الحسين.. صرخة الحق على مرّ العصور
لا يمكن للناظر والمتأمل إلا أن يرى ويسمع اسم الحسين حفيد رسول رب العالمين، الذي قضى شهيدًا ثائرًا على الظلم، رافضًا بيعة طاغية عصره يزيد المتجاهر بالفسق الشارب للخمر، القاتل للنفس المحترمة، الذي أباح مدينة الرسول لجنوده ثلاثة أيامٍ يهتكون فيها الحرمات، ويرتكبون كل الموبقات في سابقة خطيرة لم يسبقه إليها من ادّعى خلافة المسلمين قبله. بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام ما زال اسم الحسين يضيء كمنارة تنير دروب الناس على اختلاف مشاربهم وطوائفهم ومذاهبهم، فهذا المسيحي قبل المسلم يتهجد باسم الحسين (ع)، وهذا الثائر للحق في أقصى البسيطة يرفع لواء الحسين كشارة حق، وها هي المضائف والمسيرات تقام باسم الحسين الشهيد الثائر، وها هي الطوائف المسيحية الشرقية تحيي ذكرى عاشوراء بالمشاركة في المسيرات وإقامة المضائف في العراق ولبنان والعديد من الدول، وها هو اسم الحسين (ع) مرفوعًا على المباني والحافلات في كثير من الدول الغربية في إشارة إلى قائد مسيرة الحق ضد الظلم، وها هو اسم الحسين لا زال إلى يومنا هذا يُذكر على لسان الشعراء الكبار على اختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم مضيئًا كمنارة، مستنهضًا ثائرًا رافضًا ألوان الظلم والقهر.
عجيب أمر الحسين! بل هو أعجب من العجيب! ومن لم يسمع باسم الحسين شهيد الطفوف؟ فما زالت صرخة إمام الأحرار وشهيد كربلاء الحسين (ع) الثائرة يتردّد صداها إلى يومنا هذا، بل ما زالت تلك الصرخة المستنهضة لكل المظلومين في العالم تعلو وتزيد علوًّا يومًا بعد يوم.
لقد جاد الحسين (ع) وعلّم الناس كيف يكون الجود حقًّا!
لقد جاد الحسين وعلّم الناس جميعًا كيف يكون الجود بالنفس وبالمال وبالولد وبكل شيء إلى الحدّ الأقصى في سبيل الله. لقد كان الحسين (ع) شاهدًا وشهيد زمانه، وبيقين العارف المعصوم، وبإيمانٍ قلّ نظيره جاد بنفسه على تراب نينوى، بل إنه جاد بكل ما يملك كاملًا تامًّا حتى طفله الرضيع، الذي نحره الأبالسة الأشقياء الملعونون في الأرض كما في السماء محمولًا بين يدي والده وهو يطلب له الماء ليشرب علّ ذلك يقيه الموت المحتوم بعد حصارٍ طال حتى تشقّق وتصحّر لسانه كما ألسنة الأطفال من آل بيت محمد صلوات الله وسلامه عليهم من العطش.
لقد جاد الحسين (ع) وعلّم الناس كيف يكون الجود إلى الحدّ، الذي لم يتورّع فيه عن التضحية بكل ما يملك في سبيل الله، وبإيمانٍ لا مثيل له بقضيته الحقّة حين رفض بيعة الطاغية يزيد قائلًا: “مثلي لا يُبايع مثله”.
كان يمكن له أن يبايع يزيد الظالم وبعد ذلك ينطلق حرًّا ويحمي نفسه وعائلته من آل بيت محمد (ص)، ولكن هل كان سيكون حرًّا حقًّا لو فعل ذلك وهو القائل وصرخته ما زالت حيّة إلى اليوم “هيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله؟”.
كان يمكن له أن ينزل على رغبة أخيه محمد بن الحنفية، الذي نصحه بعدم الخروج من المدينة، بل وتوسّل له في ذلك، ولكن هل كان ليكون قائدًا وملهمًا للثوار على مرّ الأزمان والعصور وحتى يومنا هذا لو أنه صمت واختبأ في منزله، أو بقي في المدينة، أو حتى لو أنّه احتمى بجدار الكعبة، وهو الذي فضّل الخروج من مدينة جدّه لكي لا تُهتك حرمتها بقتله هناك.
لقد كان الإمام الحسين (ع) القائد الفذّ كما جدّه رسول الله وأبيه علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم عندما خرج من المدينة إلى الكوفة ملبيًا لدعوات النصرة من أهل الكوفة آنذاك، ولو أنه لم يلبِّ نداءات أهل الكوفة وقتها لكان والعياذ بالله متخاذلًا عن نصرة المظلومين وهو ليس كذلك بالطبع، ولما ظهرت خيانة أهل الكوفة وتخاذلهم عن نصرة ابن بنت نبيهم الثائر للحق والرافض لظلم الطاغية الفاجر يزيد.
لقد قدّم الإمام الحسين (ع) كل ما لديه في سبيل الله ورسالته الأخيرة التي وجهها إلى أخيه محمد بن الحنفية والتي قال فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن الحنفية ومن قبله من بني هاشم: أمّا بعد، فكأنّ الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزل، والسلام”. كانت الرسالة الأكثر تعبيرًا والأكثر اختصارًا لكلّ الحياة والتاريخ على مرّ التاريخ بما فيها من معانٍ فلسفية وإنسانية، وكذلك منهجية وتحليلية استراتيجية لمن يحب التحليل والاستراتيجيا. فكيف يعمل الإنسان حصرًا لعالم الدنيا وهو مارٌّ بها مرور المسافر غير المطيل وغير المقيم؟!
ولعلّ هذه الرسالة هي الرسالة الأقصر متنًا للإمام الحسين (ع)، ولكنها الأكثر تعبيرًا، بل وكأنّ في هذه الرسالة القصيرة بكلماتها القليلة جدًّا وصية كاملة متكاملة لا يشبهها أي وصية.
ففي فكر الإمام الحسين (ع) أن الحقيقة الوحيدة هي الآخرة، أما الدنيا فكأنّها “لم تكن”؛ ما يعني أنّها غير موجودة للدوام، بل هي وجود مؤقت زائل، وأنها دار عمل وامتحان، ووجودها منوط فقط لإلقاء الحجّة على الناس فـ ﴿من يعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرّاً يره﴾.
وفي رسالة سابقة كتب الحسين (ع) فيها قبيل خروجه من مكة إلى محمد بن علي الحنفية قائلًا :
” بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد فإن من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام” .
فالفتح ها هنا هي الشهادة، وهي تحديدًا حين أعطى الحسين (ع) وبذخ وجاد بكل ما يملك في سبيل الله.
وما ذلك ببعيد عن قول أخته ورفيقة مسيرته في كربلاء السيدة زينب (ع) ليزيد عليه لعائن الله حين قالت جوابًا على سؤاله لها شامتًا ومتشفيًّا: “كيف رأيت صنع الله بكم”. فأجابته عقيلة الهاشميين ابنة ذلك الأسد الضرغام حيدرة، وسيدة نساء العالمين فاطمة (ع) بذلك القول المأثور، الذي ما زال يُردّد إلى اليوم: “ما رأيتُ إلّا جميلًا.”
ليس ذلك لأن ما حصل على الحسين الشهيد وعلى آل بيت نبي الإسلام محمد (ص) كان جميلًا بمعيار الدنيا الفانية الزائلة، بل المقصود أن ذلك كان جميلًا بمعيار الآخرة، حيث الثواب العظيم والمقام الرفيع لسيد شباب أهل الجنة كما وعده جده رسول الله (ص)، و ﴿الآخرة خيرٌ وأبقى﴾. ومن هو أعظم درجةً من الحسين في الآخرة سوى جدّه رسول الهدى، الذي قال فيه (ص): “حسينٌ منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحب حسينًا”؟!
هذه الرتبة الأخروية هي التي جعلت الحسين يقول قوله الشهير هذا: “وكأن الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزلْ”. فهذه المرتبة العظيمة التي رآها الحسين (ع) بأم عينه وهو حفيد الرسول (ص) وبذات قلبه وبصيرته جعلت من الدنيا عنده “لا شيء” وكأنّها أبدًا لم تكن.
وختامًا نقول: لقد صدق قولك يا حسين: من لحق بك استشهد، ومن لم يلحق بك لم يدرك الفتح.
فصلوات الله وسلامه وتحياته وبركاته على الحسين الشهيد الدليل على ذات الله، سيّد شباب أهل الجنة وحجّة الله على خلقه عدد أنفاس الخلائق، وعددًا لا يحصيه إلا علمه تعالى شأنه، وجعلنا الله ممن سار على دربه واقتدى بمسيرته إنه كريمٌ مجيب الدعوات.
المقالات المرتبطة
الفن والولاية على المجال العام في القرآن الكريم
بدأت الكتابة عن الفن في الإسلام عمومًا بالتزامن مع حركة الاستشراق ، سواء ما تناول منها جانب العمارة ، وتنظيم الحدائق
الإنسان قبل الدنيا
يعالج الباحث الشيخ حسن بدران في هذا المبحث واحدة من أكثر الأسئلة الوجودية التي تشاغل الذهن البشري منذ الأزل
الإيمان والمعرفة
أعتقد أن هناك تمييزًا بين العلم والمعرفة، فعلى الرغم من أننا نسمّي رجال الدين علماء، غالبًا ما يُظن أن المعرفة دينية، بينما العلم يختص بالعلوم الطبيعية والتجريبية.