الصلة بين العلوم الشرعية ونظرية المعرفة/الإبستمولوجيا

الصلة بين العلوم الشرعية ونظرية المعرفة/الإبستمولوجيا

تقديم

تبدو حاجة الأمة الإسلامية ماسة وضرورية لبناء منهاج جامع لعلوم الوحي/القرآني، وعلوم الإنسان/البشري، بحيث يمكن التواصل بين كافة العلوم، لتظهر حقيقة أن كل تلك العلوم مرتبط بعضها ببعض، بل إن القرآن أكّد على أهمية التفسير البشري للوحي القرآني، وهو ما نريده في هذه الدراسة.

تعتمـد الأنظمـة العلميـة كافة على حضـارة ما، وأصل ثقـافي معين، ولا يعتبر الفكر الإسـلامي اسـتثناء من تلك القاعـدة، حيث اعتمد على الحضارة الإسـلامية، واسـتمدّ أصولـه مـن نظامهـا الفكـريّ والمعـرفيّ المحدديـن.

هـذا النظـام الفكري، الـذي يعتمـد عـلى تعاليـم الوحـي يقـدم نظـرةً ثاقبـة للعـالم باعتبـاره العمـود الفقـري ّالميتافيزيقـي لافتراضات الفلسـفة في العلوم والممارسـات العلمية.

وقد تأثـرت العلـوم الإسـلامية – القائمـة عـلى نظريـة المعرفـة الإسلامية – بالغايـات الدينيـة في جوانـب مختلفـة، وقد أمكـن إبّان تلك الفـترة من التاريخ تأسـيس صلـة وثيقـة بـالنظرة الإسلامية العالمية والأُسـس المعرفيـة في فروع العلـوم كافـة، وخاصـة العلـوم الطبيعية.

نناقـش في هذه الدراسـة نظرية العلوم الإسـلامية والأُسـس الإسـلامية لنظريـة المعرفـة، أو منهج علم الإبستمولوجيا، وهو المنهج المعاصر، الذي لا يرفضه الإسلام، ولكن داخل الإطار الروحي/القرآني، والشريعة الإسلامية، لأن العلـوم الإسـلامية كعلـم، قائمة عـلى نظرية المعرفة الإسـلامية[1]، خاصة لو استخدمنا الإبستمولوجيا كعلم معاصر لا يرفض الدين، ولكنه يسعى للربط بين الرواية والدراية، بين العقل والنقل، وهي القضية التي لم يحسمها المسلمون، وتحتاج لكتابات من علماء من كافة العلوم الدينية والعلمية بصورها المختلفة.

كما نسعى إلى الوصول لتوضيح وتعميق الصلة بين العلوم الشرعية ونظرية المعرفة الإبستمولوجيا، متخذين المنهج الوصفي التحليلي وبعض المنهج التفكيكي نبراسًا يهدينا إلى الحقيقة.

وتنقسم الدراسة إلى عدة مباحث:

المبحث الأول

العلوم الشرعية وبنيتها التاريخية

من الحقائق التاريخية أن انتقال الحضارة من منطقة إلى أخرى جاءت عبر الفلاسفة والمفكرين،  وليس من خلال رجال الدين، وقد انتقلت الحضارة الإسلامية إلى أوروبا، من خلال فلاسفة من أمثال ابن رشد، والفارابي، وابن سينا، وابن الهيثم وغيرهم من العلماء الفلاسفة، وليس من خلال رجال الدين، فالدين موجود في الأصل عند هؤلاء الفلاسفة، ونلاحظ أن كل فلاسفة وعلماء الطب والفلك والهندسة المسلمين كانوا فقهاء أولًا، ثم فلاسفة وعلماء فلك وهندسة بعدها، ومن ثمّ، فإن انتقال الحضارات يكون عبر أمثال هؤلاء العلماء، تمامًا مثلما اليوم نجد أن فلاسفة الغرب في عصر النهضة وما بعدها تأثروا خصوصًا بفلسفة ابن رشد، والحضارات تقوم على المعرفة المنسابة بين كافة الشعوب والأديان، وإن رفض علماء عصر النهضة في أوروبا الدين، أو قلّلوا من قيمته، فإن هذا لم يحدث في الإسلام إلا في فترات الضعف الإسلامي بصورة حقيقية، وتوجد دلائل كثيرة على ذلك، منها أحاديث طلب العلم، ولو صح حديث “اطلبوا العلم ولو في الصين”[2]؛  كان يعني العلوم الدنيوية وليس الدينية بطبيعة الحال، وكل العلوم تؤكد صدق الوحي القرآني.

وعند الحديث عن الدين نجدنا أمام العلوم الشرعية، وهي مجموعة من العلوم المختصة بالشرع الإسلامي، وقد نشأت هذه العلوم خلال فترات متتالية منذ تأسيس المدرسة الإسلامية الفقهية، والمدارس العلمية الأخرى منذ نزل القرآن الكريم على خاتم المرسلين النبي محمد (ص)، وقد تطور العلم الشرعي عبر التاريخ. والعلم الشرعي نسبة للشريعة بمعنى: “ما شرعه الله على لسان نبيه من الأحكام”[3].

أقسام العلوم الشرعية

إن العلوم الشرعية وبنيتها التاريخية، هي مصدر الشريعة الإسلامية، والتي تقوم على القرآن والسنة واستنباط الحكم من مصدره الأصلي ليكون على دراية بالعلوم المتعلقة بالقرآن والسنة النبوية وأصول الفقه حتى نستنبط الحكم الفقهي، مثال على ذلك: في قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ[4]، في القرآن أكثر من عشرين آية تأمر بإقامة الصلاة وتمدح المصلين، وليس في القرآن كيفية الصلاة، فالسنة مبينة للقرآن ومفصلة له، فمعرفة أوقات الصلاة وشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها غير موجود في القرآن بالتفصيل، وإنما مفصلة في صحيح الأحاديث النبوية التي أجمعت الأمة على صحة نقلها، وتداولها الفقهاء خلفًا عن سلف، ففي وجوب إقامة الصلاة أدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو علم ضروري؛ أي إنه حتى الكافر يعلم يقينًا أن الصلاة واجبة عند المسلمين، وأيضًا ضرورة العلم بحرمة الخمر وهذا ما علم بالدين بالضرورة. ليس فيه اجتهاد واستنباط حكم.[5]

لكن في تكفير تارك الصلاة اختلاف بين فقهاء المسلمين، وسبب ذلك اختلاف ظاهر الأحاديث النبوية الواردة في هذا الباب، فالأحاديث كلها صحيحة ولكنها مختلفة ظاهرًا ليس حقيقة، حيث لا يوجد في السنة تناقض، فهنا يستعمل الفقهاء قواعد تسمى بأصول الفقه.

والعلوم الأساسية هي: العقيدة، الفقه، التفسير، الحديث النبوي، والعلوم الآلية المساعدة تنقسم إلى أقسام :أصول الفقه، القواعد الفقهية، اللغة العربية، أصول التفسير، وعلوم القرآن، ومعها جميعًا علوم التاريخ وسير والتراجم.

الوحي

 الوحي، هو العلم، الذي جاء به النبي (ص) عن الله سبحانه وتعالى، من خلال الملك جبريل (ع)، والوحي وهو القرآن الكريم، جاء استجابة لأحداث حدثت في الأرض، أو تعاليم إلهية للمسلمين تنفعهم على العصور المختلفة، فكلام البشر هو الشرارة، والوحي هو النار، كلام البشر الطلقة الأولى في معركة الواقع، حدث ذلك في تداخل كلام الله وكلام الرسول، سواء كان الرسول، أو كان الله بادئًا بالحوار، وقد يكون التداخل بين كلام الله وكلام المؤمنين… كما يردّ الوحي على تساؤلات المؤمنين وزوجات النبي [ص] أو على غيرهم مستعملًا نفس ألفاظهم… وقد يُستعار في الوحي كلام الكفار والمشركين…[6].

فالله سبحانه وتعالى يُورد أقوال بعض البشر لتُصبح ضمن آيات القرآن، مثل قول أحد الكافرين: ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ([7]). وجاءت كما هي في سورة ص، وكقول آخر: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ([8]). وثالث في قوله: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ([9])، وكلها أقوال جاءت بنصها في آيات القرآن الكريم، والمعنى الذي نريده هو تحقق الوحي في التاريخ وعلاقته أكثر بالواقع لأنَّ علاقة الوحي بالواقع هي علاقة الوحدة والتعدد، وعلاقة الهوية بالاختلاف، فالوحي على الرغم من تطوره عبر الزمان وفي التاريخ من حيث التطورات والأدوات والتشريعات، إلا أنه يعبر عن وحدة واحدة من البداية حتى النهاية… ([10]).

فالوحي إذن، مُوجِّه للواقع لكي يُحيله للمثال البشري، ولذا فهو يدخل في الواقع في صورة أحكام وتشريعات للسلوك البشري، تشديدًا مرَّة، وتخفيفًا مرَّة أخرى، وهذا الواقع هو الذي يُشيِّده الإنسان بناء على تعاليم الوحي، ولا يجب على الإنسان الحياد عن الوحي بالتفسير الخاطئ، فيشيع مفهوم الصبر مثلًا غير الذي جاء به الوحي، لأنَّ الصبر في القرآن فعل إيجابي، فالصبر ليس الاستكانة، وليس فعلًا مستمرئًا لحُبِّ الظلم، والصبر على الأذى، الذي يلحق بالصابر، فهذا المفهوم للصبر الاستسلامي، هو الذي يرفضه الوحي، رغم أن بعض فقهاء الدِّين ينشرون صبر الاستسلام، وهو ضد فكرة عن أن ينتظر المستضعفون حتى يدخلوا الجنة، ولكنهم يدخلون الجنة بتغيير الواقع وعدم الاستسلام في سبيل ذلك، ولا يحدث شيء في الواقع إن لم يحدث في الذهن أولًا، ولا شيء يتغير في الواقع إن لم يتغير في الذهن أولًا… والقرآن توجه نحو الواقع من أجل تغييره إلى واقع أفضل…. وفي فترة تخلفنا حوَّلناه إلى مجرد عقائد وشعائر، نكفّر من لم يُؤمن بها أو يمارسها، وجعلناه أشبه بنظمنا الحاكمة، يقوم على الفرض والقهر والجبر، وما علينا إلا الطاعة والاستسلام… ([11]).

وهنا يبدو أنَّ الواقع المتخلّف يجب تغييره بناء على تعاليم الوحي أو التجديد من الداخل،  وذلك عن طريق إبراز أهم الجوانب التقدمية في تراثنا القديم، تلبية لحاجات العصر من تقدم وتغير اجتماعي، فتبرز الاتجاهات العقلية في تراثنا القديم عند المعتزلة، أو نظرياته الاقتصادية في المِلكية العامة وفي تنظيم الزكاة، أو نظرياته القانونية في التشريع بوجه عام، ولكنها جميعًا محاولات جزئية تبرز بعض الجوانب التقدمية الأصلية في تراثنا القديم، ولا تُعطي صورة عامة للتراث كله وإعادة بنائه طبقًا لحاجات العصر، في حين أن المطلوب تطويرها وتوسيعها، حتى تكون هي روح العصر وإعطاء نظرة متكاملة للتراث، كما أنها تقع في الانتقائية، وأخذ ما نريد وترك ما لا نريد، فالمحافظ له الحق الذي للتقدمي ([12]).

العلاقة بين الوحي والعقل في الفكر الإسلامي… ابن رشد أنموذجًا

العلاقة بين الوحي والعقل، يمكن تجاوزها والقول بتحديد العلاقة بين العقل والنقل، بين الرواية والدراية بين المحافظين والأحرار، أو باختصار كما ذهب الدكتور حسن حنفي في ما بين اليمين واليسار[13]، وهو يرى أن مضمون الثورة والتجديد ينطلقان من أسس إسلامية ومعه فكر عالمي… والثورة أيضًا تعني الإبداع والتجديد، والحوارات الدائمة النَّقدية مع الغير.

وحتى لا يطول بنا البحث، نسعى لأخذ أنموذجًا إسلاميًّا حضاريًّا أثّر في الفكر الإنساني بأسره، وما زال متواجدًا بجانب المعتزلة القدامى والمفكرين المعاصرين من أمثال حسن حنفي، ومحمد أركون، وحاج حميد، ومحمد عابد الجابري وفرج فودة[14]، ونصر حامد أبو زيد وغيرهم يفوقون الحصر، والقائمة ممتدة، ويمكن القول: إن العناية بإنشاء علاقة طيبة بين الوحي والعقل، وتثبيت هذه العلاقة على أسس متينة، مما يجبُ أن يعمل له الفيلسوف المتدين[15].

أبو الوليد بن رشد أنموذجًا

نكتب عن نموذج واحد، وهو عن الفيلسوف أبو الوليد بن رشد، لا عن سيرته الشخصية، ولكن عن أثر فكره في الماضي الإسلامي والحاضر الأوروبي، فجاء كتابه “فصل المقال وتقرير فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” نبراسًا للعقل الإسلامي والعقل البشري على السواء، وقرر أن الله عندما خلق العقول لم يضع شريعة تناقض العقل، فسعى للتوفيق بين العقل والنقل، وهو الأمر الذي نريده اليوم، ولكن الإمام أبا حامد الغزالي شنّ ضده حملة شعواء وألّف كتابه “تهافت الفلاسفة”، فألّف ابن رشد كتابه “تهافت التهافت”، ردًّا على الغزالي، والحقيقة أن ابن رشد صاحب أكبر مركز إسلامي في عصره وبلده، وله بتمكُّنه من الدين وأسراره ومن فهمه الصحيح لفلسفة أرسطو التي يراها الحقيقة، وصل إليها المعلم الأول من غير طريق الوحي، ومن حظوته في الدولة بالمركز المرموق في الفقه والقضاء، له من كل هذا ما يُيسر له أن يتقدم بشجاعة برأيه في هذه العلاقة، وقد أقبل ابن رشد على العمل، الذي أحسَّ ضرورته، وخصص للغاية التي أراد الوصول إليها كتابيه: “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، وكتاب “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة”، ذلك فضلًا عما خصصه لها أيضًا من كتابه: “تهافت التهافت”[16] في مُناسبات مُختلفة ومواضع عدة، ومن خلالها نجد ما يربط ما بين الوحي والعقل، وعلى أي أسس ينبغي أن تقوم.

إن ابن رشد لم يعتدَّ بالدين وحده دون العقل، ولا بهذا وحده دون ذاك، بل حاول أن يسلك طريقًا وسطًا، وذلك ببيان أن كلًّا من الحكمة والشريعة في حاجة إلى الأُخرى، وأنَّ لكلٍّ منهما ناسها وأهلها، وهذا معناه أنه اختار في هذه العلاقة الوضعَ، الذي يختاره كل مؤمن بالدين وقيمة العقل والفكر معًا، وقد انتهى ابنُ رُشد من ذلك كله إلى أنَّ الحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين، أُختان ارتضعتا لِبانًا واحدًا، وأنهما يتعاونان في إسعاد البشر[17].

وقد بدأ ابن رشد بالتدليل على أنَّ الشريعة (القرآن والحديث) تُوجب النظر الفلسفي، كما تُوجب استعمال البُرهان المنطقي، لمعرفة الله تعالى وموجوداته، وساق لهذا وذاك دليلًا من القرآن، وهو قوله تعالى في سورة الحشر، الآية 2: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾، مُبينًا أنَّ الاعتبار هنا، ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس الفلسفي أو المنطق المعروف[18].

وهناك في القرآن نفسه آيات كثيرة تحثُّ على استعمال العقل والنظر في الموجودات، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾،[19]، وقوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[20]، وقوله: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[21]. وهذا فضلًا عن قول الرسول (ص): “لَا حَسَدَ إِلَّا في اثنتين؛ رجلٌ آتاه اللهُ مَالًا فسلَّطَهُ عَلَى هَلَكَته في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها”[22].

قواعد التأويل[23]

إذا كان الشرع يُوجب النَّظر الفلسفي، كما ذهب ابن رشد، فمن الواجب أن نلتمس تأويل ما لا يتفق معه من النصوص، على أنْ يتفق هذا التأويل وقواعد اللغة العربية؛ وذلك لأنَّ من المقطوع به أنَّ كل ما أدّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع تحتاج لتأويل[24]، وينبغي أَلَّا نَجِدَ غريبًا عن الدين وروحه ما يذهب إليه ابن رشد من وجوب تأويل النصوص التي لا تتفق ونظر العقل السليم، ولكن الغزالي عدوُّ الفلاسفة، يستنكر في رسالته الخاصة بالتأويل وقانونه أن يكذِّب العقل بالشرع مع أنَّ هذا ما ثبت إلا بذاك[25]، كما يوصي من يُحاول الجمع بين الدين والفلسفة، أو بين المنقول والمعقول حسب تعبيره، ألا يكذب برهان العقل أصلًا، وذلك كما يقول لأنَّ العقل لا يكذب، ولو ذهبنا إلى تكذيبه فلعله كذب في إثبات الشرع الذي ما عرفناه وما ثبت إلا به[26].

إذا كان لا بدّ من التأويل للأسباب التي ذكرها ابن رشد؛ فإنَّه رأى ألا يترك الأمر فوضى، فيؤوِّل من يشاء ما يريد من النصوص، ويُذيع من التأويل ما يُريد ولمن يُريد، بل جعل لذلك قانونًا وقواعد يسترشد بها الباحث، وتحفظ الإخاء بين الحكمة والشريعة. وهذا أَمرٌ طبيعي لمن يرى اصطناع هذه الطريقة، طريقة تأويل بعض النصوص لتتفق مع العقل والنظر الفلسفي الصحيح؛ ولذلك نرى شيئًا من هذه القواعد وضعها فيلون اليهودي الإسكندري، كما نرى الغزالي يترك لنا رسالة صغيرة في هذا الشأن تُسَمَّى “قانون التأويل”.

إنَّ ذلك ضروري لمن يرى وجوب التأويل لبعض نصوص الشريعة[27].

وإذا كان حديثنا اقتصر على ابن رشد، لأن يمثّل لنا رؤية حضارية متقدمة، وهي الرؤية التي تظلل الرؤية الإسلامية بقواعد العقل والنقل، أو اليمين واليسار.

كل هذا أمر جيد، فمن خلال رؤيتنا إلى العلوم الشرعية وبنيتها التاريخية، يتضح بصورة جديدة أن الإسلام قام على العقل والنقل، وإذا خلف العقل النقل، يمكن التوفيق بينهما من خلال التأويل، والتأويل فريضة دنيوية قبل أن تكون دينية، والمفكرون العرب المعاصرون يريدون هذا التأويل أو يقولون به، ولكنهم يصطدمون بواقع نقلي بحت، يؤثر على عقل الأمة ونهضتها، وهو ما يدفعنا دفعًا للوصول إلى الطريق الوسط، في نظرية المعرفة، أو اتخاذ علم الإبستمولوجيا دليلًا للوصول إلى التوفيق بين الوحي والعقل، كما سنرى في المبحث الثاني.

المبحث الثاني

الأسس الإبستمولوجية وتفاعلها مع النصوص الدينية

نستطلع الإبستمولوجيا تعريفًا وتاريخًا ومنطقًا، والأسس المعرفية لها، وكيف أثّرت على الحضارة الأوروبية، وهل وصلت إلى التكامل المعرفي من عدمه، وهل يمكن التلاقي والوصول بين العلوم القائمة على أسس الوحي الإلهي، وأنها يمكن أن تكون بديلًا عن التفسيرات التاريخية الإسلامية كالتأويل، وإن كنا نعتقد أن القرآن العظيم يؤكد حقائق الدنيا بأسرها، والإبستمولوجيا تساعد على نمطية التفكير، ولا تلغي حقيقة الوحي وتفسيراته في كتب التاريخ والحديث النبوي.

الإبستمولوجيا

الإبستمولوجيا مصطلح استخدم لأول مرة من قبل الفيلسوف الاسكتلندي “جيمس فريدريك فيريير”[28]، لوصف فرع من فروع الفلسفة المعنية بطبيعة ونطاق المعرفة، وركز على تحليل طبيعة المعرفة، ومدى ارتباطها بمختلف المفاهيم مثل الحقيقة والاعتقاد والتبرير صيغة الإبستمولوجيا “علم المعرفة” على غرار الأنطولوجيا “علم الوجود”[29]، وهناك من يعتبر الإبستمولوجيا نظرية المعرفة، وهناك من يرفضون تلك العلاقة.

الإبستمولوجيا أيضًا هي مبحث نقدي في مبادئ العلوم، وفي الأصول المنطقية لهذه المبادئ، أو هي نظرية العلوم أو فلسفة العلوم… وتعتبر قسم من الفلسفة الوصفية أو فلسفة التطور[30]. ويفضل العاملون في الدراسات الفلسفية العودة إلى اصطلاح “الإبستمولوجيا” وتفعيله من جديد وإحلاله محل “نظرية المعرفة”، وذلك لأن الإبستمولوجيا (أو علم المعرفة)، أو علم المعرفيات جمعًا، هو الاصطلاح الأكثر دقة وشمولية[31].

أسس الإبستمولوجيا

تهدف النظرية إلى الإجابة على نمط معين من الأسئلة، مثل كيف لنا أن نفهم مفهوم السبب أو المبرر؟ وما الذي يجعل الأمور أو الأعمال المبررة لا بأس بها؟ فتحاول الإبستمولوجيا أن تجيب على سؤال “ما هي المعرفة؟”، كيف يتم الحصول على المعرفة؟ ومع أن طرق الإجابة على هذه الأسئلة يتم استخدام نظريات مترابطة، فإنه يمكن عمليًّا فحص كل من هذه النظريات على حدة.

والمعرفيات (الإبستمولوجيات) الحديثة وهي مرحلة التأسيس الحقيقي لمسألة المعرفة، ومن ثم نشوء مذاهب ومدارس معرفية لها، وهي تضم التقسيمات الكلاسيكية التي كانت متداولة في دوائر المعرفيات وهي :المعرفيات (الإبستمولوجيات) الحسية :التي تعتمد “الحس”، أو “التجربة” طريقًا وحيدًا لاكتساب المعرفة، وهنا الاستناد جاء على طريق المعرفة وليس على نظرية المعرفة.

ومن منطلق الرؤية الإسلامية المعاصرة، نجد كثيرًا من فلاسفة معاصرون يؤيدون منهج الإبستمولوجيا، وحتى إن لم يذكروها صراحة، هم يريدون كما نعلم التوفيق بين العقل والنقل، وتسعى الدراسات القرآنية المعاصرة ومؤلفوها مثل: (محمد شحرور، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، حسن حنفي…) إلى تقديم قراءة جديدة للقرآن؛ لهذا يحظى سؤال المنهج في مقاربة النصوص القرآنية بأهمية كبرى، سواء من حيث فهمها أو العلاقة بينها، أو محاولة استنطاق المضمون الدلالي لها[32]، والملاحظة الأساسية التي تجمع بين هذه الدراسات تأسيسُ مشروعها ومجهودها المعرفي على إعادة قراءة القرآن، انطلاقًا من توظيف مناهج جديدة، مثل: (اللسانيات، علم الاجتماع، تاريخ الأديان، الأنثروبولوجيا، علم النفس، الفلسفة، وعلم الإناسة…)[33]. والاستعانة بآلياتها التحليلية التي أنتجها المجال التداولي الغربي، على اعتبار أن التطوّر المنهجي والإصلاح المجتمعي، الذي عرفه المجتمع الغربي كان منطلقه إخضاع الكتاب المقدّس للدراسة والنقد بجملة من تلك المناهج، وفتح آفاق التأويل في قراءة النصّ المقدّس، لكن السؤال المركزي إزاء تلك الجهود هو: ما النتائج التي حصَلَت عليها من خلال إعمال تلك المناهج بالشكل الذي بشَّرَت به وطبّقته؟ وإلى أيّ حدّ استطاعت التقدّم بالمبحث القرآني حتى يسهم في التطوّر المنهجي والفكري للأمة؟ وما هو عائدها الحضاري والمعرفي على الأمة.

إنّ النظر الإبستمولوجي في مباحث الفكر الديني الفلسفي في الوقت المعاصر، يعتبر أحد أهمّ الموضوعات حاجةً إلى مزيدِ بحثٍ وعناية؛ نظرًا لما تحتويه هذه الدراسات من إشكالات ملحَّة ومقلقة من جهة، ومن جهة ثانية تمكننا من مقاربة موضوعات الدين والتفكير الديني عمومًا من زاوية مختلفة عن آليات نقلية أنتجها العقل الإسلامي.

لكن تبقى بعض هذه الدراسات في حاجة إلى الدراسة على مستوى التطبيق والتوظيف، حيث نجد فارقًا كبيرًا. ويمكن قراءة جهود “محمد أبي القاسم حاج حمد” في هذا الأمر، ومن خلال موسوعته الموسومة بـ”العالمية الإسلامية الثانية”، وإطارها المنهجي الموسوم بـالمنهجية القرآنية المعرفية؛ فقد كشفَت كتاباته عن جهد ذاتي ذي أبعاد فلسفية في الطرح، وحضور للسؤال المنهجي بما هو آلية منهجية في فهم القرآن الكريم، مع التفاعل الوجداني والعقلي مع روح النصّ وبنائيته[34].

الفارق الجوهري بين منهج حاج حمد والمنهج الإبستمولوجي التفكيكي أنّ المنطق الإبستمولوجي العلمي المعاصر يُستخدم في حالتين، كما يرى معه أيضًا أمثال حسن حنفي، ومحمد أركون وغيرهما ممن ذكرناهم[35]:

الحالة الأولى: حالة تفكيك التراث في مرحلته التدوينية وردِّه إلى ناظمه المعرفي التاريخي.

الحالة الثانية: إعادة قراءة النصّ القرآني المطلق باكتشاف نظامه المعرفي ومنهجيته.

ومن خلال ذلك يرون أن تحرير النصّ القرآني -معرفيًّا- من سلطة الأيديولوجيا التاريخية لثقافة التدوين[36]. وتمثَّل في قدرة القرآن الكريم على بناء المنهج العلمي الكوني القادر على إعادة بناء الإنسانية من خلال المنهج والمعرفة والثقافة، وإحداث التغيير في العالم كلّه واحتواء سائر تناقضاته، والقضاء على سلبيتها، وتحويلها إلى عوامل تفاعُل بنّاء، وتجاوز ثنائيات، أن السبب الحقيقي يعود إلى أن فكر المقاربات هذا تمت ممارسته تحت ضغط الحضارة الأوروبية، حيث تمَّت مقاربة الاشتراكية بالعدالة الاجتماعية في الإسلام، ومقاربة الشورى بالدستورية النيابية، ومقاربة مفهوم التقدم بالتمدن. وفشل فكر المقاربات حين عقَد مقارنة بين وَضْع المرأة في الإسلام والمرأة في الغرب، وكان همُّ المفكرين ردم الهوّة بين المسلمين والحضارة الغربية، ومع تزايد تأثير الغرب في الواقع الإسلامي، زادت حالة القلق الفكري لدى بعض القيادات الإسلامية، مما دفعها إلى القفز فوق منطق المقاربات والمقارنات لتبني أسلمة العلوم الغربية لتحتويها بدلًا من أن يحتويها وقد عجزت أمامه، ولا يكون الاحتواء في هذه الحالة إلا شكليًّا؛ لأنه يتم ضمن حالة دفاعية قائمة على منطق العجز الحضاري من ناحية، وحالة سلبية مصدرها خوف الاحتواء من ناحية ثانية[37].

الإبستمولوجيا في المنظور القرآني

إنّ البحث في تطبيقات فلسفة العلوم يقتضي إعمال النظر في منطلقاته المنهجية، من خلال آلياته التحليلية والنتائج التي توصّل إليها، على أرضية اتفاق وتواصل معها، فهي لن تلجأ إلى التركيب من بعدِ التفكيك إلا في حالة تماشيها مع المطلق، على أن يكون مطلقًا بشروطها العلمية، أي: ليس مطلقًا لاهوتيًّا أو ميتافيزيقيًّا[38].

إن الطبيعة بقانونها الجبري، الذي لا يحتمل أيّ تأويلات؛ لأن قانون الجاذبية يعني أن كلّ شيء يسقط يقع على الأرض، ومن جبرية القانون الطبيعي استمد الفكر (الوضعي) فلسفته، وهناك الرؤية الغيبية للكون والإنسان، وهي الرؤية الدينية، حيث تتجاوز قدراتُ الخالق سبحانه وإرادتُه كلَّ جبريات القوانين الطبيعية وحتمياتها، محدِثة بذلك (قطيعة) مع الرؤية (الوضعية)، والإنسان المسلم يستند إلى النصّ القرآني باعتباره وحيًا مطلقًا يعادل الوجود الكوني وحركته.

إن اجتياز الاختبار الفلسفي الصعب للربط جدليًّا بين المنطلقات الثلاثة: (الغيب، والإنسان والطبيعة)، وذلك بموجب (قراءة كونية موحدة) تتجاوز اللاهوت والوضعية معًا، مصدرها سورة (العلق)، وهي (الجمع بين القراءتين). وترتبط هذه القراءة بأدوات منهجية ومعرفية معاصرة (إبستمولوجية)، وليست تراثية، حيث تتحول بالنصّ القرآني من (التفسير التاريخاني)[39] إلى (التحليل الإبستمولوجي)، ومن (الألسنية البلاغية) إلى (الألسنية[40] الدلالية المصطلحية)[41].

وبهذه الأدوات مجتمعة، يمكن بواسطتها تجريد الدين من النسيج اللاهوتي، الذي هيمن عليه فكريًّا وتاريخيًّا وتراثيًّا، وتم تجريد الفهم لقوانين الطبيعة من الجبرية المادية دون استلابها غيبيًّا، وتم تجريد الإنسان من النزعة الوجودية العبثية دون استلابه وضعيًّا أو لاهوتيًّا.

إنّ وظيفة القرآن بالنسبة للإبستمولوجيا المعاصرة “أنه يسدّ النقص في المعرفة الكونية بمنطق (الاستيعاب) و(التجاوز) معًا، رجوعًا إلى تركيبة القرآن نفسه، بوصفه معادلًا معرفيًّا مطلقًا في حد ذاته لمطلق الإنسان ومطلق الوجود الكوني، فهو كتابٌ متعالٍ، بمعنًى مطلقٍ، تعطي نصوصُه أو آياتُه الكونية مُتاحات وعيٍ لا مُتَناهٍ في كونٍ متناهٍ، فالخلق في القرآن يتجاوز خصائص المادة وتفاعلاتها المنضبطة إلى تفعيلها عبر كونية لا متناهية”.

بهذا تكون الإبستمولوجيا، هي البديل في “مواجهة جذرية تنقل الفكر الإسلامي المعاصر إلى عمق المأزق الحضاري العالمي؛ لأنها تعني طرح الوجه الفلسفي المقابل للنظام المعرفي المنهجي، الذي تستمد منه الحضارة العالمية المعاصرة تركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية[42].

المبحث الثالث

المشكلات المعرفية المعاصرة

المشكلات المعاصرة التي تعيشها الأمة، هي مشكلات ذات طبيعة خاصة على المستويين العلمي والعملي في زمن التواصل الهائل في المعلومات، ومن خلال التعرف على تلك المشكلات، مثل قضايا المرأة وحقوق الإنسان والنظم التربوية وغيرها، سنجد دورًا للفلسفة، لأن الواقع يؤكد أن الفكر الفلسفي الأوروبي المعاصر، ليس مقطوع الصلة بالفلسفات السابقة التي عرفتها أوروبا في العصر الحديث، بل إن كثيرًا من الأفكار الجديدة كانت مجرد تطوير لأفكار سابقة، وعلى هذا يتأكد من خلال طبيعة الفكر الفلسفي ذاته، الذي يتميز بالاتصال والحركة الدائمة التي يتلون بها كل عصر[43].

تنطلق مشاكل البشر قبل كل شيء من حقيقة أن الإنسان هو أولًا كائن يملك العقل، وثانيًا؛ أنه يتحتم عليه أن يحكم على الأشياء من منظور تصنيفه للسلوك بين الخير والشر، وهذا ما يجعله مميزًا عن بقية الكائنات التي خلقها الله، لكن في نفس الوقت هذه الميزة تسبب له المشاكل؛ فالإنسان هو الكائن الوحيد، الذي يعرف أن مصيره النهائي هو الموت، وهذه المعرفة قد تجعله الكائن الأقل سعادة بين المخلوقات الأخرى[44].

إذا كانت المشاكل الرئيسة للجنس البشري والحضارة المعاصرة، هي نتيجة التناقض بين الطبيعة الروحية والمادية للإنسان؛ بين الثقافة الداخلية، والثقافة الخارجية “الحضارة”، بين القدرات المعرفية للإنسان، وأخلاقه؛ إذا كانت المشكلة كذلك فإن حلّها يكمن فقط في تطوير الثقافة الداخلية للإنسان، وبالدرجة الأولى أخلاقه؛ طبعًا لا يمكن أن يصبح الإنسان قديسًا؛ لكن كما قال الفيلسوف كانط: “إن الإنسان لديه المقدرة على أن يصبح مقبولًا ولائقًا”[45].

هذه الأطروحة حول الثقافة والأخلاق دائمًا ما تقابلها أطروحة أخرى، وهي أن الأقوى والأكثر عدوانية هو من يفوز، ومن يتجرأ هو من يأكل، ولكن؛ يجب أن نتذكر أن العدوانية في المقياس الإنساني فقط تهدم الموارد المتاحة، وما تم إنجازه دون أن تقدم أي شيء جديد، تمامًا مثل الكَيْد، الذي يعيد العدوان إلى صاحبه، ويخلق له مشاكل لم يتوقعها أبدًا.

كما توجد مشكلة قراءة النص المقدس، وهي مشكلة فكرية يهتم بها المفكرون، ولكنها تؤثر على الوعي العام لجمهور البشر، والوعي لا بدّ أن يتسق الخطاب الديني مع العقل البشري، والإبستمولوجيا تدفع لردم الهوّة بين المثقف والعامي، وبين الدين والدنيا، وبين الأحياء والأشياء معًا.

المبحث الرابع

متطلبات الإحياء والمعاصرة بين العلوم الشرعية والإبستمولوجيا

هذه محاولة ليس لتحقيق التوافق وأسس التلاقي بين العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية، ومحاولة الربط والصلة بين تلك العلوم الشرعية ونظرية المعرفة الإبستمولوجية، ليس للتأكيد على إلوهية الإسلام، بقدر ما هو درب للوصول إلى المفهوم الكلي لعلوم الوحي، والقرآن بمصدره الإلهي يؤكد على أن العجز والتراخي في قضايا مثل حقوق الإنسان هو إخفاق شرعي وعلى المستوى المعرفي، والقرآن أكد على كرامة الإنسان ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[46].

وكل ذلك مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة الذاتية للعلوم من وجهة نظر إسلامية، لا تأخذ من الوافد الغربي إلا بقدر حاجتها، أو تؤثر فيه، أو تأسيس علم “الاستغراب” مقابل علم الاستشراق، كما يرى الدكتور حسن حنفي[47]، ونجد أنه لا دين على وجه الأرض، ولا فلسفة، ولا نظرية، ولا أيديولوجية، ولا مذهب من المذاهب الإنسانية؛ المعاصرة منها والتراثية، إلا وقد رفعت راية العِلم[48].

لقد بدأت العلوم الشرعية بتلقي النبي (ص) الوحي بغار حراء، آمرًا ومعلمًا إياه عدة أمور، والنبي بدوره علّم الناس ما هو مطلوب منهم، وانتشر الصحابة في بقاع الأرض يساندون النبي (ص) في مهمته؛ مهمة الإبلاغ. علمًا أن الوحي هو المرجع الأول والأخير في التعليم… وتوفي النبي (ص)، وقد بلّغ علوم الوحي كما طُلب منه؛ المتمثل أولًا في القرآن الكريم، وثانيًا في شرحه وإيضاحه ومعايشته (ص) لمراد الله في القرآن؛ وذلك أيضًا بعناية ربانية، فالوحي قرآن صريح، متجسد في أفعال وأقوال وسيرة النبي (ص). ولا إشكال في هذا، فالعلوم الشرعية جاءت في زمن النبي (ص) من خلال الوحي.

ثم تطورت العلوم الشرعية بعده شيئًا فشيئًا، بحسب ما تقتضيه الظروف، فالجميع متفقون على أن القرآن والسنة هما أمهات العلوم الشرعية، لكن في القرآن والسنة علوم عدة؛ فالناس أولًا بحاجة إلى معرفة تاريخ القرآن وأسباب النزول، ثم تأتي مرحلة فهم معاني النصوص. ثم هم بحاجة إلى معرفة ما قاله الرسول بحق مما لم يقله.

نعرف أنه في الإسلام يجب أن يتعلم كل مسلم أمر دينه، من معرفة العبد ربه ونبيه وطريقة التدين من صلاة والقراءة لها، وزكاة، وفي أمور الحياة، وما يعرف بفرض عين، أو ما علم من الدين بالضرورة، كأننا لا نحتاج متخصصين في العلوم النقلية، لأنه يجب على الجميع معرفة ذلك؛ أي معرفة دينهم وطريقة تدينهم، وعلى هذا يحمل الحديث المعروف في أن طلب العلم فريضة على كل مسلم. وهذا ما يفتح للجميع باب الفتوى، والمسلم المتخصص في العلوم النقلية يُدَرَّس ما يجب أن يعرفه أي مسلم من أوليات الحلال والحرام وقواعد الدين، ثم تأتي مرحلة التخصص في علوم الدين، بل لعل واقع العلم الشرعي الأكاديمي تجزيئي، باسم التخصص، فيتخرج أحدهم دكتوراه في اللغة فقط، أو الفقه أو الشريعة أو التاريخ، وفي كل الأحوال توجد مشاكل فكرية، هي التي تسبب مشاكل الأمة، مثل قضايا حقوق المرأة وحقوق الإنسان والحكم على المرتد وغيرها من المشاكل التي تستدعي التوفيق بين العقل والنقل[49].

خاتمة

لا بدّ من الاعتراف بوجود مشاكل لدينا، في الخطاب الديني، والفكر الديني، ووجود الاعتراف بالمشكلة يستلزم البحث عن حلول لها على المستوى الفكري والواقع المعرفي، وإذا أردنا تجديد الخطاب الديني، يجب أن نأخذ بمنهج الإبستمولوجيا، بدون الإغفال عن وجود حقيقة الوحي، وإذا اختلفت الرؤى، فعلينا التوفيق بالتأويل المعرفي، أو بعلم الإبستمولوجيا.

علاقة تجديد الخطاب الديني في العالمين الافتراضي والواقعي بالمنهج الإبستمولوجي

إن الدعوة لاستخدام وتفعيل الإبستمولوجيا كمنهج معرفي يوائم بين العقل والنقل، ويمزج بين الوحي والواقع، هو ضرورة من أجل تجديد خطاب الأمة الديني، ليس من خلال العالم الافتراضي، ولكن من خلال العودة للأصول الفلسفية للمسلمين من أمثال ابن رشد وابن سينا والفارابي، والأخذ من العلوم الغربية بالمنهج العقلي دون الوقوع في فخ التغريب الكامل.

والدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ليس استبعادًا لرجال الدين، لكن رجال الدين من الممكن أن يكونوا فلاسفة مثل الفقهاء القدامى الذين ذكرناهم، ويمكنهم أيضًا أخذ الخطوة الأولى في تجديد تراث الأمة، وهي جميعًا قضايا لا تنفصم عند الحديث الدعوي للإبستمولوجيا.

وقضية أخرى ملازمة لما سبق شرحه من ضرورة الأخذ بالإبستمولوجيا، ووجود وسائل التواصل الاجتماعي، التي أخذت حيّزًا ضخمًا، لا يمكن إغفال تأثيره على كافة قضايا الأمة، حيث صار كل المواطنين مفكرين وكتاب وفلاسفة، دون العمل على تجديد العلم والدراسة، ووجود قاعدة صناعية لإنتاج تلك الصناعات العلمية من البقاء في ذمة المتلقي دون العمل على التغيير، وكل تلك قضايا مرتبطة بالدعوة لتأسيس إبستمولوجي للأمة الإسلامية، حيث نرى الكثيرين يُرددون كلمة تجديد الخطاب الديني، أي تجديد لغة الخطاب باسم الدين، أي تجديد الطرق وليس الدين، أي أن نجدد في نقله، وفي الوسائل الحديثة، وفي الأجهزة الحديثة؛ أي نجمع ما بين الأصالة والحداثة.

إن الإضافة تكون عن طريق وسائل النشر المعاصرة، فتلعب التكنولوجيا بوسائلها وأجهزتها الحديثة المتمثلة في جميع مواقع التواصل الاجتماعي الآن دورًا مهمًّا في حياتنا، فالآن الجميع يجلس على مواقع التواصل الاجتماعي تقريبًا أغلب الوقت، ووسيلة تواصل الناس مع بعضهما البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وهذا جعل لغة الخطاب يجب أن تواكب العصر الحديث، ليس فقط لغة الخطاب الديني، بل الخطاب الاجتماعي والسياسي وغيرها، فالمعنى الحقيقي لتجديد الخطاب الديني هو إزالة كل ما تعلق به الدين، فالدين لا يُضاف عليه فإذا أضيف عليه اتُهم بالزيادة، ولا يُحذف منه فإذا حذفنا منه اتهمناه بالنقص. الدين له حدود وليس قيودًا، فالقيود تقيد من حريتنا أما الحدود فتضمن سلامة المجتمع.

 وخلاصة القول: إن الأمة الإسلامية عليها أن تنتبه للمخاطر التي تحيق بها، في عالم الواقع وفي المثال الافتراضي، وأن تتخذ من المنهج القرآني في الحوار نبراسًا للتوافق المجتمعي والنبل البشري على السواء..

 

[1] مرزيسا منتري، الأسس الإبستمولوجية للعلوم الطبيعية في الإسلام، ترجمة: بدر الدين مصطفى، الكويت، مركز نهوض للدراسات والنشر، 2019، الصفحة 4.

[2] سنن البيهقي، الحديث 41 من نسخة كمبيوترية، والحديث مروي بسند ضعيف في سنن البيهقي وغيره، ولكننا أخذنا في الاعتبار حث الإسلام لطلب العلم، الذي هو فريضة، والعلم هو العلم الديني والعلم الدنيوي سواء بسواء.

[3] إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الموافقات، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان، القاهرة، دار ابن عفان، 2008، الجزء3، الصفحة 243.

[4] وردت هذه الآية القرآنية في عدة سور قرآنية، مثل: البقرة، الآية 42، والنساء، الآية 44، والأنعام، الآية 72، والحج، الآية 78، والروم، الآية 31.

[5] سيكو مارفا توري، عولمة العلوم الشرعية أكاديميًّا.. لبناء المجتمع المثالي – موقع  islamonline.net

[6] حسن حنفي، دراسات فلسفية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1987م، الصفحة 179.

[7] سورة ص، الآية 5.

[8] سورة الزخرف، الآية 31.

[9] سورة الفرقان، الآية 7.

[10] حسن حنفي، هموم الفكر والوطن، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1997م، الجزء1، الصفحة 71.

[11] حسن حنفي، دراسات فلسفية، مصدر سابق، الصفحة 57.

[12] حسن حنفي، التراث والتجديد- موقفنا من التراث القديم، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1987، الصفحة 27.

[13] علي أبو الخير، ثورة العقيدة وفلسفة العقل… دراسة عن فكر حسن حنفي، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2008، بتصرف من الكتاب، خاصة الصفحة 176.

[14] تم اغتيال الدكتور فرج فوده بالقاهرة عام 1992 بسبب آرائه العلمية الفلسفية، قتله أعضاء من التكفيريين، كما تم التفريق بين الدكتور نصر حامد أبو زيد وبين زوجته، باعتباره كافرًا، فهرب إلى هولندا للتدريس بها حتى وفاته عام 2010.

[15]  محمد يوسف موسى، بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط، مؤسسة هنداوي الإلكترونية لنشر المعرفة والثقافة، منشور ورقي منذ عام  1956، بتصرف من الكتاب ومنشور في مؤسسة هنداوي عام 2021، الصفحة 298.

[16] محمد أبو القاسم حاج حمد، إبستمولوجية المعرفة الكونية إسلامية المعرفة والمنهج، بيروت، دار الهادي، 2004،  الصفحتان 254، 255.

[17] أبو الوليد بن رشد، فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق: د. محمد عمارة، القاهرة، دار المعارف، الطبعة 3، 1999، بتصرف من صفحات الكتاب.

[18]  محمد يوسف موسى، بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط، مصدر سابق، الصفحة 305.

[19] سورة يونس، الآية 101.

[20] سورة الزمر، الآية 12.

[21] سورة البقرة، الآية 272.

[22] صحيح البخاري، نسخة كمبيوترية، الجزء1، الصفحتان 21و 22.

[23] التأويل موجود عند كثير من فلاسفة المسلمين، عند المعتزلة والأشاعرة، ولكن اقتصرنا على رأي ابن رشد لأنه الأكثر تأثيرًا على النهضة الأوروبية الحديثة.

[24] ابن رشد، فصل المقال، مصدر سابق، الصفحات 7-9.

[25] عزت العطار الحسيني، قانون التأويل، تحقيق: محمد بن ناوت الطنجي، سلسلة تراثنا رقم 3 عن الدار المصرية للتأليف والترجمة، عام 1966م، الصفحة 267.

[26]   المصدر نفسه، الصفحة 285.

 [27] جعفر بن منصور، كتاب الكشف، بيروت، دار الأندلس للنشر والتوزيع، 1996، الصفحات 124- 126.

[28] دنكان بيتشارد، ما المعرفة؟ ترجمة: مصطفى ناصر، الكويت، عالم المعرفة، 2013، الصفحة 46.

[29] د. عبد الرحمن محمد طعمة، الإبستمولوجية التكوينية للعلوم- مقاربة بينية للنموذج اللساني المعاصر، بحث منشور في مجلة اللغة العربية، العدد 38، الجزائر، 2017. وانظر أيضًا كرار عز الدين ثجيل، موقع الحوار المتمدن hewar -العدد: 5373 – 2016 / 12 / 16

[30] جان بياجيه، الإبستمولوجيا التكوينية، ترجمة وتعليق: د. السيد نفادي، راجعه: د. محمد علي أبو ريان، القاهرة، دار العالم الثالث، 2004، الصفحة 24.

[31] د. عبد الرحمن محمد طعمة، الإبستمولوجية التكوينية للعلوم، مصدر سابق.

[32]  د. حسن حما، في إمكان توظيف الإبستمولوجيا المعاصرة لفهم القرآن – تطبيقات محمد أبو القاسم حاج حمد أنموذجًا – موقع  https://tafsir.net/article/5250/fy

[33] د. عبد الرحمن محمد طعمة، الإبستمولوجية التكوينية للعلوم، وعلم الإناسة متعلق بالشر، مقاربة بينية للنموذج اللساني المعاصر، بحث منشور في مجلة اللغة العربية، العدد 38، الجزائر، 2017، مصدر سابق.

[34] د. حسن حما، في إمكان توظيف الإبستمولوجيا المعاصرة لفهم القرآن – تطبيقات محمد أبو القاسم حاج حمد أنموذجًا، مصدر سابق.

27 علي أبو الخير، ثورة العقيدة وفلسفة العقل، مصدر سابق، بتصرف من الكتاب ومطالعة فكر حسن حنفي، ومن مؤلفات محمد أركون وطه عبد الرحمن وغيرهم كثيرون ذكرنا بعضهم في هذه الدراسة.

[36] محمد منصور، موسوعة أعلام الفلسفة، عمان-الأردن، دار أسامة، 2003م، الصفحتان 265، 266.

[37] خليل عبد الكريم، فترة التكوين للصادق الأمين، القاهرة، دار مدبولي الصغير للنشر، 2002، وقد أخذنا من الكتاب مهاجمته المستمرة للميتافيزيقا، وهو يهاجم من خلال كتابه كل الغيب ويعتبرها ميتافيزيقا، ولقد أشرنا إليه لنتعرف كيف يفكر فريق من المفكرين العرب حول الغيب ورؤية الوحي من خلال العقل لا من خلال الوحي فقط.

[38] محمد أبو القاسم حاج حمد، إبستمولوجية المعرفة الكونية إسلامية المعرفة والمنهج، مصدر سابق، الصفحة 254.

[39] التاريخي منسوب للتاريخ المدون، أما التاريخاني، فهو علم دراسة التاريخ بأسس منهجية.

[40] الألسنية من اللسان، فهو علم دراسة الألسن، واستقت الألسنية منها.

[41] محمد أبو القاسم حاج حمد، إبستمولوجية المعرفة الكونية إسلامية المعرفة والمنهج، مصدر سابق، الصفحة 256.

[42]  محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، بيروت، دار الهادي، 2003، الصفحة 33.

[43] ألكسندر شوبروف، المشاكل الدائمة للحضارة الإنسانية المعاصرة، ترجمة: محمود إبراهيم أبو الحسن، الشارقة – الإمارات العربية، مجلة الرافد الإكترونية،  23 /12/2021 .

[44] ألكسندر شوبروف، المشاكل الدائمة للحضارة الإنسانية المعاصرة، مصدر سابق.

[45] علي أبو الخير، بين النور والنار، القاهرة، دار الدليل الثقافي، 2018، الصفحة 6.

[46] سورة الإسراء، الآية 70.

[47] حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 2006، وقد طبع الكتاب عدة مرات، والدكتور حسن حنفي كان يريد أن ندرس الغرب، كما قام بدراستنا وتأسيس علم الاستشراق، ولكن نظرًا لظروف كثيرة متعددة لم يُكتب للمشروع التفاعل المطلوب، ونأمل أن ندرس أنفسنا قبل أن ندرس الغرب الأوروبي.

[48] سيكو مارفا توري، عولمة العلوم الشرعية أكاديميًّا لبناء المجتمع المثالي، موقع  islamonline.net مصدر سابق.

[49] علي أبو الخير، النقل المفروض والعقل المرفوض، بيروت، دار المحجة البيضاء للنشر، 2021، بتصرف من صفحات الكتاب.



المقالات المرتبطة

إدارة المؤسسة الكونية بعين اللانظم

هذا المقال أقدّمه كقراءة – أخرى – لبرهان النظم (أو ما يطلق عليه التصميم الذكي المطروح في البحوث الخاصة بفكرة التطور الدارويني، الذي يقابل الانتقاء الطبيعي

تأسيس لمفهوم الوجود على ضوء الواقعية الماهوية

تعتبر مسألة أصالة الوجود واعتبارية الماهية من أهم مباحث الفلسفة الإسلامية. نجد هذا الموضوع في آثار فلسفة الفارابي، وابن سينا، وبهمنيار، وميرداماد، وفي كتابات شيخ الإشراق، وأتباع الفلسفة الإشراقية.

حوار الدهشة والرهبة بين لحظتي انبثاق

الوقوف على الحوار الإسلامي-المسيحي، يقتضي الرجوع إلى اللحظة الأولى لانبثاق الدعوة الإسلاميّة، فهي جاءت في محيط جاهليّ، ولكنّه لم يخلُ

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<