وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي
نتناول في هذا المقال القصير بضع فقرات من وصية الإمام علي (ع) لابنه الإمام الحسن (ع)، الهدف هو التعريف ولو بشكل مختصر على هذا الدستور الحياتي العميق، والذي قد لا يعرفه الكثيرون، على أمل أن يأتي أحد لديه إلمام واسع ويكمل الغوص في مكنونات هذا البحر فيظهر هذا الكنز المخبّأ بين طيّات الكتب؛ لنتعلّم ونقتدي بهذا الإمام العظيم، وهذا الأب الذي لم يترك علمه لنفسه، بل وضعه في حنايا صدر ابنه، ومن ابنه إلى كل الأجيال القادمة.
الوصية الخالدة
تتضمن وصية الإمام عليه (ع) لابنه الإمام الحسن(ع) عند انصرافه من صفين أروع المعاني وأرق العبارات، فهي دستور حياة وضعه الإمام لابنه الإمام، لكي يسير عليه، ويتعظ من الماضي ليكون درب المستقبل خاليًا من مكدرات العيش، وأشواك اليأس. فالإمام هو موطن البلاغة والحكمة، يعرف تمام المعرفة أن ما يوصي به ابنه هو ليس مجرد وصية عادية خطّها في وقت أحس فيه الإمام أن أجله قد دنا، وأن تبعات هذه الوصية هي فقط لزمان ابنه الحسن، بل قد يستلهم القارئ من هذا الكلام العظيم أنها لزمان ابنه ولكل الأزمنة، هي دروس وعِبَر نتعلم منها كيف تكون علاقتنا مع الباري، وتوقظنا من غفلتنا لنكتشف حقيقة هذه الدنيا الفانية المليئة بالهموم والأحزان.
نتعلم منها كيف تكون علاقة الأب مع أبنائه، وكيف يتعامل الأب مع أبنائه بإسداء النصح والسير في هذه الدنيا بسيرة حسنة طيبة، ويذكّره بمن مضى، وأين أصبحوا الآن، وأن يعمل للآخرة، وأن لا يأمن هذه الدنيا فهي دار ممر والآخرة دار مقر.
هي مدرسة تربوية تعليمية قلّ ما تجد نظيرًا لها في التاريخ من حيث اختيار الكلمات والعبارات والجمل التي تسلك طريقها مباشرة إلى القلب والفكر، فيقتدي بها الإنسان لأنها أولًا نابعة من قلب والد حنون رؤوف إلى ابنه، وثانيًا لأنها من إمام معصوم لا يتكلم عن هوى نفسي، بل يتكلم بما يرضي الله تعالى، ولأنه يعلم أن كلامه سوف يكون نبراسًا يضيء دروب الحائرين والمتعبين.
هي مدرسة في العقائد الثابتة، والتوحيد الخالص لله تعالى، نتعلم منها كيف نتمسك بإيماننا بالله، وكيف نوحده توحيدًا لا يشوبه شائبة.
وهي مدرسة بالإيمان المنتزع منه شرك آلهة الكفر، وعبادة أوثان الجاهلية، نتعلم منها كيف نحسّن علاقتنا بالله، والسُبل التي توصلنا إلى هذا الإيمان الذي يوصي به الإمام (ع) الخالي من الكذب ومن الخداع، بل الممهور بالصدق وقول الحق، والابتعاد عن الرياء ومداهنة الناس.
فيبدأ الإمام وصيته بمنتهى الرقة الأبوية التي نشعر أثناء قراءتنا لها بأنه يخاطب كل فرد منا لجميل هذا الشعور والرابط العاطفي الذي يشعر به القارئ، فيقول الإمام (ع): “مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ – الْمُسْتَسْلِمِ لِلدُّنْيَا – السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى والظَّاعِنِ عَنْهَا غَدًا – إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرِكُ – السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ – غَرَضِ الأَسْقَامِ ورَهِينَةِ الأَيَّامِ – ورَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ…”.
وننتقل مع الإمام إلى قمة العاطفة الأبوية اتجاه ابنه واتجاهنا جميعًا، حيث يقول: “وصِدْقٍ لَا يَشُوبُه كَذِبٌ ووَجَدْتُكَ بَعْضِي – بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي – حَتَّى كَأَنَّ شَيْئًا لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي – وكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي – فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي…”. هنا يسكت قلم القلب، وتصمت الكلمات عن شرح هذا الكلام الذي ليس فوقه كلام، فهل هناك أجمل من أن يقول والد لولده أنت لست فقط بعضي بل أنت كلي، أي حنان هذا المخزون في قلب الإمام، حتى أنه يخبره بأن الموت لو أتاه فكأنما يأتي إليه أولًا. نجد في هذا الكلام، كل تجليات العاطفة الأبوية اتجاه الأبناء، فما بالنا بأب كالإمام علي وابن كالإمام الحسن عليهما السلام.
ولا ينسى الإمام أن يذكّر ابنه دائمًا بتقوى الله: “فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّه أَيْ بُنَيَّ ولُزُومِ أَمْرِه – وعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِه والِاعْتِصَامِ بِحَبْلِه – وأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّه – إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِه…”، فالتقوى هي من القواعد الأساسية لثبات الإيمان بالله والابتعاد عن المعاصي، كما توصلنا إلى أن نتمسك بحبل الله فنبني بذلك جسورًا ثابتة لا تتزعزع، ولا تنهار إن نحن عملنا بالتقوى، وتمسكنا بحبل الله المتين.
ولأن القلب موطن لكل المشاعر سواء الإيجابية منها والسلبية، لذا فإن الإمام (ع) يؤكد على ضرورة تنقية هذا القلب من الشوائب، وتطهيره من كل الآفات، فيوصي ابنه بـ: “أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وأَمِتْه بِالزَّهَادَةِ – وقَوِّه بِالْيَقِينِ ونَوِّرْه بِالْحِكْمَةِ – وذَلِّلْه بِذِكْرِ الْمَوْتِ وقَرِّرْه بِالْفَنَاءِ – وبَصِّرْه فَجَائِعَ الدُّنْيَا – وحَذِّرْه صَوْلَةَ الدَّهْرِ وفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي والأَيَّامِ…”. فالقلب السليم لكي ينعم بالعيش في هذه الحياة علينا إحياؤه دائمًا بالموعظة، وأن نميته بالزهد، ونقوّيه باليقين، وننوّره بالحكمة. أما إن أردت أن تذلّه فذكره دائمًا بالموت والإقرار بأنه سوف يفنى… فكما أن النفس بحاجة إلى تربية وجهاد، كذلك هذا القلب علينا دائمًا أن نعمل على تهذيبه وتربيته، كي يبقى في مصاف القلوب الوالهة الشاخصة بأبصارها إلى الباري تعالى، ففي المروي: “قلب المؤمن عرش الرحمن”[1]، ولكي يبقى مهذبًا ونقيًا يستحق عن جدارة بأن يكون مصداق الحديث القدسي: “لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن”[2].
علينا التبحر في هذه الوصية لأن فيها الكثير من الحكم البليغة، والمواعظ الرشيدة، علّنا نستخرج منها اللآلئ النفيسة التي لا نجدها إلا كلما غصنا في أعماق البحار. لكن المجال لا يتسع هنا في هذا المقال القصير، على أمل أن نوفق في الأيام القادمة بأن نخوض في عباب هذا البحر اللامتناهي لهذه الوصية فنعطيها حقها، ولنقوم بالإضاءة عليها ما وسع فهمنا وإدراكنا من الوصول إليه، لترسو سفينة اكتشافنا لهذا الكنز على شاطئ معرفة ولو جزئية بعلم كلي لهذا الإمام العظيم أمير المؤمنين علي (ع).
فإلى السالكين في درب الحق والحقيقة، والسائرين في طريق عبادة الله الواحد الأحد، المنضوين تحت لواء الإسلام ونبوة النبي محمد (ص)، المحافظين على إرث النبي بأهل بيته (ع)، والممتشقين سيف العدالة بانتظار قائم آل محمد (عج)، هذه الوصية هي بحر من العلم والمعرفة والإيمان بالله، والتوحيد الخالص، لا ينضب، ولا ينتهي، فكل ما قرأناها سوف نكتشف الذخائر النفيسة، والدرر النادرة، فإنها بعض من علم إمام نقي تقي إنه أمير المؤمنين علي (ع).
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 55، الصفحة 39.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 39.
المقالات المرتبطة
التطور، الخلق، الإبداع، اليوم بين العرف والواقع
بين يديكم مقال في مجال الخلق والإبداع – يتناوب بينها في الوجود -، وكذلك التطور واليوم، جميعًا بالمعنى الحقيقي لا المشهور.
معاني عاشوراء
الفكرة التي يمكن تناولها تتعلق بثلاثة صور من المعاني: الصورة الأولى: تتعلق بنفس الواقعة بما هي حدث تاريخي. وفيها أن
الصيام مائدة الخلاص ومأدبة الإخلاص
كُتِبَ عليكم الصيام/كتب عليكم القصاص/كُتِبَ عليكم القتل /كتب عليكم القتال؛ وفي جميع ما كُتِبَ، يوجد نوع مشقة ومجاهدة، وصراع وكَدح، ويوجد تنقية وترقية، لتقودَنا إلى الترقية.