by الدكتور أحمد ماجد | يوليو 17, 2023 1:00 م
الحكمة المتعالية مدرسة فلسفية قائمة بذاتها، لها خصائصها الذاتية التي تميّزها عن المدارس الأخرى، فهي وإن تقاطعت أو تواصلت مع غيرها من مشائية وإشراق، إلّا أنّها أبقت على عناصر خاصة بها، نالت على إثرها لقبها المدرسي، فهي نهلت من معين الإسلام، وتأثرت بالفلسفات السابقة عليها، ولكنّها اختطت لنفسها دربًا جديدًا، لم تقطع مع السابق، ولكنّها حاورته وتثاقفت معه. أبقت ما رأت فيه نافعًا في نسقها، ولكنّها تخطته في كثير من الحالات، وهذا ما يجعل كلّ عملية إقصاء لهذه الفلسفة بترًا لقطاع معرفيّ فاعل بين المعرفيات الإسلامية.
فدراسة الحكمة المتعالية ضروريةٌ بذاتها، لأنها تؤسّس لفهم آلية تطور العقل الفلسفي الإسلاميّ. هذا العقل الفلسفيّ، الذي يُحتفى بموته في العالم العربيّ مع “ابن رشد”، وكأنّ الفلسفة هي ذلك الغريب، الذي أتى على غير رضا الأهل، وحمل معه مقولات أقلقت البعض إلى حدّ النفور منها، فاستغلوا لحظة الموت لوضع سيرة ذاتية للفقيد، وهم تناسوا أنّ المعرفيات الإسلامية أُسِّست في الإسلام انطلاقًا من حاجيات ومتطلبات العقل الإسلاميّ، ولا يمكن حذف أو إقصاء أيّ فرع معرفيّ دون الإضرار بالآخر، لما بينها من وشائج اتصال تتعالى عن الظرفيّ والقوميّ والقطريّ والمذهبيّ، الذي يسوق معتقداته انطلاقًا من وقائع قد تكون في بعض الأحيان سيكولوجية أفضت إليها ضغوط الواقع، والتحديات أوصلته إلى نزعة طفولية تطمئن إلى الذاتيّ بما هو تعلق نصوصيّ غير منتج، لأنّ الذات الحضارية بمكوناتها أكثر تعددًا وغنًى، والبتر الذي يمارس بحق المعرفة قد يكون معيقًا لفهم الذات والآخر.
فالفلسفة الإسلامية غنية بما فيها، وهي تنوعت واغتنت بتجارب الحارثين فيها، وهي الفلسفة بمعناها الدقيق للكلمة، وإن أُضيف إليها الإسلام، فهذا لا يعني أكثر من خصوصية ترتبط بالقائلين دون القول، فهؤلاء بنوا مقولاتهم على أرض الإسلام، وتأثروا بالنظرة الكونية التي تحكم تفكيرهم والمبنية على لون خاص من الاعتقاد والنظر والتقييم للوجود، وعلى لون معين من التفسير والتحليل[1][1]، دون أن تفقد قيمتها كمعرفة إنسانية شمّالة، تستطيع أن تحمل في طيّاتها كلامًا يتعدّى الخصوصية إلى الكونية، بالتالي تستطيع أن تُحاوِر وتُحاوَر بعيدًا عن الآراء المثقلة بالذاتية والتمركز الحضاري؛ التي تحيلها إلى علم الكلام دون مسوغ عقلانيّ يوضح لنا المبرر، الذي أُقيم على أساسه الفرز.
فهؤلاء يعيشون هجاس اللحوق بالحضارة الغربية، فذهبوا إلى تبخيس الذات دون تدقيق أو روية، وهذا الأمر قد يكون مبرّرًا لأنّ صاحب القول آثر أن ينقل هذه المعرفية من سدّة القول وأحالها إلى سيرة ذاتية مبنية على تحقيبات جامدة أو مقولات لا تستجيب لمتطلبات الحياة، تحوّلها إلى مجرد عبارات ثقيلة مُرهِقة ومملة، تعيش في فضاءات لا ترتبط بوقائع الحياة، وكأنّها وُضِعت لتتحول إلى مادة صعبة تُلقى في صفٍ يسيطرُ عليه النعاس.
بهذا المعنى، لم تعد الفلسفة الإسلامية أكثر من شاهدٍ يدلّ على الغائب، فارقتنا منذ قرون، ونحنُ نعود إليها لنقرأ عليها ختام الكلام ونمسحُ يدَنا من خطاياها، أو لنبحث فيها عن ما تركته من أثر في الآخرين، دون تدقيقٍ حتى بسيرتها التي ما زالت حاضرة، وخيرُ دليل على ذلك مدرسة الحكمة المتعالية، التي بقيت خارج القول الفلسفيّ العربيّ، وهي لم توضع ضمن المـُفكَّر فيه.
وهذه الورقة ستبحث عن حضور الحكمة المتعالية (صدرا تحديدًا) في الدراسات الفلسفية العربية، لتنظر إلى ما قُدِّم وأهميته، وهي ركّزت اهتمامها على الدراسات والأبحاث، ولم تُدخِل في إطار اهتمامها مؤلفات “صدر الدين الشيرازي” والتحقيقات التي قُدِمت لها، فهذه تحتاج إلى دراسةٍ أخرى تقييمية، لا مجال لها في إطار عملنا الحالي.
عُرِف صدر الدين الشيرازي في البيئات العلمية الشيعية في العراق بسبب حضوره في الحوزة العلمية، كما أنّ الأحداث التي جرت في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأول من القرن العشرين في إيران، دفعت عددًا كبيرًا من العلماء الإيرانيين للجوء إلى العراق، بعضهم كان من المشتغلين بالحكمة المتعالية، مما أدّى إلى رواج الحديث عنها. وإن لم يكن الموقف منها إيجابيًّا بشكل دائم، بسبب الميل المحافظ للحوزة العلمية في النجف الأشرف. لذلك لا يمكن الوقوف على نصوص فلسفية أو نقاشات علمية حول هذه الفلسفة.
بالتالي، بقيت الحكمة المتعالية محصورة في أوساط ضيقة، وهي لم تتحول إلى مادة علمية، تتحرك في حقل التداول الفلسفي، لذلك لا يمكن الوقوف على أعمال لها قيمة علمية باستثناء ما قدمه “أبو عبد الله بن نصر الله الزنجاني”؛ وهو أحد أبرز علماء الدين الإيرانيين في العصر الحديث (1892م -1941م) من بحث نُشِر في مجلة المجمع العلمي في دمشق بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1929، وكانون الأول (يناير) 1930، تحت عنوان: “الفيلسوف الفارسي الكبير صدر الدين الشيرازي”، ثم تحوّل هذا البحث إلى كتاب تحت اسم “ترجمة المولى صدر الدين الشيرازي”. من خلال هذا البحث عرَّف الزنجاني العالم العربي بـ “صدر الدين الشيرازي”، وتحدث عن ولادته وأسرته والبيئة التي عاش فيها وآراء العلماء فيه، بالإضافة إلى التيارات الفلسفية التي تأثّر بها.
وهذا العمل التعريفي، لم يُستكمل من بعده، فبقي هذا الأثر العلميّ وحيدًا في المكتبة العربية، ولم يتمّ رفده بدراسات أخرى تستكمله، وكلّ ما نجده بعد ذلك هو عبارة عن محاورة خيالية بين “الشيخ محمد رضا المظفر”، و”صدر الدين الشيرازي”، صدرت في المجلد 33 من مجلة العرفان اللبنانية عام 1946 تحت عنوان: “أحلام اليقظة مع صدر المتألهين”، توزعت على عددين، الحلم الأول من الصفحة 67 إلى 71، والحلم الثاني من الصفحة 739 إلى الصفحة 744 مختومة باسمه، وهذا ليس غريبًا، فللشيخ تقديم لأحد كتب “صدر الدين الشسيرازي”، وهو “الأسفار الأربعة”، أشار فيه إلى تلك المحاورة التي نشرها في مجلة العرفان. وفي العام 1949 كتب “محمود محمد الخضيري” في العدد 6 من مجلة “رسالة الإسلام” بحثًا تحت عنوان: “صَدْر الدّين الشيرازي مجَدِدّ الفلسَفة الإسْلاميّة” من الصفحة 212 إلى 216، تحدث فيه عن حياته بشكل خاص، ويبدو في الكثير من فقراته متأثرًا بما ورد في بحث أبي عبد الله الزنجاني.
والكلام السابق لا يجب أن يوحي بأنّ الحكمة المتعالية كانت غائبة عن الحياة العلمية، وأنّها لم تكن متداولة، فهذا الأمر ينفيه الواقع خاصة في العراق؛ إذ كما أشرنا سابقًا أنّ هذا العلم كان منتشرًا في الأوساط الحوزوية، ويُذكرُ في هذا المجال أنّ “السيد الخوئي” طلب من “السيد محمد باقر الصدر” أن يدرس الفلسفة الإسلامية بالشكل المتعارف عليه في “النجف الأشرف”، وطلب من “السيد البادكوبي” أن يعقد لـ”الصدر” حلقة خاصة يدرسه فيها كتاب “الأسفار الأربعة” لـ”صدر الدين الشيرازي”، وانعقدت الحلقة واستمرت لخمس سنوات[2][2]، مما يؤشر إلى حضور الحكمة المتعالية، وإن كان في حلقة ضيقة، وهذا ما سيسمح للباحثين بتقديم أبحاث علمية في هذا المجال، ولعلّ العمل الذي قام به “جعفر آل ياسين” من خلال رسالته للتخرج عن الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي يدلّ على ذلك، فهذا العمل صدر تحت عنوان: “صدر الدين الشيرازي مجدّد الفلسفة الإسلامية” في بغداد عام 1955 عن دار المعارف، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية ونشرته جامعة إصفهان عام 1962، ولكن هذا الكتاب لم يلق ما يستحقه كعمل متميز في زمانه، فمرّ مرور الكرام. فحتى منتصف الستينات، لم تكن “الصدرائية” معروفة في الدرس الفلسفي العربي، وها هو “علي سامي النشار” يكتب في ستينات القرن الماضي في كتابه: “تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام”، أنّ صدر الدين الشيرازي، يهدف من خلال أسفاره التعريف والتأريخ للفكر الفلسفي فقط، وهذا الفهم قد يعود إلى عدم قراءة كتابات صدر الدين الشيرازي[3][3]، أو نفور من الفلسفة الإسلامية التي يعتبرها ملفوظة عند المسلمين.
عادت بعد ذلك الدراسات الفلسفية الصدرائية إلى الخفوت مرة ثانية، ولم تظهر أية علائم حركية باتجاه هذه المدرسة، وهذا ما دفع الشيخ محمد جواد مغنية للقول: “وأنا أُدرِّسُ الفلسفة الإسلامية لطلابي في الجامعة اللبنانية، حيث رأيتهم، وهم في السنة الرابعة والأخيرة، لا يعرفون شيئًا عن فلاسفة الشيعة، حتى الأسماء… وحين عاتبتُ بعض الأساتذة والمؤلفين اعتذر بوجود ما يحول بين المؤلف والوصول إلى المصادر الشيعية، لأنّ الشيعة ما زالوا متخلفين عن غيرهم في نشر آثارهم وعرضها بطريقة حديثة”[4][4]، مع العلم أنّ الشيخ كان يتحدث عن الفترة الممتدة من الستينات إلى السبعينات، وهي الفترة التي نُشرت فيها أعمال “صدرا” بشكل ممنهج تحت إشراف “هنري كوربان”، مما يؤشر إلى أنّ السبب لم يكن معرفيًّا بشكل دقيق، إنّما ذات وجهة سياسية، تقرأ على ضوء سياسة التهميش التي كانت مفروضة على التشيع. فـ”الصدرائية” على المستوى الفلسفيّ كانت معروفة ومتداولة، وهذا ما تظهر معالمه من خلال الدراسة التي ظهرت في عددين من مجلة “دراسات أدبية” الصادرة عن “الجامعة اللبنانية” تحت عنوان: “مقام ملا صدرا في الفلسفة الإيرانية”، وفيها يلقي “كوربان” الضوء على حياة “الشيرازي” وبعض مراحل فكره الفلسفي، وقد أعادت مجلة “المحجة” الصادرة عن “معهد المعارف الحكمية” نشر هذا البحث في عددها صفر المخصص لـ”الملا صدرا”، مع الإشارة إلى أن العددين لم يشيرا إلى أن مترجم هذا النص إلى العربية هو الدكتور “أحمد لواساني”.
ولعلّ أول إطلالة حقيقية من قبل باحث عربي، نجدها عند “عبد القادر محمود” في كتابه “الفلسفة الصوفية في الإسلام”، وعلى الرغم من أنّه وضعه في سياق الفصل، الذي يتحدث عن “نظرية الإشراق لدى السهروردي المقتول ت 587 ومدرسته”، إلا أنّه أفرد للشيرازي أكثر من 13 صفحة، واعتبر: “أن الشيرازي في إشراقيته لم يتجه إلى الروحية الخالصة التي دفعت السهروردي، إلى نكران حقائق الوجود”، وردها إلى محمولات ذهنية صرفة، ثم دفعه إلى التوفيق بين مذاهب الاتصال في المدرسة المشائية ومذاهب الاتحاد في المدرسة الحلّاجية. إن تصوف الشيرازي قائم على أساس عقلي نظري يعتمد على الدراسة والتأمّل معًا، وهو أقرب إلى ابن باجة، بل بالأحرى إلى ابن رشد”[5][5]، إلى أن يصل إلى القول: “إنّ الشيرازي بجمعه لفلسفة السهروردي وابن عربي، وخلاصة التراث القرمطي الشيعيّ قد أثّر تأثيرًا مباشرًا في ظهور البهائية، والبابية والقاديانية ومذاهب هذا الفرق الخارجة[…] ولكننا ندعو إلى دراسة الشيرازي العبقري أيضًا فهو ولا شك في حاجة إلى دراسة أوسع ليس مجالها ها هنا، وحسبنا إجمالًا أنّ الشيرازي هو قمة المدرسة الإشراقية بما قد يفوق أستاذه السهروردي”[6][6]. وعلى الرغم من هذه المساحة التي أعطيت لم يتعرض الكاتب إلّا لجانب واحد من فلسفة الحكمة المتعالية وهو المتعلق بالبعد الصوفيّ، وأهمل العناصر الأخرى.
وفي بداية السبعينات من القرن العشرين، بدأت عجلة الحكمة المتعالية تتحرك ببطء، حيث تُرجِمَ كتاب هنري كوربان “تاريخ الفلسفة الإسلامية” إلى اللغة العربية، ووضع مقدمته الإمام موسى الصدر، في هذا الكتاب بدأت تتوضح معالم وجود فلسفة إسلامية ما بعد رشدية، فعلى الرغم من أنّ الكتاب لم يكن مخصّصًا لدراسة الحكمة المتعالية إلّا أنّه قدّم دراسة متكاملة تخالف ما هو متداول، وتؤشر إلى وجود قطاع فلسفيّ كامل جرى تغييبه وعدم الاهتمام في الدراسات الفلسفية العربية.
فتاريخ الفلسفة لـ”كوربان” قدّم معالجة جديدة لتاريخ الفلسفة فعّل فيه المهمل المتعلق بالتشيّع والفلسفة النبوية، وسواء وافقنا أو لم نوافق على محتوى أفكار “كوربان” بالإضافة إلى ترجمته التي تحتاج إلى إعادة نظر، إلّا أنّ هذا الكتاب زحزح صخرة صلدة عن صدر الفلسفة الإسلامية عبر الحديث عن اللامفكر فيه، الذي أُغفل في الكتب التدشينية للفلسفة الإسلامية في المضمار التاريخي، ككتاب: “تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب”(1921) للدكتور محمد لطفي جمعة، وكتاب جميل صليبا “تاريخ الفلسفة الإسلامية”(1926)، وإبراهيم مدكور (1934) … وإن كان هذا الأمر مبررًا في هذه الكتب، إلا أنّ ما تلاها لم يحمل معه تحولات في القراءة، وهذا ما يمكن تلمسه من خلال كتب “عمر فروخ”، “علي أبو ريان”، “عبده الشمالي”… فما قُدّم في كتاب “كوربان” كان محفّزًا، دفع بعض الأساتذة في الجامعة اللبنانية إلى المطالبة باتجاه ضرورة وضع “صدر الدين الشيرازي” في المنهاج التعليمي الجامعي لمادة الفلسفة.
على كلّ حال، عرفت الدراسات الصدرائية بدءًا من سبعينات القرن العشرين حراكًا، أخذ يعبّر عن حاله عبر إعادة النظر بالتأريخ للفلسفة الإسلامية، وازدياد الاهتمام الآكاديمي بها، ففي عام 1974 قدّم “عبد الزهرة البندر” رسالة ماجستير في جامعة بغداد تحت عنوان: “نظرية البداء عند صدر الدين الشيرازي”، عالج فيها البداء من وجهة نظر “صدرا”، طُبِعَت هذه الرسالة في مطبعة النعمان في النجف الأشرف عام 1975. وفي العام نفسه صدر كتاب “ماجد فخري” حول تاريخ الفلسفة الإسلامية، “ووُضِع صدر الدين الشيرازي” ضمن باب الفلسفة الإشراقية، وإن أُعطي هذا الفيلسوف حيّزًا مستقلًّا من خلال عنونته بفصل مستقل، ولكنّ الكتاب لم يُظهِرْ معالم مدرسة الحكمة المتعالية، بل تمّ التعاطي معه بشكل تقليديّ. وقد يكون ذلك راجعًا لعدم وضوح فلسفة “الملا صدرا”، وهذا ما يعبِّر عنه في قوله: “يتبين لنا من هذا العرض الموجز، ما اتصف به هذا الفيلسوف والحكيم الصوفي، في القرن السابع عشر، من سعة اطلاع، وما تميّز به نظامه الكونيّ الانتقائي من تعقيد، فقد دخل في صلب تفكيره ثلاثة عناصر أساسية هي: “العنصر الأفلاطونيّ الجديد” المستمد من “ابن سينا”، و”العنصر الإشراقي”، و”العنصر الصوفي”. ولقد كان “السهروردي” مؤسس الحركة الإشراقية، و”ابن عربي” الداعي الأكبر لوحدة الوجود مرشديه الرئيسيين”[7][7]. وفي عام 1975 تُرجِم كتاب سيد حسين نصر “دراسات إسلامية” إلى اللغة العربية، حيث قام الكاتب بعرض لمحة عن حياة الشيرازي الفلسفية وتجديداته، ضمن كتابه[8][8]. وفي هذا العام قدّم “محمد عبد الفضيل عبد العزيز” أطروحة دكتوراه في “جامعة الأزهر” تحت عنوان: “الفلسفة الإشراقية عند صدر الدين الشيرازى”، وقد تألفت من مقدمة وثلاثة أبواب. في المقدمة أشار إلى أنّه تناول هذا الموضوع لأهمية “الشيرازي” وقربه زمنيًّا من عصرنا ومنهجه، الذي يعتمد على التأصيل والمقارنة والنقد، والقادر على إعطاء الأمثلة لكيفية التفاعل مع الفلسفات الغربية، لينتقل بعد ذلك إلى الأبواب. الأول قسّمه إلى فصول عدة، تناول الأول العصر وملامحه الذاتية، فتحدث عن إيران الصفوية وما جرى فيها من أحداث زمن “صدرا”، ثم انتقل إلى الحديث عنه وعن مؤلفاته، وخصّص الفصل الثاني للحديث عن فلسفة الإشراق وحضورها عند المشارقة وتأثرها بالتراثات الموجودة في الشرق، وحطّ رحاله عند ابن سينا فاستعرض إشراقيته وهجومه العنيف على “أرسطو”، ثم مال باتجاه مدرسة إصفهان لا سيّما “الميرداماد”، الذي يعتبر رأس هذه المدرسة، ويرد الباحث عليه وعلى من تبعه وإبراز الخلط، الذى صنعه هؤلاء بين الفروق الاعتبارية بين الأشياء، واعتبروها حقائق واقعية وقوعًا عينيًّا مستقلًّا، مستخدمين فى ذلك الرمز والتأويل، وأن العقول الفورية ما هي إلا تخيلات ابتدعها أولئك الفلاسفة ابتداعًا”. أما الفصل الثالث من الباب الأول، فقد خصّصه لدراسة فلسفة صدر الدين، ووصل إلى نتيجة: “أنّ الميتافيزيقا هي نقطة البداية والنهاية في فلسفة الشيرازى، ولذلك استقطب الوجود – باعتباره نقطة محورية في الميتافيزيقا – كل اهتمام صدر الدين، والجهل بمسألة الوجود يوجب الجهل بجميع أصول المعارف والأركان، وقد أشاد بالعقل كثيرًا وبقدرته على الغوص إلى حقيقة الأشياء، والعقل الذي يقصده الشيرازي ليس العقل المجرد، ولكنّه العقل النوراني، الذي يبتهل ويتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا العقل هو وحده الكفيل بمعرفة الوجود، والفرق بينه وبين كانط فى الانتقال من العقل المجرد، أنّ كانط لجأ إلى العقل العمليّ لإثبات الأشياء في ذواتها، أما الشيرازي فقد لجأ إلى البرهان الكشفي القائم على الحدس. ويوفق بين آراء الفلاسفة والوحي، فيقرّر أن أقوالهم تحاذي أقوال الأنبياء في القوة والصدق، وهذه نتيجة خطيرة جعلته يؤول أقوال الفلاسفة لتتماشى مع النصوص الدينية.
انتقل في الباب الثاني إلى الحديث عن الوجود، وبدأه بفصل أول تحدث فيه عن “تأصيل الوجود”، وأشار الباحث أنّ “صدر الدين” لم يرتض المواقف القلقة للفلاسفة السابقين من ابن سينا ونصير الدين الطوسي والغزالي والفخر الرازي، وأراد أن يحول هذا الموقف إلى موقف حاسم معضد لأصالة الوجود واعتبارية الماهية، فالموجود هو الوجود بالحقيقة، والماهية متحدة معه ضربًا من الاتحاد، واعتبر الباحث أنّ هذا ضرب من التعسف من الشيرازي. ويذهب بعد ذلك باحثنا إلى الفصل الثاني ليعالج مقولات الوجود ونقاطه الرئيسية: الوجود والتشخص، الوجود والوحدة، التشكيك في الوجود، الوجود والجعل، الوجود والخير، الوجود والماهية، وأراد من خلال ذلك التقديم للفصل الثالث، الذي عمل على تحليل “وحدة الوجود”، وفيه أثبت تأثّر “الشيرازي” بـ”ابن عربي” في وحدة الوجود، حيث جعل من الوجود الظاهر في مجالي الممكنات وماهياتها وجودًا مغايرًا أو مختلفًا عن وجود الواجب أو الوجود الحق، ولا يخفى أثر الغزالي، الذي وضع الأساس لقضية وحدة الوجود في “مشكاة الأنوار”، الذي قرّر فيها أن الممكنات ذات وجود مستعار، فمن حيث ذاتها فهي عدم محض، ومن حيث وجودها فراجعة إلى الحق الأول، وكذلك نظرية انقهار الأنوار الضعيفة تحت سطوع النور القوي عند “السهروردي”، ونظرية الوجودات الرابطة تضرب بجذورها عند “الفارابي”، وكذلك أثر “ابن سينا” البادي على “ابن عربي” و”صدر الدين”، وبالأخص عند حديثه عن الماهية والتفرقة بين الواجب والممكن.
ثم توجه الباحث إلى نقض النظرية، وبيّن أن صدر الدين قد تعرّض للاتهام بالإلحاد والزندقة من محدثي الشيعة الإمامية وفقهائهم وكذلك الصوفية، ولكن الباحث يرى أنّ في الحكم بالتكفير مغالاة؛ لأنهم يفرقون بين الموجودات من حيث المراتب مع رفض النظرية لكونها عاجزة عن تقديم الحلول لكثير من المشكلات التي تعترضها. هذا وقد ختم هذا الباب بالحديث عن نظرية المعرفة، وقد أثبت الباحث أن “نظرية الشيرازي” مثالية لارتدادها إلى الذات وحدها، ولكنّها ليست مثالية متطرفة كمثالية “باركلي”، الذي ألغى الجوهر المادي من مجال المعرفة.
وقدّمت الرسالة بابًا ثالثًا، خُصِّص للجانب التطبيقي، وقُسّم إلى أربعة فصول، الأول تناول الوجود الإلهي وعلاقته بالموجودات الممكنة، وعن صفاته الكمالية وعلاقتها بالوجود. فبالنسبة إليه يلجأ الشيرازي إلى الوجود طريقًا للبرهنة عليه تعالى، فالوجود الممكن به نقص ومن ثم يحتاج في وجوده إلى موجد أتم وأكمل، ولكن الباحث يأخذ على “الشيرازي” بناءه الدليل على وحدة الوجود وتأثير الأفلاطونية المحدثة في تقسيمه للأشياء إلى ناقصة وتامة. وفي الفصل الثاني يذهب باتجاه نظرية العقول، التي تقوم معه على الاعتراف بوجود طرفين، لكلّ نوع طرف عقلي مجرد قائم بذاته، وطرف آخر مادي محسوس ويتساءل كيف يمكن لحقيقة نوعية واحدة أن تحصل في وقت واحد في موطنين متناقضين. وهنا يلجأ “الشيرازي” إلى نظريته في الوجود لحلّ هذه المعضلة، وذلك بجعل الحقيقة النوعية الواحدة البسيطة وجودًا واحدًا منبسطًا على جميع أفرادها، فهنا اتفاق في نفس الحقيقة النوعية بين الفرد العقلي والأفراد الحسية، ثم اختلاف بينهما في التجرد والمادية بمقتضى اختلافهما شدّةً وضعفًا، ويضيف “صدر الدين” لنظرية العقول بُعدًا آخر وهو الحركية الغائية، فلكلّ موجود غاية ذاتية تقتضي ذاته التوجه إليها، والتحرك نحوها وهذه الغاية الذاتية لا بدّ أن تكون تمامًا وكمالًا لهذا الموجود، ومن ثم فكل الموجودات مطموسة في نوره تعالى وباقية ببقائه، وهذا خلط كبير من الشيرازي بين العقول والصفات الإلهية، وكيف تحولت النظرية من الوثنية عند القدماء إلى الأشعة النورانية عند الشيرازي؟ وما يرفع التهمة عنه أنه جعل العقول في درجة بين الذات العلية والأشياء، ولكن الارتفاع بالعقول إلى هذه الدرجة يجعل الشيرازي متماشيًا مع الفلاسفة اليونانيين. والفصل الثالث ذهب إلى تطبيق نظرية الشيرازي على “الوجود الكوني”، وتحدث فيه عن الفيزيقا، الذي تتميز بالتجديد بحسب رأي الباحث، وفي هذا المجال رأى أنّ الزمان والحركة في رأي “الشيرازي” موجودان بوجود عيني واحد ولا أسبقية لأحدهما في الواقع العينيّ على الآخر، فالزمان هو مقدار لأمور متجددة، متقدم بعضها على بعض تقدّمًا ذاتيًّا، ويثبت صدر الدين “الحدوث” وربما كان إثباته هو الهدف، الذي يرنو إليه “صدر الدين” من أبحاثه الطبيعية كلّها لاتسامها بالصيرورة والتبدل والحركة. ورفض الشيرازي قول الفلاسفة بأزلية مصنوعاته تعالى عن النفوس الفلكية وأجرامها وكليات العناصر، فالموجودات في حاجة دائمة إلى العلّة، وإذا كانت الماركسية تهدف إلى إنكار الخالق عن طريق نظريتهم في المادية الجدلية، فإنّ “صدر الدين” يقرر أن التحول الكيفي لا يتم بطريقة تلقائية ميكانيكية بحتة، بل لا بدّ من تدخل من الخارج. ويختم الدراسة والباب بفصل رابع خصّصه للنفس، الذي يعتبرها من الأمور التي قدّم فيها إبداعًا لم تعرفه الفلسفة من قبل حين تكلم أن للنفوس وجودًا سابقًا على حدوثها في الأبدان، وهذا الوجود وجود في عالم العقل، ويجزم بأنّ النفوس قديمة في جميع مراتبها ونشآتها الدرجة الثانية الوجود البدني الحادث للنفس، يرى الشيرازي أن اسم النفس غير موضوع إلّا لهذا الوجود الإضافي ومن طبيعة المضاف ألا يكون مستقلًّا منفصلًا عن ما هو مضاف إليه، والبدن من جهة أخرى مأخوذ في حد النفس، والنفس دائمة التحول والتبدّل من حال إلى حال، وتابع الشيرازي الفلاسفة في القول بثنائية النفس والبدن الدرجة الثالثة وجود النفس بعد البدن زوال البدن لا يعني فناء للنفس كما يرى “الشيرازي”، بل يعني على العكس اشتدادًا في الوجود وتبدّلًا في نشآته ودرجاته من درجة الحدوث والمادية إلى درجة البقاء والمفارقة، وهذه النفس هي مناط الجزاء وأساس الثواب والعقاب. وختم الباحث دراسته بالنتائج التي توصّل إليها، والتي تدعو إلى التجديد.
وهكذا يمكن اعتبار هذا العمل مفصليًّا، لأنّه أسّس إلى نظرة ترى في “الحكمة المتعالية” قطاعًا مستقلًّا بالتفكير، وهو وإن تأثّر بمن سبقه، إلا أنّه قدّم جديدًا لا يمكن غضّ الطرف عنه. هذا، وفي عام 1978 قدّم “موسى الموسوي” كتابًا تحت عنوان: “الجديد في فلسفة صدر الدين الشيرازي”، صدر في بغداد عن الدار العربية للطباعة.
وهكذا، نستطيع أن نرى أنّ المرحلة الأولى التي انتهت عام 1979، كانت تتميز بالأعمال الوصفية أو الاعتقادية”، وعادة ما كان يقترن الحديث عن “الشيرازي” بالبعد الإشراقي، وإذا دققنا في الموارد التي صدرت فيها الأعمال، نلاحظ الأمور التالية:
هـ. تميّزت المرحلة الأولى بتعدد التوجهات الاعتقادية لأصحابها والبلدان التي ينتمون إليها.
[1][9] مرتضى مطهري، الرؤية الكونية التوحيدية، الصفحة 8.
[2][10] عبد الجبار الرفاعي، تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية، بغداد، دار المدى، دون تاريخ، الصفحة 104.
[3][11] علي سامي النشار، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، القاهرة، دار المعارف، الطبعة 5، 1985، الجزء 1، الصفحة 12.
[4][12] عبد الله نعمة، فلاسفة الشيعة، بيروت، دار الفكر اللبناني، 1987، مقدمة الشيخ محمد جواد مغنية، الصفحة 5.
[5][13] عبد القادر محمود، الفلسفة الصوفية في الإسلام، القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة 1، عام 1966، الصفحة 489.
[6][14] عبد القادر محمود، الفلسفة الصوفية في الإسلام، مصدر سابق، الصفحة 490.
[7][15] ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة: كمال اليازجي، بيروت، الدار المتحدة، 1974، الصفحة 421.
[8][16] سيد حسين نصر، دراسات إسلامية، بيروت، الدار المتحدة للنشر، الطبعة 1، عام 1975.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15887/saderaldin/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.