by محمد طباجة | مايو 10, 2023 8:44 ص
في عصرٍ بات تحصيل العلمِ سهلٌ يسير حيث يتلقّف المرء المعارف من كل حدبٍ وصوب، طُرح سؤال حول نوع وقيمة العلم الحديث وحاجتنا لعلم مقدّس (محاولة حسين نصر)[1][1]. في هذا السيّاق، يتم ذكر علم الصوفيين أو العرفاء كأنّه علمٌ من نوع آخر: علم الباطن، علم قدسي، علم لدنّي، المعرفة، وغيرها من التّسميات[2][2]. على سبيل المثال، يذكر البقلي في تفسيره: “﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ من المعارف القدسية والحقائق الكليّة اللدنيّة بلا واسطة تعليم بشري”[3][3]. ويعتقد أغلب الصوفيون أن العلم اللّدني له قيمة معرفية تفوق تلك العلوم التي نكتسبها بالتّعليم وذلك لسبب مصدر كل علم؛ الأوّل مصدره إلهي، والثاني مصدره إنساني. ومن المستحسن اتّباع مصادر الصوفية الأوائل لنرى متى وبأي سياق بدأ استخدام مصطلح العلم اللدني. أول ما ظهر مصطلح العلم اللدني كان في سياق تفسير قصة الخضر وموسى. تدل الآية ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ [الكهف:65] على العلم الذي تلقّاه الخضر من لدن الله. وبدأ يُطلق عليه “العلم اللّدني”، كما تشهد الفترة الممتدة من القرن الخامس للقرن السابع الهجري تفاسير وكتب للصوفيّين شرحت ورسّخت العلم اللدني على أنه من العلوم التي ينبغي للمريد السعي وراءها.
يظهر مصطلح العلم اللّدني في تفسير السّلمي (412هـ) حقائق التفسير، حيث جمع فيه أقوال الصوفيين عن العلم اللدني كابن عطاء والجنيد. وبعده، تفسير القشيري (465 هـ) المسمّى لطائف الإشارات، لنشهد تطورًا ملحوظًا في عرض وشرح العلم اللدني لدى الغزالي (505 هـ) ضمن رؤية فلسفية، حيث أفرد رسالة خاصة سمّاها الرسالة اللّدنية، بالإضافة إلى ما ذكره في إحياء علوم الدين. وأخيرًا، نجد روزبهان البقلي (606 هـ) ينقل أقوالًا من تفسير القشيري “الأستاذ”، ويتوسّع أكثر في تفسير العلم اللدني في قصة الخضر وموسى. لنستخلص أنّ العلم اللّدني كمفهوم، له جذور في القرآن، وثم تم تطويره وإدخاله في رؤية وفهم المتصوفة لحقيقة العالم والنفس معًا. من هنا، لعب مفهوم العلم اللدني دورًا كبيرًا خاصة في علاقة الشيخ بالمريد.
تعريف العلم اللدنّي
علمت الشيء أي عرفته، و”للعلم معانٍ عديدة، والحسي من العلم مثل علمت الشيء، أي عرفت علامته وما يميزه ونقيضه صفة الجهل، ومن العلم ما يكون حكمًا بإثبات أو بنفي”[4][4]. وعند الصوفية “العلم الوهبي، أو ما يسمّى باللّدني، فإما أن يكون وحيًا ويختص به الأنبياء وحدهم، أو يكون إلهامًا ويختص به الأنبياء، والأولياء، وهذا العلم، هو الوارد في قوله تعالى: ﴿نحن نعلّمهم﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ﴾..”[5][5]. ونجد عند الكلاباذي (380هـ) ذكر علم يمكننا اعتباره العلم اللّدني، وهو علم الإشارة ونصّ ذلك: “ثم وراء هذا علوم الخواطر وعلوم المشاهدات والمكاشفات وهي التي تختص بعلم الإشارة وهو العلم الذي تفرّدت به الصوفية..”[6][6]. كذلك عندما يتعرّض السرّاج (378هـ) لتفسير العلوم الخاصّة، مع أنه لا يذكر مصطلح العلم اللّدني، يذكر المعنى نفسه في سياق قصة الخضر والنبي موسى: “قال الشيخ رحمه الله: اعلم أن العلم أكثر من أن يحيط به فهم الفقهاء، أو يدركه عقول العقلاء، وكفاك بقصة موسى والخضر عليهما السلام مع جلالة موسى (ع) وما خصه الله به من الكلام والنبوة والوحي والرسالة. وقد ذكر الله تعالى في الحكم الناطق على لسان نبيه الصادق، عجز موسى (ع) عن إدراك علم عبد من عباده إذ قال تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ )سورة الكهف، الآية 65)..”[7][7].
وبحسب اطّلاعنا، يمكننا أن نعدّ الكلاباذي والسرّاج من بدايات تشكّل مصطلح العلم اللدني حيث يُذكر المعنى دون اللفظ.
العلم اللّدني عند السلمي
ذكر السّلمي في كتاب زيادات حقائق التفسير قول سهل التّستري (ت 283 هـ)، وأبي بكر الشّبلي (ت 334 هـ ) عند تعرّضه للقصة المذكورة: “قوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (65:18).. سمعت سهل بن عبد الله يقول: الإلهام ينوب عن الوحي، كما قال: وأوحى ربّك إلى النّحل (68:16)، وأوحينا إلى أم موسى (7:28) وكلاهما كان إلهامًا. وقال بعضهم: هو العلم بنفسه وعدّوها وما يطرأ عليها، لذلك قال من عرف نفسه عرف ربّه. قال الشبليّ: علمًا شغله بنا عمّا سوانا. وقيل يدلّه علينا ويقطعه عن الأكوان وما فيها”[8][8]. يمكننا الفهم من هذا النّص أنّ التّستري يرى علم الخضر وهو العلم اللّدني على أنّه إلهامًا، كما استشهد بآيتين فيهما وحي، وكان المقصود فيهما الإلهام ما يدل على أنّ الوحي غير مختص بالأنبياء؛ كأنّ الخِضر ألهِم أمرًا ما فقط. ونرى عند الشّبلي أنّ العلم اللّدني مصدره غيبي ويشغلنا عمّا سوى الله.
أما في كتاب حقائق التفسير، ينقل السّلمي أقوالًا كثيرة تشرح طبيعة العلم اللّدني في سياق عرض قصة الخضر. ونصّه “قوله عز وجل: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ [الكهف: 65]، قال ذو النون: العلم اللّدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان”[9][9]. ولذي النون قول آخر: “إن الله بسط العلم ولم يقبضه ودعا الخلق إليه من طرق كثيرة، ولكل طريق منها علم مفرد، ودليل واضح فتلك الأدلة يدلون على المناهل، وبنور ذلك العلم وتلك الأعلام يهتدون، ولكل أهل طريق منها علم فهو بعلمهم يستعملون، ومتى ضلوا في طرق هذه العلوم أو أخطؤوا فإن صاحب العلم اللدني يردهم إلى المحجة”[10][10]. يعطينا ذو النون تفسيرًا للعلم اللدني له طابع عملي أو تقييمي، أي إنّ صاحب العلم اللدني هو الذي يهدي بقية الخلق وله قدرة الحكم على بقية العلوم. إذا أخطأنا في علومنا، يصلح صاحب العلم اللدني لنا طريقنا. يمكننا أن نفهم، أن العلم الحصولي أو الاكتسابي يمكن أن يقع فيه الخطأ، أما العلم اللدني فلا مورد للخطأ فيه، وهذا ما قصده ذو النون بأن الهداية بالعلم اللدني أما الضلال فوارد في العلوم الأخرى.
ثاني الأقوال قول ابن عطاء، “في قوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ قال بلا واسطة المكشوف، ولا بتلقين الحروف لكنه الملقى إليه بمشاهدة الأرواح. قال فارس: العلم اللدني ما وقع على حسه بالاستيفاء بلا واسطة”. يظهر في هذا التّعريف أيضًا “عدم الواسطة” في العلم اللّدني، السّبب الذي يجعله يفوق بقية العلوم. ويزيد السّلمي: “قال الهيثم: علم الاستنباط بكلفة ووسائط، وعلم اللدني بلا كلفة ولا واسطة”. هذه المقارنة بين علم الاستنباط والعلم اللّدني تظهر في سياق قصة الخضر وموسى، حيث يحاول النبي موسى معرفة الحوادث من خلال الاستدلال أو عملية الاستنباط، أما الخضر فعلِم الحوادث وعواقبها بلا كلفة أو واسطة، لهذا تصرّف على نحوٍ لا يمكن معرفته بالاستنباط. وأخيرًا قول الجنيد: “العلم اللدني ما كان محكمًا على رسوله من غير ظن فيه ولا خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات وذلك يقع للعبد إذا لزم جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته كل الإيرادات، وكان شيخًا بين يدي الحق بلا تمنّ ولا مراد”. يضيف الجنيد في تعريفه عدة أمور: أن العلم اللدني مصدره الغيب، شرط تحصيله الطاعة وعدم العصيان، والتوكل والتسليم بين يدي الله. وهو آخر تعريف نقله السّلمي، حيث يزداد تعريف العلم اللدني تعقيدًا أو تنظيمًا، بأن له حقيقة ولتحصيله شروط.
العلم اللّدني عند القشيري
أما في تفسير القشيري، نجد عدة تعاريف غير منسوبة لأحد: “﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾: قيل العلم من لدن الله ما يتحصّل بطريق الإلهام دون التكلّف بالتطلب. ويقال ما يعرّف به الحق- سبحانه – الخواص من عباده. وقيل هو ما لا يعود منه نفع إلى صاحبه، بل يكون نفعه لعباده مما فيه حق الله- سبحانه. ويقال هو ما لا يجد صاحبه سبيلًا إلى جحده، وكان دليلًا على صحة ما يجده قطعًا، فلو سألته عن برهانه لم يجد عليه دليلًا؛ فأقوى العلوم أبعدها عن الدليل”[11][11]. ويظهر من أول تعريف تكرّر فكرة الإلهام وعدم التكلفة. أما في التّعريف الثاني، فالعلم اللدني له ميزة الكشف عن خواص أو أولياء الله ما يميّز الطبقة التي تمتلك هذا العلم عن البقية وهم “العامة”. وثالثًا، إنّ ميزة العلم اللّدني أنّه يأتي بالنفع لعباد الله، كما يظهر في قصة الخضر عند خرق السفينة، هدم الجدار، وقتل الغلام. كل هذه الأحداث كان فيها نفعٌ لخلق الله. ويدل على هذا عدم طلب الخضر الأجر بعد هدمه للجدار، كما أشار عليه النبي موسى، لأن من طبيعة هذا العلم خدمة خلق الله.
وأخيرًا، قول القشيري بأنّ “أقوى العلوم أبعدها عن الدليل”. وبهذا المعيار، تظهر أفضلية العلم اللدني على العلم الكسبي؛ وذلك لأنّ العلوم على شقّين: العلم الحصولي، والعلم الحضوري. العلم الحصولي هو العلم الذي نكتسبه إما بالتصور وإما بالتّصديق. ومثال على ذلك حضور صورة زيد في الذهن، أو تصديقي بأن الكل أكبر من الجزء. في الشق الأخير، يحصل التّصديق بسبب جملة من الأدلة أو الأقيسة البرهانية ممّا قد يحصل فيه الخطأ. أما في العلم الحضوري فهو عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم، لا صورة المعلوم كما في الأول. من هنا، المعيار الذي أعطاه القشيري بأن أقوى العلوم أبعدها عن الدليل، أي أن مع كثرة الأدلة، يزداد احتمال الخطأ، وهذه ميزة العلم اللّدني أنه سنخُ علمٍ حضوري أو وهبي لا يخضع للاستدلال والبراهين. أما في الرسالة القشيرية، لا نرى ذكر لمصطلح العلم اللّدني، ولكن نرى أن القشيري يذكر، ولو بأسماءٍ أخرى، للمعرفة والعلم من ذات النّوع. “سمعت أبا الطيب المراغي يقول: للعقل دلالة، وللحكمة إشارة، وللمعرفة شهادة؛ فالعقل يدل، والحكمة تشير، والمعرفة تشهد”[12][12].
ويتكرّر ذكر علم الإشارة على أنه مرادف للعلم اللّدني؛ لأنّ في كِلا العلمين يكون المصدر إشارة، إلهام، أو هِبة من الله.
وفي باب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم، نرى إشارة عن علاقة الشيخ بالمريد من خلال ما يذكره القشيري: “قال الله تعالى في قصة موسى مع الخضر، عليهما السلام: “هل أتبعك على أن تعلمني رشدًا” – والعلم الذي تعلّمه الخضر هو العلم اللّدني-” قال الإمام: لما أراد صحبة الخضر حفظ شرط الأدب، فاستأذن أوّلًا في الصحبة، ثم شرط عليه الخضر أن لا يعارضه في شيء ولا يعترض عليه في حكم، ثم لما خالفه موسى (ع) تجاوز عنه المرة الأولى والثانية، فلما صار إلى الثالثة، والثلاث آخر حد القلة وأول حد الكثرة، سلمته الفرقة؛ فقال: هذا فراق بيني وبينك”[13][13]. لهذا، ينبغي للمريد اتّباع الشيخ، لما يمتلكه من علم لدنّي، وأن لا يسأل أو يعترض على شيخه في شيء، تأسّيًا بقصة الخضر وموسى. ومع كل ما تقدّم من تعاريف، لا نرى فصلًا مفردًا يُتعرّض فيه للعلم اللّدني وربطه بالعلوم الأخرى إلا عندما نصل عند الغزالي.
العلم اللّدني عند الغزالي والبقلي والرؤية الفلسفية للعالم
في الشق الثّاني، سنرى تعريف الغزالي وبعده روزبهان البقلي للعلم اللّدني، وكيف تم تصوّره في رؤية المتصوّفة للعالم. عند الغزالي، نشهد نضوجًا أو نقلة نوعية في تعريف وعرض طبيعة العلم اللّدني. كأيّ مفهوم جديد، تبقى التعاريف الأوّلية مضطربة أو مختلفة من شخص لآخر. نبدأ في عرض ما ذكره الغزالي في الرسالة اللدنية التي ألّفها، كما صرّح في المقدّمة، للرد على منكري العلم اللّدني.
“والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري، وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف وذلك أن العلوم كلها حاصلة معلومة في جوهر النفس الكلية الأولى الذي هو في الجواهر المفارقة الأولية المحضة بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم (ع)”[14][14]. ويذكر بعد هذا كيف يتحقق العلم اللّدني: “وقد بيّن أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من النفس الكلية، والنفس الكلية أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات، فمن إفاضة العقل الكلي يتولد الوحي، ومن إشراق النفس الكلية يتولد الإلهام، فالوحي حلية الأنبياء والإلهام زينة الأولياء..”. ويشمل العلم اللّدني الأنبياء والأولياء، ما يجعلنا نستخلص أن الحصول عليه أشبه برتبة وجودية يمكن لأي شخص الوصول إليها: “والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية كما كان للخضر (ع) حيث أخبر الله تعالى فقال: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾.. وهذه مرتبة لا تنال بمجرد التّعلم الإنساني، بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللّدني”. “فالله تعالى أغلق باب الوحي وهو آية العباد، وفتح باب الإلهام رحمة وهيأ الأمور”[15][15].
أما في إحياء علوم الدّين، يبيّن الغزالي الفرق بين الإلهام والتعلم، وبيان طريق الصوفية في استكشاف الحق. ونجد عرضًا تراتبيًّا للعلوم حتى يصل الحديث إلى العلم اللّدني. يقول الغزالي: “والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف؛ وذلك علم من غير تعلّم. وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾[سورة يونس، الآية 6]، خصصها بهم وقال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية 138]. وكان أبو يزيد يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء بلا حفظ ولا درس. وهذا هو العلم الرباني، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ [سورة الكهف، الآية 65]، مع أن كل علم من لدنه ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمّى ذلك علمًا لدنّيًّا، بل اللّدنّي: الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج. فهذه شواهد النقل، ولو جمع كل ما ورد فيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن الحصر… وأما مشاهدة ذلك بالتجارب فذلك أيضًا خارج عن الحصر، وظهر ذلك على الصحابة والتابعين ومن بعدهم”[16][16].
نرى أن الغزالي يستشهد بالآيات والنصوص، كي يدعم حقيقة العلم اللّدني بالدليل النقلي، ثم يذكر أحاديث نبوية وقصص للصحابة كدليل من السنّة أو السيرة، حتى يصل لتقسيم العلوم واستخدام مفاهيم فلسفية في شرح طبيعة العلم اللّدني. لهذا، سنذكر قول روزبهان البقلي؛ إذ إنّه جاء بعد الغزالي وله تفسير قريب للعلم اللدني، ثم نقوم بتوضيح عدة أمور: نظرية العقول، والفهم الفلسفي للعالم اللدني، لتكرر مصطلحي “العقل القدسي”، و”النفس الكلي” عند الأخيرين.
يذكر البقلي في تفسيره: “﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾ فيه إشارة خفية أنّ لله سبحانه خواصًّا من عباده، وهم الذين اصطفاهم لمعرفة ما استأثر لنفسه من علوم الربوبية، وأسرار الوحدانية، وحقائق الحكمة ولطائف ملكوته وجبروته، وهم أهل الغيب وغيب الغيب والسر، وسرّ السر الذين غيبهم الله في غيبه، وسترهم عن خلقه شفقة عليهم فيما يظهرون من سر الله، وهم العباد بالحقيقة الذين بلغوا حقيقة العبودية، بحيث جعل الله عبوديتهم محاذيًا لربوبيته، وإلا فالكل عباده من حيث الخليفة لكن هم العباد بالحقيقة من حيث المعرفة.. ووجد العقل القدسي وهو عبد من عباد الله مخصوص بمزية عناية ورحمة ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾؛ أي كمالًا معنويًّا بالتجرد عن المواد، والتقدس من الجهات النورية المحضة التي هي آثار القرب والعندية ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ من المعارف القدسية والحقائق الكليّة اللدنّية بلا واسطة تعليم بشري”[17][17] .
يأتي الفهم الفلسفي للعالم عمومًا وللنصوص خصوصًا بطريقة مغايرة للفهم العرفي للنصوص. وعندما نطّلع على بعض نصوص الفارابي أو ابن سينا وكيفيّة تفسيرهما للحقائق الميتافيزيقية، فلا يتوقفا على الفهم العرفي أو الظاهري للنصوص. وذلك مبني على اعتقاد بأن اللغة التي جاء بها الوحي لا تدل على الفكرة مباشرة بل تحاكيها. وطرحنا المقدّمة هذه ضروري لأن الغزالي استخدم مصطلحات تُعدُّ جزءًا من الفلسفة المشائية. ويعدُّ كلٌّ من الكندي والفارابي وابن سينا أعلام هذه المدرسة. وقضية الوحي، المعرفة، والعلم اللّدني لا تنفصل عن هذا السّياق. كما نعلم، قضية العلم تُعدُّ من قضايا نظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا، وهذا ما أولته هذه المدرسة اهتمامًا بالغًا: كيف نكتسب العلم، وما هي أنواع العلوم، وغيرها من المواضيع ذات الصّلة. من وجهة نظر الفيلسوف، يصيغ النصوص بطريقة تحاكي الإطار والفهم الفلسفي للعالم. وهذه قضيّة قد لا يوافق عليها البعض، بأن لغة النّص لغة رمزية تحاكي حقائق ميتافيزيقية مفارقة لهذا العالم. ولكن إذا افترضنا صحّة هذه القضيّة، سنفهم طريقة الغزالي والبقلي عند شرحهما لحقيقة العلم اللّدني.
تبدأ القراءة الفلسفية للوحي وللعلم مع الفارابي 339 هـ التي أثرت بابن سينا والمتكلّمين تباعًا، بل حتى على بعض اللاهوتيين كتوما الأكويني. اعتقدت الفلسفة المشائية بقاعدة الواحد لا يصدر منه إلا واحد. نتيجة هذا، تبنى بدايات الخلق والإيجاد على فكرة الصدور أو الفيض. لهذا، نجد الغزالي في هذه الفترة التي كانت الفلسفة المشائية قد بلغت أوجها، يستخدم مصطلحات كالفيض والإشراق. وفكرة الفيض ليست حديثة الولادة، فهي تعد ركن من أركان الفلسفة الأفلوطينية اليونانية. ويمكننا فهم هذا ضمن نظرية العقول التي تكرّرت في نصوص الغزالي والبقلي. نظرية العقول تعد جزءًا من فهم الفلاسفة المشائين للعالم أو ما يصطلح عليه اليوم: “علم الكونيّات Cosmology”. تبدأ النظرية بقاعدة الواحد: أن الله هو الواحد، ولا يصدر عنه إلا واحد. فاعتقدوا بهذا أن المبدأ الأول هو الله، وهو مجرّد عن المادة، وبعده نبدأ “بالنزول”: الصادر الأول أو العقل الأول، العقل الثاني.. وصولًا إلى الأفلاك والأنفس الكلية، آخرًا العقل العاشر أو العقل الفعّال. العقل الفعّال هو واهب الصور النّوعية؛ هو الذي يجعل الإنسان إنسانًا والشجرة شجرةً. كما أنه يفيض العلم والمعرفة على المدرَكات. هنا نفهم أنّ قول الغزالي: بأن العلم اللّدني يأتي كموهبة أو فيض من العقل الكلّي، لأنه هو الذي يفيض العلم والمعرفة علينا، بقدر مجاهدتنا النّفسية وتجرّدنا عن المادّة. العالَم والعالِم، وفق هذا التصوّر، على علاقة مع العقل الفعّال أو العقل الكلّي. بناءًا عليه، العلم اللّدني أصبح جزءًا من منظومة ورؤية ميتافيزيقية استُدل عليه فلسفيًّا، لا وفق النصوص والتجارب فقط. ويقيم هذه العلاقة الفارابي عندما يذكر في كتابه السياسة المدنيّة أن الروح القدس أو جبرائيل هو العقل الفعّال. حيث يقول: “والعقل الفعّال هو الذي ينبغي أن يقال إنّه الروح الأمين وروح القدس..”[18][18].
كل العلوم إذًا موجودة أو منضمة في العقل الفعّال هذا، لهذا لا يرى بعض المتصوفين قيمة مهمة في التّحصيل والسعي وراء العلم البشري أو الاكتسابي. النقطة الثانية، أنّ النفس الإنسانية لها قوى والعقل له مراتب. القوة الحسية، والقوة المتخيّلة، والقوة العاقلة التي تدرك الكليّات والمجرّدات. وكثيرة هي الشروح لهذه القوى، ويهمّنا القوة الأخيرة، لأنها هي رابطة الوصل مع العقل الكلّي أو العقل الفعّال. ويمكن شرح نظرية العقول باختصار وفق رؤية الفارابي: العقل بالهيولى أو بالقوة وهو العقل الذي فيه قابلية الإدراك. أما العقل بالفعل هو الذي تحقق أي نوع من الإدراك. والعقل المستفاد هو الذي يدرك المعقولات المجرّدة والحقائق الكليّة المفارقة للمادة[19][19]. والمفاهيم التي استخدمها كل من الغزالي والبقلي قريبة جدًّا من هذه الرؤية، حيث إن الصوفي يقترب شيئًا فشيئًا من “العقل الفعّال”، فيوهب أو يُفاض عليه العلم اللّدني أو أي نوع من العلوم المجرّدة الأخرى. عندما يحل العقل الكلّي في نفس الإنسان، يحصل الصوفي على العلوم؛ لأنّه عَبَر وبلغ الأوج في هذا الهرم المعرفي، حيث يتّحد مع العقل الفعّال أو الكلّي. بهذا، يمكننا فهم الغزالي والبقلي عند شرحهما العلم اللدني وفق إطار وفهم فلسفي للعالم، لا فقط كما كانت المحاولات الأولى لا تتعدّى سياق قصة الخضر وموسى. ويرى إبراهيم مدكور أن الغزالي وقع في تناقض في تبنيه هذه الرؤية وما جاء في كتاب التّهافت: “وبصرف النظر عما في موقف الغزالي من تناقض، فإن اعتراضه على نظرية الفارابي في النبوة لم يكن شديدًا ولا قاطعًا، ولهذا لم يتردد في أن يعتنقها في مكان آخر محاولًا إدعامها على أساس من الفيض والإشراق”[20][20].
والخلاصة، لا أريد التّعميم، لكن عدد غير قليل من المفاهيم والأفكار، تبدأ من النّص بفهم عرفي، ثم يتم دمج مفاهيم أو رؤى للعالم، سواء كانت كلامية، فلسفية، أو صوفية، فيتطوّر طبيعة أو شرح المفهوم كي يصبح له مكان ما أو تبرير عقلاني لهذه المفاهيم. ولا يقف دور التعاريف الصوفية على الشرح والتوضيح فقط، بل لها دور “وعظي didactic” كما استخلص كارل إرنست، بل تسخير هذا لقيمة أخلاقية أو سلوكية تظهر في بحثنا في علاقة الشيخ بالمريد[21][21]. وذلك المريد في سلوكه واتّباعه لما يطلبه منه الشيخ، هذا مبنيّ على سلطة معرفية أو علم لدنّي لا يمتلكه المريد بعد. أما بشأن العلم اللدني، فنرى كيف ظهر المصطلح عند السلمي، وبعده القشيري، وصولًا إلى التطور الفلسفي في شرح وعرض طبيعته عند الغزالي والبقلي ومقارنته بالعلوم الأخرى ما يعطي نوعًا من السلطة المعرفية للصوفية كتلك التي كانت للخضر في قصته مع النبي موسى.
المصادر:
[1][22] Nasr, S. (1989), Knowledge and Sacred, State University of New York Press.
[2][23] Shah‐Kazemi, Reza. “The notion and significance of Ma ‘rifa in Sufism”. Journal of Islamic Studies 13, no. 2 (2002): 155-181.
[3][24] البقلي، روزبهان، عرائس البيان في حقائق القرآن، دار الكتب العلمية، الصفحة 432.
[4][25] الشرقاوي، حسن، معجم ألفاظ الصوفية، دار المختار، الصفحة 212.
[5][26] المصدر نفسه. رقم الصفحة 212.
[6][27] الكلاباذي، أبو بكر محمد، كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف، مكتبة الخانجي، الصفحة 58.
[7][28] الطوسي، أبو نصر السّراج، اللّمع، دار الكتب الحديثة: لجنة نشر التراث الصوفي، الصفحة 455.
[8][29] السّلمي، أبو عبد الرحمن، زيادات حقائق التفسير، بيروت- لبنان: دار المشرق، الصفحة 84.
[9][30] السّلمي، أبو عبد الرحمن، حقائق التفسير: تفسير القرآن العزيز، بيروت- لبنان: دار الكتب العلميّة، الجزء 1، الصفحة 4.
[10][31] المصدر نفسه. رقم الصفحة 5.
[11][32] القشيري، أبو القاسم عبد الكريم، لطائف الإشارات، بيروت – لبنان: دار الكتب العلمية، الجزء2، الصفحة 227.
[12][33] القشيري، أبو القاسم عبد الكريم، الرسالة القشيرية، الصفحة5 .
[13][34] القشيري، أبو القاسم عبد الكريم، الرسالة القشيرية، الصفحة 281.
[14][35] الغزالي، أبو حامد، الرسالة اللدنية، مطبعة كردستان العلميّة، الصفحة 29.
[15][36] المصدر نفسه، الصفحة . 31
[16][37] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار ابن حزم، الصفحة. 901
[17][38] البقلي، روزبهان، عرائس البيان في حقائق القرآن، بيروت – لبنان: دار الكتب العلمية، الصفحة 432.
[18][39] الفارابي، أبو نصر، السياسة المدنيّة، بيروت: المطبعة الكاثوليكية، الصفحة 32.
[19][40] الفارابي، أبو نصر، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، بيروت – لبنان: دار المشرق، الصفحة. 101
[20][41]مدكور، إبراهيم، في الفلسفة الإسلامية: منهجه وتطبيقه، دار إحياء الكتب العربية، الصفحة . 131
[21][42] Sands, K. (2006), Sufi Commentaries on The Qu’ran in Classical Islam, Routledge: Taylor & Francis Group p.82.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15797/elim-ladounni/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.