الحقيقة العرفانية بين الظاهر والباطن

الحقيقة العرفانية بين الظاهر والباطن

27th أبريل 2024

تمهيد

يقوم علم الدلالة على العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى، ويبحث في طبيعة الارتباط بين ما هو مادي تنتظم به الدلالة بوصفه دالًّا لفظيًّا أو كتابيًّا، وما هو ذهني بوصفه مدلولًا ينطبق فيه المعنى على أشياء هذا العالم.

ويترتب على تشابك العلاقات الدلالية بين الدوال ومدلولاتها سواء لجهة الوضع أو لجهة السياقات الحافة، اتساع حقل الدلالة داخليًّا وخارجيًّا، بحيث يشتمل على ما يتضمنه الوضع، ويستبطنه في طياته، أو يستلزمه بحسب الوعي الارتكازي العام لمنطق اللغة.

وعلى هذا النحو، تتوسط اللغة سياقات ذات طبيعة دلالية معقدة، بسبب من امتداد أشعة اللغة إلى خارج الإطار الدلالي المرسوم فيما يشبه تمادي الخيال في التصوير الأدبي، فتظهر نتيجة ذلك ألوان من التأويل والرمز والمجاز في محاولة استيعاب وعاء اللغة لوقائع تتجاوز الشيئيات المألوفة في عالم الوضع، وتزيد من زخم الدلالة وتفاقمها وتعقيدها.

وإذا كان قدر اللغة أن تتناسل فيها الدلالات وتتشعب إلى أولية أو ثانوية، إلا أنه لا يصح أن تفتقد بذلك قدرتها على التوليد الدلالي مهما كانت طبيعة الحقل الشيئي، الذي تعمل عليه، إلا أن تكفّ في نفسها عن كونها لغة، أو تخرج عن إطار المواضعة اللغوية العامة.

إن ما يسوغ لظاهرة الباطنيات هو آفة القصور التي تعتري الفهم البشري إزاء الخطاب، الذي يسعى بحكم الضرورة للامتلاء والاكتمال. وإن ما يجعل من البطون لغة مرنة قابلة للتخاطب هو ضرورة استيعاب مراكمة الزمن في زخمه المعرفي والتنوع الشديد في الأذواق والأفهام والحاجات بالمقدار، الذي يمكن التعبير عنه في طبيعة النص المكتمل دلاليًّا.

في هذا المجال، تطرح ثنائية الظاهر والباطن في سياق البحث عن المسوغ، الذي من شأنه أن يرمّم المسافة الفاصلة بين ما هو ظاهر وما هو باطن على صعيد اللغة نفسها. الأمر الذي شهد تجاذبات حادة في الحقول العلمية المختلفة. فقد ظهر ميدانه البكر في النص القرآني، الذي يشير إلى الظاهر والباطن كصفتين من صفات الله ﴿هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ…﴾ (سورة الحديد، الآية 3). أو كوصفين للنعم الإلهية ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ (سورة لقمان، الآية 20). واتخذت هذه الثنائية سبيلها إلى التعبير الواسع من خلال النصوص الروائية، وحكمًا على ألسنة علماء الأصول والفقه والتفسير. ومع ذلك، فقد تحرّز هؤلاء عن الخوض بعيدًا في دلالات الباطن، واقتصروا في معناه على دلالات يمكن ملاحظتها في سياق العرف اللغوي العام، من قبيل نظرية اللوازم، أو نظرية المصاديق، أو نظرية الأعماق.

يشير الباطن إلى لوازم المعنى المستعمل فيه اللفظ، وهي لوازم قد تقصر عقولنا عن إدراكها (الخراساني، الخوئي)، وقد يشار به إلى المصداق، الذي ينطبق عليه المعنى العام المدلول للفظ القرآني (العراقي)، أو إلى ما قد يدرك بالتأمل والتدقيق من مناطات تتساوى فيها الأبعاد العميقة مع الأبعاد الظاهرية (الطباطبائي).

ومهما يكن، فإن احتكام هؤلاء العلماء إلى الألفة اللغوية في تناول قضية الظاهر والباطن هو أمر مشروع في حد ذاته، إلّا أن تناول العرفاء لهذه الثنائية خرج عن إطار المواضعة والنص، إلى فضاء الوجود والكيان والشهود المعرفي بعامة دون أن يتقيد بشرط النص وثقافته الخاصة، وما ذلك إلّا بحكم طبيعة المنهج المتبع في علم العرفان النظري، والذي يباشر المدلول الوجودي للنص دون أن يشغل نفسه بكيفيات الإثبات العرفي وقواعده العامة. ومع ذلك، نجد من الصعوبة بمكان أن نتلقف الدلالات الصوفية والعرفانية في شكلها المكتمل في إطار هذه الدراسة، إلا أن نقتصر على جانب من العرفان النظري مما يرتبط تحديدًا بثنائية الظاهر والباطن في معالجة الإطلاق والتقييد والحقيقة والشريعة والولاية والنبوّة وما إلى ذلك من أدوات منهجية ومعرفية مكثفة وبقدر ما أتيح لنا فهمه، وهو شيء لا يعتد به بإزاء واقع الحال.

الظاهر والباطن بلسان أهل الحقيقة والولاية

تحدث العرفاء عن نوعين من أنواع العمل الإنساني، أحدهما هو العمل الظاهري، الذي يمارسه الإنسان في حياته الاعتيادية، وهذا العمل يصدر عنه من الجهة الخلقية حسب تعبيرهم، بأن يندفع إليه الإنسان بدافع الغريزة وجلب المنافع ودفع المضار. والآخر هو العمل الباطني، والذي هو أساس وجوهر العمل الظاهري، غاية الأمر أنه ينبع من نوايا الإنسان وضميره وروحه وإيمانه بربه؛ أي يصدر عنه من الجهة الحقية. وهذا يعني أن واقع الإنسان متفاوت؛ فهو يتجاوز البعد الطبيعي الأرضي إلى بعد من نوع أسمى؛ ويحتوي على جهات باطنية إلى جانب الجهات الظاهرية.

ولأن الجهة الباطنية أشرف وأكمل وأكثر تعبيرًا عن جوهر الإنسان وحقيقته من الجهات الطبيعية والظاهرية، من هنا، كانت قيمة العمل إنما هي بالجهة الباطنية، أي التي يكون فيها للحق تعالى. يقول الإمام الخميني (ره): “إن كمال عمل الأولياء (ع) إنما كان بواسطة الجهات الباطنية، وإلّا فصورة العمل ليست لها الأهمية الكثيرة، فإن نزول عدة آيات من السورة المباركة: ﴿هَلْ أَتَى﴾ [76: 1] مثلًا في مدح علي (ع) وأهل بيته الطاهرين ليس بسبب إعطاء قرص من الخبز وإيثارهم به، بل كان للجهات الباطنية ونورانية صورة العمل، كما أشار إلى ذلك في الآية الشريفة حيث يقول: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا﴾ [76: 9]”[1]. وعليه، إن لكل إنسان جهة إلى الخلق، وجهة إلى الحضرة الإلهية: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [2: 148].

وقد تحدثوا عن الجهة الباطنية باعتبارها مؤشرًا إلى الحقيقة ورمزًا عليها، والحقيقة الوحيدة الناصعة في المتن العرفاني هي الله، وهي تحديدًا أسماء الله وصفاته التي تشير إلى الذات المكتنزة، وكل الحقائق الأخرى تستمد حقيتها من انتسابها إلى عالم الأسماء والصفات الإلهية “من عرف نفسه عرف ربه”، فإن معرفة النفس تقود إلى معرفة الرب من جهة كونها وسيلة لا غاية؛ والإنسان يسير إلى الله في مسير نفسه التي هي طريقه وباطنه، وبهذا تميز العرفان الإسلامي عن سائر الروحانيات الأخرى والتي تدور حول معرفة النفس لذاتها، أو معرفة الحقيقة الكلّية في شكلها الكلّي والعام.

أما النفس وفق المبنى العرفاني، فإن معرفتها وحصول الكمالات لها يرجع إلى فنائها في الحق وبقائها به، فإذا تخلقت بأخلاق الله وتحققت بأسمائه وصفاته، تشهد حينئذ الحق في مظاهر الخلق، وهذا هو مقام الولاية، الذي يصحّح النسبة؛ بأن يصير العمل صادرًا عن الإنسان من الجهة الربانية لا البشرية.

وللولاية شكلها المكتمل، والذي هو الولاية المطلقة؛ والفناء والبقاء في الولاية المطلقة حاصلان بحسب الباطن أزلًا أبدًا، من هنا قالوا: ولا بدّ أن يصير الفاني بهذا الفناء مظهرًا لأسماء الله بإطلاقها.

وقد صاغ العرفاء نظرية الظاهر والباطن على أساس التقييد والإطلاق، فالمطلق ظاهر في المقيد، والمقيد متقوم بالمطلق، الذي هو حقيقته وباطنه.

الظاهر

الولاية صفة إلهية وشأن من الشؤون الذاتية، تظهر كل يوم في شأن من شؤونه، وفي كل مظهر بنعت من نعوته، واختلاف الظهورات لا يقدح بوحدة الحقيقة؛ فقد نتعقل معنى من المعاني بصورة عقلية مجردة، ثم نتخيله بصورة مقدارية جزئية، ولا يختلف المعنى باختلاف ظهوراته الخيالية والعقلية… وكذلك الولاية في مظاهرها وتجلياتها؛ إذ كلهم نور واحد، وحقيقة واحدة “أولنا محمد، وأوسطنا محمد، وآخرنا محمد، وكلنا محمد”[2].

وقد جعل بعض العرفاء مراتب الشرع، الذي هو الدين القيّم على ثلاث مراتب، هي الشريعة والطريقة والحقيقة. وكان نظرهم متمحورًا حول جانب الحقيقة، لهذا عدّوا الشريعة ظاهرًا للطريقة، والطريقة ظاهرًا للحقيقة، والحقيقة هي الباطن. وعبّروا عنها بالولاية، وهذه الحقيقة – الولاية – هي باطن الشريعة والنبوّة؛ والمقصود بالنبوّة هنا هو إخبار عما تحكيه الحقيقة في مظاهرها، وليس هي بالضرورة إخبار عما تحكيه الحقيقة من أحكام وتشريعات. فإذا كان لأهل الكلام والفقه والتاريخ أن يتتبعوا مظاهر النبوّات بوصفها عقيدة وشريعة وسيرة، فإن للعرفاء أن يتعقبوا جوهر النبوّة بوصفها حقيقة كلية.

والأنبياء مخولون بالإعلان عن الحقيقة إعلانًا ذاتيًّا بحكم ما لهم من مقام القرب المعبّر عنه بالولاية، وهو التحقق بالحق، والتخلق بأخلاق الحق، وشهود الحق في مظاهر الخلق. كل هذا مع التأكيد على أن الحقيقة بهذا الاعتبار ليست سوى تجلّ ومظهر، وليست هي الحقيقة المجهولة في ذاتها. وبالتالي، فإن الإعلان عن الحقيقة هو إعلان عن ذواتهم من حيث هي مجلى الحقيقة ومظهرها.

وإلى الحقيقة النبوية الكلّية، ترجع جميع الحقائق الكلّية الثابتة في جميع الأديان والنبوّات، وكذلك تقدير تنزلاتها المختلفة في سياق التاريخ وبحسب اقتضاء المصالح وتفاوتها، فهي النبوّة بنحو الإطلاق، والتي تكمن – بنظر العرفاء – وراء جميع النبوّات الظاهرة.

وهذه النبوّات ترتبط بالنبوّة المطلقة ارتباط المقيد بالمطلق، فكما أن مرجع المقيد إلى المطلق؛ كذلك مرجع جميع النبوّات إلى هذه النبوّة المطلقة، وما النبوّات الممتدة في سياق التاريخ إلا ظهورات متنوعة لتلك الحقيقة الواحدة.

من هنا ذهبوا إلى أنه قبل النبوّات المقيدة توجد نبوّة حقيقية مطلقة، وأن هذه النبوّة المطلقة إنما تظهر في النبوّات المقيدة، فكما أنه لا يوجد للماء سوى حقيقة واحدة، هي الحقيقة المائية ذاتها. وإنما تظهر الحقيقة المائية في البحر والنهر والجدول والساقية، فيتميز البحر بسعته وملوحته، والنهر بجريانه، والجدول بمحدوديته في المكان، وكل هذه التمايزات لا تنتمي إلى الحقيقة المائية ذاتها، وإنما هي قيود دخيلة طارئة، فإذا تجرّد الماء عن العوارض والقيود الدخيلة، فليس هناك سوى ذات الماء وحقيقته المطلقة، كذلك النبوّة واحدة، مطلقة. وتجلّياتها في التاريخ هي ظهورات تلك النبوة.

ويرى العرفاء أن التواصل مع الحقيقة النبوية المطلقة، إنما يتم بواسطة النبوّات التي تجلّت عبر التاريخ والتي هي قيود ومظاهر النبوّة المطلقة. وليس المراد بالنبوّات – في اصطلاحهم – هو نبوّات التشريع خاصة، أو نبوّات الوحي فحسب، بل تشمل النبوّة كل إخبار عن الحقائق الإلهية ومعرفة ذات الحق وأسمائه وصفاته وأحكامه. وهو ما يعبّر عنه بالسفر في عوالم الإنسان، وحقائق الوجود، وملكوت السماوات والأرض، فإنّ الحق يتجلّى فيها بوصفها مظاهره التي هي عين الفقر والتعلق به تعالى.

ومع ذلك، يؤكد العرفاء على أن الاتجاه التصاعدي، الذي اتبعته النبوّات عبر التاريخ، ما هو في الواقع سوى سير واقتراب من المقيّد إلى المطلق، ومن الظاهر إلى الباطن، ومن الشريعة إلى الحقيقة، ومن البدء إلى الختم. وحين نصل إلى نقطة الختم تزول الحدود الفاصلة بين البدايات والنهايات، ويحصل الإنباء المطلق؛ وما ذلك إلّا لأن النهايات عين البدايات، وأن الحقيقة المطلقة لا ينبئ عنها إلّا لسان النبوّة المطلقة.

وينظر بعض العرفاء إلى نبوّة موسى (ع) على أنها مظهر الجلال وشريعة الجسد، وإلى نبوّة عيسى (ع) على أنها مظهر الجمال وشريعة الروح، وهذا النحو من الإنباء، الذي لهما هو جوهر نبوّتهما. وهو إنباء عن الحقيقة المطلقة من جانب دون آخر. بينما ينظر إلى نبوّة محمد (ص) على أنها المظهر الجامع للجمال والجلال، فختم بنبوّته جميع مراتب الظهور، وأوتي جوامع الكلم، وكانت أمته أمة وسطًا.

ومع أن نبوّة محمد (ص) هي نبوّة مقيدة بحسب الزمان والمكان وظرف الاجتماع، إلا أنها كانت موازية للنبوّة المطلقة بحسب الختم في امتداد سائر النبوّات. وهو ختم الكمال فضلًا عن ختم الزمان، فشكّلت نبوّته اللبنة الأخيرة في جدار النبوّة.

وعليه، فالتعريف بالحقيقة، والإنباء عنها، هو في أساس النبوّات، وحيث إن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، فلا يمكن التعريف بالحقيقة المطلقة والإنباء عنها بنحو الإطلاق إلّا من خلال النبوّة المطلقة “كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين”[3]. أو ما في حكمها “حلال محمد حلال إلى يوم القيامة…”[4].

الباطن

الولاية باطن للنبوّة، باعتبار أن نسبة الولاية إلى النبوّة كنسبة الحقيقة إلى الشريعة، والشريعة لا تكون إلّا لمن اطلع على الحقيقة، فلا يمكن الوصول لأحد من الأنبياء وغيرهم إلى الحضرة الإلهية إلّا بالولاية.

والولاية هي الجهة التي يأخذ منها النبي الفيض من الله تعالى، ولولا هذه الجهة لم تكن جهة النبوّة. والأنبياء لكونهم مظاهر الولاية المطلقة وسائر الفيوضات الإلهية، صاروا قبلة للناس وانجذب الناس إليهم. كما أن متابعة الولي في التأويل هي عين متابعة النبي في التنزيل، والاختلاف بينهما لا يعدو الظاهر والباطن، فالشريعة ظاهر النبوّة، والولاية باطنها.

وكذلك النبوّة المطلقة هي من لوازم الولاية المطلقة، وحيث إن الولاية صفة إلهية، فتكون النبوّة المطلقة بهذا الاعتبار صفة إلهية “يا من دلّ على ذاته بذاته”[5]. وإن لم يطلق على الله تعالى اسم النبي، ولا يجري عليه اسم غير الأسماء التي وردت في لسان الشريعة؛ فإنّ أسماء الله توقيفية[6].

فالنبوّة والولاية توأمان يثبتان له (ص) بلحاظ الواقع ونفس الأمر، ولا يقبلان الزوال ما دام لله تعالى عناية في الخلق، وله تعالى ظهور فيه. فإن اطلاع النبي المطلق على الاستعداد الذاتي في جميع الموجودات، وإعطاء كل ذي حق حقه من حيث الإنباء الذاتي، ناشئ بالضرورة من حصول مجموع الكمالات له بحسب الباطن. فجهة نبوّته المطلقة ناشئة من جهة ولايته المطلقة، وجهة ولايته المطلقة هي الباطن لها.

والولاية المطلقة عبارة عن حصول الكمالات. وهو تعريف باللازم؛ إذ يلزم من حصول الفناء والبقاء والتحقق بالوجود الحق، حصول الكمالات كما لا يخفى.

وأما إطلاقها؛ فلاحتوائها على مجموع الكمالات من حيث كمال القابلية، وعلى مجموع الأزمنة أزلًا وأبدًا. وما كان كذلك فهو من شؤون الباطن والحقيقة. لذلك، فالولاية صفة إلهية، ليس لها حد محدود، ولا نعت موجود، بل هي مطلقة وعامة.

إلا أن الولاية تقتضي الظهور، أي الانتقال من دائرة وحدة الذات إلى دائرة كثرة الأسماء والصفات، حيث تتوالد الأسماء وتتكاثر جرّاء اقتران الصفات بالذات على ما تقدم، وإنما كان الظهور الأول للولي المطلق لاشتماله على مجموع الكمالات.

وهذه الولاية هي اقتدار النفس على التصرف في مادة الكائنات تكوينًا هي باطن الخلافة، وهي المقام المسمّى بمقام “كن”. وإلى هذه الخلافة يشير الإمام الخميني (ره) بقوله: “هذه الخلافة التي سمعت مقامها وقدرها ومنزلها هي حقيقة الولاية، فإن الولاية هي القرب أو المحبوبية أو التصرف أو الربوبية أو النيابة”[7].

ويمكن ملاحظة عدة اعتبارات لتفسير كون الولاية باطنًا للنبوّة:

منها: أن السالك إلى الله تعالى في سفر الولاية، يتخلق بأخلاق الله تعالى ويتحقق بأسمائه وصفاته، ويصير مظهرًا لأسماء الله تعالى وصفاته، فيصدر عنه ما يصدر عن الرب من الآثار، وبذلك يكون السالك مظهرًا للاسم الولي، الذي هو من أسماء الله تعالى، وتكون له ولاية التكوين، ويطّلع على حقائق عالم الإنسان وملكوت السموات والأرض وينبئ عن الأسماء والصفات. فإذا أمر بالتبليغ يكون نبيًّا بالتشريع. وعليه، فالنبوّة إنما تحصل من جهة الولاية، ونسبة الولاية إلى النبوّة كنسبة الحقيقة إلى الشريعة، ولا تكون الشريعة إلّا لمن اطلع على الحقيقة، ولا يمكن الوصول لأحد من الأنبياء وغيرهم إلى الحضرة الإلهية إلّا بالولاية. فالولاية باطن النبوّة وأصلها وجذرها.

وبتعبير آخر، إنّ للنبي وجهتان: وجهة إلى الله تعالى؛ بها يأخذ الفيض من الله تعالى، وهي جهة القرب والولاية. ووجهة إلى الخلق بها يقوم بتبليغ الخلق كلام الحق، وهي جهة الإنباء والنبوّة. ولولا جهة الولاية لم تكن جهة النبوّة، فالأنبياء لكونهم المظاهر التامّة للولاية المطلقة وسائر الفيوضات الإلهية، صاروا قبلة للناس وانجذب الناس إليهم.

ومنها: أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة إلّا باتباع الشريعة؛ ذلك أن النبوّة هي أحكام الشريعة والنواميس الإلهية، والولاية إنما تحصل بالعمل بهذه الأحكام والنواميس الإلهية. فتكون النسبة بين النبوّة والولاية هي النسبة بين الظاهر والباطن. فالدين هو ظاهر الولاية باعتبار أن السبيل للوصول إلى الولاية هو اتّباع تعاليم النبوة: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [3: 31]، ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [4: 80]، وإليه أشار القرآن الكريم بلفظ الدخول في قوله تعالى: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [89: 29 – 30]؛ لأن الدخول بحسب المعنى في عباده المخلصين الذين هم الأولياء والأوصياء هو شأن مَن اتبع الرسول، فإذا انقلبت الظواهر بواطن والبواطن ظواهر فلا اعتبار حينئذ بالنسب الصور والقرابة المجازية لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ [80: 34 – 36]. فتكون أفضلية الباطن حينئذ باعتبار أكملية الغاية من ذيها؛ فإن النبوة اسم ظاهر تتعلق أحكامها بالتحلية، والولاية اسم باطن يفيد التجلية، ومن الواضح أن التحلي الحاصل باتباع الشريعة، هو من مقدمات التجلي بالحقيقة.

ومنها: أن باطن النبوة هو الولاية؛ باعتبار أن النبوّة ظاهرة في التنزيل، والولاية باطنة في التأويل؛ أي باعتبار الوظيفة الموكلة لكل من النبي والولي؛ فإن التنزيل يفترض الظهور في البعد الزمني والكوني، والتنزل إلى عالم التفصيل، ويرتبط بعالم الخطاب اللفظي، والامتثال العملي “صلوا كما رأيتموني أصلي”[8]. وأما التأويل فيقتضي رد الفروع المتكثرة إلى أصول الحقائق المحكمة، وصيرورة الإنسان ناطقًا بالحقائق بلسان الحال لا المقال.

ومتابعة الولي في البيان والتأويل هي عين متابعة النبي في التنزيل والتشريع، لا يختلفان إلّا ظاهرًا وباطنًا، ولذلك قالوا: إنه عند انقطاع نبوّة التشريع باتمام دائرتها، وظهور الولاية من الباطن، انتقلت القطبية إلى الأولياء مطلقًا، فلا يزال في هذه المرتبة واحد منهم قائم في هذا المقام؛ لينحفظ به هذا الترتيب والنظام. قال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [13: 7]، وقال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [35: 24]. فإذا انقطع الظاهر، بقي الباطن. وما ذلك إلّا لأن الباطن حق، والحق لا يزول، وأما الظاهر فهو خلق، والخلق يزول. فالولاية جهة الحق، والنبوّة جهة الخلق. والنبي من جهة الخلق مشرع، ومن جهة الحق ولي؛ فالشريعة ظاهر النبوة، والولاية باطنها؛ وهذا معنى قولهم: إنّ للنبوّة باطنًا وهو الولاية، وظاهرًا وهو الشريعة. ولهذا قالوا: إن الولاية باطن النبوة؛ ولا يمكن لأحد من الأنبياء وغيرهم الوصول إلى الحضرة الإلهية إلّا بالولاية؛ وما ذلك إلّا لأن الولاية أتم من النبوّة.

وحيث إن الولاية أكبر حيطة من النبوّة والرسالة؛ لذلك هي تشتمل على الأنبياء والأولياء جميعًا؛ فالأنبياء أولياء حال كونهم فانين في الحق، باقين به، منبئين عن الغيب وأسراره. فالأنبياء مطلقًا داخلون في النبوّة التعريفية من جهة إحرازهم لمقام الولاية التي هي باطن نبوّتهم. وباعتبار أن الولاية محيطة وعامة؛ كإحاطة الأفلاك لما تحتها من الأجسام، أطلق عليها اسم الفلك، فلها الإنباء العام.

 

[1] الإمام الخميني، سر الصلاة، طهران، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، الطبعة 1، 1995 م، الصفحتان 70 – 71.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة 3، 1983 م، الجزء 25، الصفحة 363.

[3] ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي، تحقيق: مجتبى العراقي، قم، مطبعة سيد الشهداء، الطبعة1، 1985م، الجزء 4، الصفحة 121.

[4] الشيخ الكليني، أصول الكافي، تحقيق: على أكبر غفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة 5، الجزء1، الصفحة 58.

[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة 3، 1983م، الجزء 84، الصفحة 339.

[6] الإمام الخميني، مصباح الهداية، المصباح 52.

[7] الإمام الخميني، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، مصدر سابق، الصفحتان 73 – 74.

[8]  الشريف المرتضى، الانتصار، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415هـ، الصفحة 151.              



المقالات المرتبطة

الأصول الاعتقادية لقيمتي البصيرة والاستقامة

بدايةً لابد لنا من معرفة أن البناء القيمي لأي مدرسة كانت لابد وأن يستند على رؤية كونية للعالم، فمنظومة القيم التي تمثل الحسن والقبح الفردي والجماعي

حضور صدر الدين الشيرازي في الدراسات الفلسفية العربية (المرحلة الأولى)

الحكمة المتعالية مدرسة فلسفية قائمة بذاتها، لها خصائصها الذاتية التي تميّزها عن المدارس الأخرى، فهي وإن تقاطعت أو تواصلت مع غيرها من مشائية وإشراق

الطريق إلى الدولة الاستعمارية

لا يمكن فهم العداء الصهيوني للأديان ومواجهة كل ما هو حي، بدون العودة وفهم كيفية تشكيل الجهاز العسكري الرسمي للكيان الزائل، وذلك من خلال فهم العلاقة بين اليهودية

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<