط في الخلافة الإسلامية، وكان هذا المؤرخ يكتب ما يُرضي النظام القائم. كما كان المؤرخون الآخرون يخافون من توثيق الواقع حتى لا تغضب السلطة عليهم. وفي الغالب لم يظهر مؤرخون مسلمون هدفهم توثيق الحقائق وحفظها للأجيال القادمة بلا غاية أو غرض.
ولم توثَّق الثورات والانتفاضات والهبات والحركات العفوية والحركات ذات الطابع اللصوصي التي خرجت ضد الحاكم بشكل دقيق، حتى لا يظهر عيب أو خطأ في نظام الحكم.
ثورة الزنج الأولى… أول ثورة ضد السُخرة
اندلعت ثورة الزنج الأولى في عصر عُرف بـ”السيادة العربية”، أثناء حكم عبد الملك بن مروان بين عامي 65 و86 هجريًّا. كانت الخلافة الإسلامية قد تحوّلت عمليًّا إلى مُلك، وبسبب النظام الإقطاعي السائد آنذاك، تحوّل الفلاحون إلى مؤاجرين، وفي كثير من الأحيان كانوا يعملون بالسخرة (بلا أجر)، كما رُفعت الضرائب على الأرض حتى عجز ملاكها عن دفعها، ما استفاد منه الإقطاعيون الكبار الذين ضمّوها إلى أملاكهم بعد تخلّي أصحابها عنها.
حينذاك، استقدمت الخلافة “عبيدًا” من ذوي البشرة الدكناء (الزنوج) من أفريقيا، واستقدمت الزط (الغجر) من الهند للعمل في الأرض، وتم تسخيرهم للعمل الزراعي، ومن شدّة العمل مات الكثير منهم.
وبالرغم من اعتناقهم الإسلام لم يشفع لهم ذلك، واستمر قهرهم حتى تجمّع “الزنوج” تحت قيادة رجل يُسمّى “شير زنجي”، أي أسد الزنوج، وانضم إليهم “الزط” وكثير من عرب العراق الذين اضطهدهم بنو أمية، ونجحت الثورة في السيطرة على جنوب العراق ثم بلاد إيران، واستولت على بلاد “الأهواز” على الحدود الإيرانية العراقية حاليًّا، وأطلق أتباع “شير زنجي” عليه لقب “أمير المؤمنين”، الأمر الذي حث عبد الملك بن مروان على إرسال الحجاج بن يوسف الثقفي بجيشه من الكوفه للتخلص منهم.
وفشلت هذه الثورة، بعد سنوات قليلة جدًّا، لأنها كانت من عناصر وفئات مختلفة، وكانت أشبه بهبّة عفوية، ولم تملك خطة محددة، إضافة إلى تصدي الحجاج الثقفي العنيف لها وإعدامه جميع قياداتها.
ثورة عمر بن حفصون… ضد المركزية والظلم الاجتماعي
ثورة عمر بن حفصون قامت في جنوب شرق الأندلس، عام 265 هجريًّا، إبان حرب أهلية في المنطقة أدت إلى تمزّق الأندلس إلى 23 إمارة متصارعة وشاعت الفوضى بسبب الظلم الاجتماعي الواقع على سكان الأندلس.
كان عمر بن حفصون من المولدين (من أم غير عربية)، فخرج مع مجموعة من المولدين وجمع جيشًا من العاطلين عن العمل والرعاع والبسطاء، حتى يرفع الظلم الاجتماعي عن المولدين والمهمشين من البربر وغير العرب ويستقل عن المركزية في قرطبة. ولاقت فكرته استحسان الكثيرين، وبدأ يوسع إمارته، وأصبح بالفعل يملك جيشًا قويًّا، حتى إن أمير قرطبة أرسل ثلاثة جيوش متتالية لدحره دون أن تنجح في ذلك.
ويذكر التاريخ الرسمي أن بن حفصون كان نصراني الديانة، وأنه اعتنق الدين الإسلامي حتى يفسد في أرض المسلمين. لكن الحقيقة كانت غير ذلك. فذكر ابن حيان، مؤرخ السلطة حينها، أنه خبيث وكافر ومرتد، ولكنه ذكر أيضًا أنه لم تحدث أي مجاعة في عهده، وكان الرخاء يعم في إمارته، بالإضافة إلى قوله إن المرأة كانت تخرج ليلًا للانتقال من مدينة إلى مدينة دون أن يمسها ماس.
وعام 301 هجريًّا، شن الأمير عبد الرحمن الناصر، خليفة الأندلس، هجومًا على قلعة “طرش”، ووقعت معركة بين قواته وقوات بن حفصون قُتل فيها عدد كبير من قوات بن حفصون وحلفائه، ففر إلى “ببشتر”، ونجح “الناصر” أيضًا في إحراق عدد من السفن المحمّلة بالمؤن التي أرسلها الفاطميون مددًا لبن حفصون، حتى يحاصره من جميع الجهات.
وطلب بن حفصون، عام 303 هجريًّا، الصلح مع خليفة الأندلسي “الناصر”، ووافق على عدة شروط منها أن يقر الناصر له بسيطرته على 162 حصنًا مقابل أن يدخل في طاعته.
ثورة القرامطة… تطبيق أول نظام اشتراكي
“كفرة وزنادقة وإباحيون”، اتهامات وُجّهت إلى ثورة القرامطة التي بدأت سنة 278 هجريًّا. وكلمة “قرمط” تعني فلاحًا باللغة النِبْطية، وكان قائد الثورة حمدان بن الأشعث، وهو من دعاة الدعوة الشيعية الإسماعيلية، وكان على علم ودراية واسعة ويتمتّع بكاريزما قوية.
خلال ذلك الوقت، انتشر الظلم الاجتماعي في الخلافة العباسية. وبدأت الحركة الشيعية الإسماعيلية في نشر أفكارها بين العامة، ونجحت في بلاد جنوب العراق والبحرين، ثم توسعت واستولت على بلاد الشام، وقيل إن بن الأشعث كان سيتجه إلى مصر للاستيلاء عليها.
وخلال ذلك الوقت انتشرت الأوبئة في أغلب الإمارات الإسلامية، لكن دولة القرامطة لم يمسها شيء من ذلك وكان يوجد فيها نظام رخاء اقتصادي، ووصل نشاطها البحري إلى الهند والصين، ووصفها بعض المؤرخين والرحّالة بأنها جنة الله في أرضه.
عام 317 هجريًّا، ذهب القرامطة إلى مكة، واستولوا على الحجر الأسود تحت قيادة أبي طاهر الجنابي، لاستخدامه في التفاوض حول مسائل سياسية. ويذكر التاريخ هذه الواقعة على أنها سرقة للحجر ومحاولة لبناء كعبة في جنوب العراق، لكن كل ذلك غير صحيح، فالأمر لم يخرج من نطاق التفاوض السياسي، وأُرجع إلى مكة عام 340 هجريًّا تقريبًا.
واستمر حكم القرامطة مئتي عامًا تقريبًا، وامتاز بوجود نوع من العدالة الاجتماعية، ونظّم العمال والحرفيون جماعات متخصصة أشبه بالنقابات العمالية. واهتم القرامطة بالفلسفة اليونانية وتأثروا بالأفلاطونية المحدثة، وأسسوا أول تجربة لتطبيق الاشتراكية في التاريخ.
ولكن التجربة اندثرت تدريجيًّا مع استقطاب الدولة الفاطمية للقرامطة في سوريا والعراق وإيران واستمرت دولة القرامطة في البحرين لتعود وتندثر بدورها.
ثورة يعقوب بن ليث… دولة الحرفيين المستقلة
اشتعلت في إيران في إقليم سجستان في فترة تسلط العسكر التركي الذي أضعف الخلافة العباسية.
وكانت أسبابها فرض ضرائب باهظة على الفلاحين، الأمر الذي جعلهم يتركون الأرض والزراعة ويتجهون إلى المدن للعمل في مهن حرفية. وفي المقابل، رفع العسكر التركي الضرائب على الحرفيين. وزاد غضب هؤلاء على الخلافة، فجمعهم يعقوب بن ليث، الذي كان يعمل في صناعة النحاس منذ صغره، وقرروا الثورة ضد الخلافة الإسلامية لرفع الظلم الاجتماعي وإقامة أول دولة مستقلة للحرفيين.
وكان يعقوب بن ليث يوصف بأنه داهية في الذكاء والمكر، الأمر الذي مكّنه من جذب مؤيدين كثر لفكرته، فقد انضم إليه الفلاحون أيضًا. وأنشأ الثوار جيشًا منظّمًا، وتوسّعت الثورة واستحوذت على إمارات كثيرة حول سجستان.
وقد أثنى المؤرخ الإسلامي “المسعودي”، صاحب كتاب “مروج الذهب ومعادن الجوهر”، ثناءً عظيمًا على النظام والتطور اللذين امتازت بهما ثورة “يعقوب”، مستفيدة من الخبرة الفارسية في نظم الإدارة.
فقد أنشأ يعقوب نظامًا للاستخبارات حتى يعلم ما يفعله أعداؤه في الإمارات المجاورة، وبنى مساكن للحرفيين، ونهض بالمنطقة القاحلة الجبلية في ثورة عمرانية، واتسعت إمارته إلى آسيا الوسطى، الأمر الذي جعل الخلافة الإسلامية في بغداد تشعر بالخطر من إمكانية دخوله بغداد وإعلان نفسه خليفة. وبالفعل أرسلت بغداد جيشًا لكن “يعقوب” هزمه.
ولم تجد الخلافة مفرًّا من الاعتراف بحكم “يعقوب” وإغرائه بالأموال والمناصب. فطلبت منه أن يصبح رئيس شرطة بغداد لكنه رفض وأصر على غزو بغداد نفسها.
لكنه هزم عام 262 هجريًّا، واقترحت الخلافة العباسية عليه التبعية لها ويكون ذلك عن طريق كتابة اسم الخليفة على العملة وموافقة بغداد على تعيين أي خليفة له، وذكر الخليفة في خطب الجمعة، فوافق “يعقوب” على السلم حتى ينظم دولته.
لكن بعد وفاة “يعقوب” آل الحكم إلى ابنه “عمر”، ففضل هذا أن يتوسع ويخرج من عباءة الخلافة العباسية، لكن الأمور جاءت بشكل عكسي فهزمه الخليفة “المعتضد”، وسقطت أول دولة عمالية للحرفيين والفلاحين في التاريخ الإسلامي.
صقورة… حركات الطبقة الكادحة
هي حركات عفوية عشوائية من الطبقة الكادحة والمسحوقة، انتهزت حادثًا صغيرًا وحولّته إلى حركة كبيرة طالبت بتغيير نظام الحكم. ولكن ذكر التاريخ أنهم “لصوص وقطاع طرق”.
وكنت أول مؤرخ في العصر الحديث يثبت وجود هذه الحركة في بلاد المغرب والأندلس تحت اسم “صقورة”. وعن ذلك قلت: “كنت أقرأ في كتاب لابن بطوطة يسرد فيه وجوده في الهند ومشاهدته حركة أطلق عليها اسم “الفتاك”، وقال إنها تشبه حركة صقورة في المغرب والأندلس. ومن هنا بدأت أبحث حتى توصلت إلى معلومات متناثرة تتحدث عن صقورة”.
وقف دعاة السلطة ضد الثورة، وأفتوا بأنها تريد إشاعة الفتنة والإباحية. وبعد سيطرة الثوار على بعض المناطق في بلاد المغرب، أصدروا قرارات بمصادرة أملاك العسكر والإقطاعيين، وشكّلوا جيشًا من العوام والمهمشين. ولكن هذه الحركة فشلت سريعًا، لافتقادها أيديولوجية مذهبية تربط المشاركين بها.
لماذا فشلت هذه الثورات والحركات؟
لأنها كانت أشبه بهبّات تلقائية عفوية وهوجاء، وشاركت فيها عناصر مختلفة، ولم توجد دعوة مذهبية تقوم بصهر هذه العناصر في بوتقة واحدة لتكوّن منها جسمًا قويًّا يدافع عن الثورة، فكانت تتشابك هذه العناصر ما سهّل بث الفتنة بين مكوّناتها من جانب سلطة الخلافة الإسلامية.
ومعظم عناصر هذه الحركات من العوام البسطاء وكانوا يتجهون إلى السحر والخرافات، وإلى السلب والنهب إذا انتصرت الثورة.
فالحكم في العالم الإسلامي كان حكمًا دينيًّا ثيوقراطيًّا بمعنى أن الحاكم هو ظل الله على الأرض وعلى الرعية الطاعة، وفكرة الثورة كانت محرّمة بصبغة دينية، مذكّرًا بإفتاء الفقهاء بتحريم الخروج على الحاكم حتى لو كان فاسقًا.
أما بخصوص امتناع المؤرخين عن تدوين أخبار هذه الثورات بشكل وافٍ ومحايد، فكان أن “الكتابة عن هذه الثورات كان من أجل تشويهها، وحتى يتم مسح ذكرى كل الثورات والانتفاضات الشعبية من التاريخ”.
والسلطة ورجالها كانوا يوجّهون إليها ثلاث اتهامات، أولاها “الزندقة حتى يتم إظهار أنها تحاول إخراج العامة من الدين”، وثانيتها أنها “كانت إباحية تطالب بمشاعية الثروة، وأن هذه الأفكار ليست إسلامية، بل تم استيرادها من الكافر سقراط”، وثالثتها “كانت العمالة لدولة أجنبية، فهذه التهمة موجودة منذ الثورات الأولى في التاريخ الإسلامي”.
كما توجد حركات وثورات أقل أهمية وكانت تخرج جميعها من بيئات المهمّشين والعوام للتخلص من الإقطاع والرغبة في تحقيق العدل الاجتماعي.
ومن تلك الثورات “ثورة الخشبية” في العراق، و”ثورة الزنج الثانية” (255 – 270هـ)، وثورة حميم المفتري الذي أنشأ دولة للمعتزلة بين عامي 312 و315 هجريًّا في بلاد المغرب الأقصى (المملكة المغربية ودولة موريتانيا حاليًّا).
ومن بين الحركات، “حركة العيارين” في بلاد العراق، و”حركة الشطار” في الشام، و”حركة الحرافيش” في مصر، و”حركة الفتاك” في آسيا الوسطى.
لقد قلنا إن التاريخ الإسلامي عمومًا كُتب أغلبه من وجهة نظر مؤرخي السلطة، وتلك من المآسي الإنسانية والإسلامية.
المقالات المرتبطة
تأثيرات جائحة كورونا على النّظام التّعليميّ
يشهد العالم أجمع حدثًا جللًا يتمثّل في جائحة كورونا؛ هذا الفيروس الخفيّ الذي أثبت للعالم ككل، أنّ الإنسان خُلِق ضعيفًا، إذا مسّه الشرّ جزوعًا، هذا الوباء الذي لا يُرى بالعين
الروحانيّة الحديثة والتصوّف الإلحادي* (10)
مذهب فلسفي اعتقادي إلحادي غير ديني، يسعى للإجابة عن الأسئلة الحياتية الكبرى (الله، الكـون، والإنسان) عبر التجربة الغنوصية. تقـوم على الفلسفات الشرقية، وبعض الديانات الوثنية
السيرة الفرعونية في القرآن الكريم
حكى القرآن الكريم عن فرعون وقومه في آيات كثيرة، فذكر طغيان هذا الحاكم، وكيف أنه أفسد في الأرض وظلم.