الشيطان وتكامل الإنسان(2)

الشيطان وتكامل الإنسان(2)

تأثير إبليس على بني آدم 

هناك تصور لدى العديد من الناس مفاده أن لإبليس قدرة هائلة يستطيع من خلالها التأثير على بني البشر وإخضاعهم لسلطانه ونفوذه، الأمر الذي يجعل الإنسان مخلوقًا ضعيفًا لا حول له ولا قوة أمام قدرة إبليس وجنوده. وهذا التصور على درجة من الخطورة في مجال الاعتقاد، بحيث يدفع من يؤمن به إلى الاستسلام له، وبالتالي السقوط في فخ إبليس، الذي يستغل مثل هذه الاعتقادات الباطلة، بل ويزيدها رسوخًا في نفس صاحبها لدفعه إلى المزيد من الاستسلام لشهواته وهوى نفسه. كما أن مثل هذا الاعتقاد يمس قضية العدل الإلهي؛ فصاحب هذا الاعتقاد لا ينفك يجادل طارحًا هذا السؤال: كيف يحاسب الله الإنسان على خضوعه للشيطان في الوقت، الذي يمتلك فيه الشيطان قدرات هائلة وإمكانات لا قبل للإنسان بالتصدي لها؟ ومثل هذه التساؤلات المنطلقة من رؤية اعتقادية خاطئة تدفع من يعتنقها إلى مزيد من الانحراف على المستوى الفكري، وبالتالي تجرّه إلى الانحطاط السلوكي والأخلاقي. فما مدى صحة هذا التصور؟ ولأي مدى يمكن لإبليس وجنوده التأثير على الإنسان؟ وهل صحيح أن هذا التأثير لا يمكن للإنسان أن يواجهه ويقاومه؟

في الوقت الذي يظن فيه الكثير بأن لإبليس تأثيرًا كبيرًا وسلطة واسعة على الإنسان، نجد القرآن الكريم يصرّح بمحدودية تأثير إبليس وأنصاره وبضعف مكره وحيلته ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾. (سورة النساء، الآية 76). وتتضح محدودية تأثير إبليس وجنوده على الإنسان في عدة مجالات:

  1. فليس لإبليس على الصعيد التكويني أي دور، حيث أكّد الحق تعالى أن إبليس وذريته لم يشهدوا خلق السماوات والأرض، بل ولا حتى خلق أنفسهم ﴿مَا اَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَلاَ خَلْقَ اَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾. (سورة الكهف، الآية 51).

وكما يرى العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان، فإن هذه الآية تنفي ولاية التدبير عن إبليس وذريته، وذلك لأمرين اشتملت عليهما الآية:

الأمر الأول: أن ولاية تدبير أمور شيء من الأشياء تتوقف على الإحاطة العلمية بتلك الأمور من الجهة التي تدبر فيها، وبما لذلك الشيء وتلك الأمور من الروابط الداخلية والخارجية بما يبتدئ منه وما يقارنه وما ينتهي إليه، وإبليس وجنوده لم يُشهدهم الله خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، فلا كانوا شاهدين؛ إذ قال الله للسماوات والأرض ” كُن” فكانت، ولا إذ قال لهم “كونوا” فكانوا. فهم جاهلون بحقيقة السماوات والأرض، بل وحتى بحقيقة صنع أنفسهم، فكيف يسعهم أن يتولوا تدبير أمرها أو تدبير أمر شطر منها، فيكونوا آلهة أو أربابًا من دون الله وهم جاهلون بحقيقة خلقتها وخلقة أنفسهم؟

الأمر الثاني: أن كل نوع من المخلوقات متوجه بفطرته نحو كماله المختص بنوعه، وهذا ضروري عند من تتبّعها وأمعن النظر في حالها. فالهداية الإلهية عامة للجميع كما قال تعالى: ﴿الَّذِى اَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾. (سورة طه، الآية 50). والشياطين أشرار مفسدون مضلّون، فتصديهم تدبير شيء من السماوات والأرض أو الإنسان يؤدي إلى نقضه السنة الإلهية من الهداية العامة؛ أي توسله تعالى إلى الإصلاح بما ليس شأنه إلا الإفساد، وإلى الهداية بما خاصته الإضلال. وهذا محال[1]

  1. ليس لإبليس والشياطين والجن القدرة على معرفة عوالم الغيب والأخبار المستورة في هذه العوالم، فهم محجوبون عن كسب أخبار السماء: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ* إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَاَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾. (سورة الحجر، الآيتان 17 و 18 )، ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَي الْمَلَإِ الاَعْلَي وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَاَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾. (سورة الصافات، الآيات 6-10)، ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَاَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾. (سورة الملك، الآية 5).

من هنا فإن الجن وبعد اعترافهم بوجود حرس أقوياء يحولون بينهم وبين معرفة أخبار الغيب، أكّدوا بأنهم لا يعرفون إن كان أُريد شر بمن يسكنون الأرض أم أن الله أراد بهم خيرًا وهداية ﴿اَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ اُرِيدَ بِمَن فِى الاَرْضِ اَمْ اَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾. (سورة الجن، الآية 10). وفي قصة موت نبي الله سليمان (ع)، حين سقط بدنه الشريف على الأرض، أدركت الجن وفاته وأنهم لو كانوا مطلعين على الغيب وعلى وفاته قبل ذلك لامتنعوا عن الاستمرار في خدمته: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلـٰى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاَرْضِ تَاْكُلُ مِنسَاَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ اَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾. (سورة سبأ، الآية 14).

  1. ليس لإبليس وأعوانه القدرة على التصرف والإخلال بالوحي وبعزم الأنبياء. بحسب ما ورد في الآيات القرآنية ووفق ما ساقه علماء الكلام من أدلة عقلية، فإن إبليس وجنوده ليست لهم القدرة على كسب المعرفة والإلقاء والإنساء، بل ولا أي تصرف أو إخلال بالوحي الإلهي، كما أن أنبياء الله (ع) في مقام تلقي الوحي وإبلاغه معصومون من أي خطأ واشتباه. فقد نسب الحق إلى نفسه إنزال الوحي وحفظه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. (سورة الحجر، الآية 9)، ونفى عنه أي اعوجاج ونقصان ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي اَنزَلَ عَلـٰى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾. (سورة الكهف، الآية 1)، وبيّن أنه عهد إلى ملك أمين مقتدر بإنزاله على قلب الرسول الأكرم ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَمِينُ * عَلـٰي قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾. (سورة الشعراء، الآيات 192-194). كما بيّن تعالى أن نزول الوحي يتم وسط تدابير شديدة فلا يُظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضاه ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلـٰى غَيْبِهِ اَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾. (سورة الجن، الآيتان 26 – 27 ).

وعلاوة على ذلك، فإن ساحة الوحي بعيدة كل البعد عن أن تمتد إليها يد الشياطين، ولا تستطيع الشياطين بأي حال من الأحوال النفوذ إلى هذه الساحة، فهم في الواقع محرومون ومعزولون عن السمع ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾. (سورة الشعراء، الآيات 210-212). على هذا الأساس، فإن آيات القرآن مصونة تمامًا عن تصرف إبليس ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ اَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالاُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلـٰى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾. (سورة التكوير، الآيات 19- 25).

  1. ليس لإبليس وأعوانه أية سلطة على عباد الله. ففي معرض الجواب عن تهديدات إبليس بإغواء الجميع وإضلالهم عدا المخلصين، خاطب الله إبليس قائلًا: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾. (سورة الحجر، الآية 42)، ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾. (سورة الإسراء، الآية 65). وذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود من العباد جميع بني آدم، وليس فقط المؤمنين المخلصين[2]. وفي المقام عدة نكات ذكرها العلّامة الطباطبائي في الميزان في سياق تفسيره لسورة الحجر:

أ. حصر إبليس عباد الله في المخلصين منهم، ونفى عنهم سلطان نفسه وعمّم سلطانه على الباقين، بينما عمّم الله عباده على الجميع وقصر سلطان إبليس على طائفة منهم، وهم الذين اتبعوه من الغاوين، ونفى سلطانه على الباقين.

ب. إن إبليس ادّعى لنفسه الاستقلال في إغوائهم كما يظهر من قوله: ﴿لأغوينّهم﴾ في سياق المخاصمة والتقريع بالانتقام، والله تعالى يردّ عليه بأن ذلك زعم باطل منه، وأن ذلك إنما هو عن قضاء من الله وسلطان بتسليطه، وإنما ملّكه إغواء من اتبعه وكان غاويًا في نفسه وبسوء اختياره. فلم يأتِ إبليس بشيء من نفسه، ولم يفسد أمرًا على ربه في إغوائه أهل الغواية، فإنه بقضاء من الله سبحانه.

ج. إن سلطانه على إغواء من يغويه وإن كان بجعل من الله وتسليط منه سبحانه، إلا أنه ليس بتسليط على الإغواء والإضلال الابتدائي، الذي لا يجوز إسناده إلى ساحته سبحانه، بل تسليط على الإغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم وفي أنفسهم. والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾. فإبليس إنما يُغوي من اتبعه بغوايته؛ أي إن الإنسان يتّبعه بغوايته أولًا فيغويه ثانيًا. فهناك غواية بعدها إغواء، والغواية إجرام من الإنسان والإغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه.

ولو كان هذا الإغواء ابتدائيًّا من إبليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الأليق باللوم دون الإنسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الاَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَاَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ اَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ اَنفُسَكُم﴾. (سورة إبراهيم، الآية 22). فاللوم على الإنسان المجرم، وهو مسؤول عن معصيته دون إبليس[3]. وعلى هذا الأساس، وكما يفيد الشيخ جعفر السبحاني، “فإن وسوسة الشيطان في صدور الناس إنما هي بصورة النفوذ في قلوبهم، والسلطان عليهم بنحو يؤثر فيهم، وإن كان لا يسلب عنهم الاختيار والحرية”[4].   

وللشهيد مطهّري بحث قيّم، في كتابه العدل الإلهي، حول دائرة فاعلية الشيطان وسلطانه نورده في المقام مع بعض الاختصار. في البداية تناول الشهيد مطهّري بالبحث العقيدة الثنوية، وذكر أن ظاهر ما عليه العقيدة الزرادشتية هو تقسيم الموجودات إلى طائفتين: مصاديق للخير، ومصاديق للشر. والطائفة الأولى هي الموجودات التي ينبغي أن توجد لأن وجودها ضروري لقوام النظام الكوني، وأما الطائفة الثانية التي هي مصاديق للشر فهي الموجودات التي ما كان ينبغي أن توجد لأن وجودها أحدث نقصًا في النظام الكوني، وهي ليست مخلوقة للإله الكبير (آهورا مزدا)، بل خلقها العقل الخبيث (أهريمن) سواء قالوا بأن (أهريمن) نفسه قد خلقه الإله الكبير أو لم يقولوا بذلك. ويعني هذا الاعتقاد أن (أهريمن) هو خالق الكثير من المخلوقات، أي أن قسمًا من نظام الخلق يخضع لسلطانه، وهو نفسه إما أن يكون بحد ذاته مبدأً قديمًا أزليًّا وشريكًا ومماثلًا في الذات للإله الكبير (آهورا مزدا)، أو يكون مخلوقًا له وشريكًا له في الخالقية[5]. إذن، فالعقيدة الثنوية قائمة على أساس وجود قوتين متضادتين فاعلتين في الوجود، هما: قوة الخير وقوة الشر، ويمثلهما إلهان أو شريكان، الأمر الذي يُظهر كيف أن الشيطان، وفقًا لهذه العقيدة، يتمتع بسلطة هائلة في عالم الوجود ونظام التكوين والخلقة تضاهي سلطة الله تعالى.

ثم ينتقل الشيخ الشهيد إلى بيان العقيدة الإسلامية بشأن الشيطان، فيقول: “ولكن هذا التقسيم لموجودات العالم لا نجده في الرؤية الفلسفية الإسلامية، فلا يوجد في العالم أي مخلوق ما كان ينبغي أن يُخلق، أو أنه خُلق كمصداق للشر أصلًا، بل إن كل الأشياء خُلقت في الأصل جميلة وعلى مقتضى الحكمة، ولا خالق لها سوى الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى.

أما دائرة فاعلية وسلطان الشيطان فهو دائرة عالم التشريع، فلا دخل له في عالم التكوين، أي إن نفوذه هو في إطار التأثير على النشاطات الشرعية والتكليفية للإنسان، أي إنه يستطيع التأثير على الإنسان دون غيره من المخلوقات [نظرًا لكون الإنسان المخلوق المكّلف دون غيره] هذا أولًا. وثانيًا فإن تأثيره على الإنسان محدود بدائرة أفكاره، وليس بدنه. وثالثًا فإن تأثيره على أفكار الإنسان محدود أيضًا في إطار الوسوسة وتزيين الأمور الباطلة في عين الإنسان، وهذا ما يعبّر عنه القرآن بتعابير من قبيل: التزيين، والوسوسة، والتسويل وأمثالها.

ومن هنا يتضح أن الشيطان عاجز عن خلق شيء في عالم التكوين، وليس له أن يتسلط تكوينيًّا على الإنسان، بمعنى أن تكون له قدرة قاهرة يتمكن بها من إجبار الإنسان على ارتكاب السيئات، أي إن سلطته على الإنسان محدودة ومقيدة بأن يقوم الإنسان بنفسه بتسليم زمام أمره للشيطان. يقول عز من قائل في بيان حدود فاعلية الشيطان وتقييدها بإرادة الإنسان وتوليه له: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلـٰى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلـٰى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلـٰى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾. (سورة النحل، الآيتان 99-100).

كما يحكي القرآن الكريم احتجاج الشيطان على الذين يتولونه، الذين يدّعون يوم القيامة أنه هو المسؤول عن ضلالهم وانحرافهم، فهو يصرّح بأنه لم يكن قادرًا على إجبارهم على الانحراف، وأن فاعليته انحصرت في إطار دعوتهم لذلك في الحياة الدنيا: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ اَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أنفسكم﴾. (سورة إبراهيم، الآية 22)”[6].     

 لكن هل يعني هذا الكلام انعدام أي دور للشيطان في عالم التكوين؟ يجيب الشيخ الشهيد عن هذا السؤال موضحًا أن للشيطان دورًا في عالم التكوين مثله مثل باقي الموجودات. يقول (قده): “ومن الضروري التذكير بأن مرادنا من القول بأن عالم التكوين خارج عن دائرة تسلط الشيطان وفاعليته لا يعني انعدام أي دور له فيه، فلا يمكن أن يوجد موجود في عالم التكوين ولا يكون له دور فيه، بل المقصود أن الشيطان ليس خالقًا مستقلًّا لقسم من المخلوقات، وليس قطبًا في مقابل الله عز وجل (بخلاف الحال في العقيدة الزرادشتية)، وليس له في نظام عالم التكوين الطولي دور في تدبير الكائنات وإدارتها نظير الدور، الذي كُلّفت به الملائكة، كما أن سلطانه وتسلطه على الإنسان ليس بالدرجة التي تمكّنه من إجباره على الاستجابة لما يريد، أجل يبيّن القرآن أن للشيطان والجن دورًا في عالم التكوين، لكنه لا يزيد عن دور الإنسان فيه”[7].  

وفي نفس السياق يقول العلّامة الطهراني رحمه الله: “طبقًا لما ورد في الآيات القرآنية الكريمة فإن الشيطان لا أثر له في عالم الخلقة والتكوين، ولا سلطان له في عالم الأمر والملكوت. وتقتصر دائرة إحاطته وفعليّته في عالم الخَلق والدنيا فحسب، وحتّى تلك الإحاطة والفعليّة تكون مقتصرة على أفكار الجنّ والإنس، وعلى نحو الاختيار والوسواس لا الإجبار والاضطرار؛ حتى يتم له تضليل أي موجود شاء من الجن أو الإنس إذا ما انقادوا لوساوسه واتّبعوا أغراضه وأهواءه”[8].   

[1] العلامة الطباطبائي، الميزان، الجزء 13، الصفحتان 322-323.

[2] الميزان، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 166.

[3] الميزان، مصدر سابق، الجزء 12، الصفحتان 165-166.

[4] جعفر السبحاني، مفاهيم القرآن، الجزء 5، الصفحة 27.

[5] مرتضى مطهري، العدل الإلهي، تعريب: عرفان محمود، الصفحة 115 (بتصرف).

[6] العدل الإلهي، مصدر سابق، الصفحتان 116-117.

[7] العدل الإلهي، مصدر سابق، الصفحة 120.

[8] العلّامة الطهراني، معرفة الله، تعريب: جواد الصافي، الجزء 1، الصفحة 107.



المقالات المرتبطة

عاشوراء: إحياء التغيير

ربما لا يوجد حدث في التاريخ الإسلامي أدّى دورًا “مركزيًّا في تحديد هوية الشيعة مثل استشهاد الإمام الحسين (ع) ورفاقه

مسيرة ومحاولات تجديد الخطاب الديني في مصر رموز العقل والنقل والتنوير | المبحث الأول: رجال الدين التقليديون أهل النقل والتأويل

الخطاب الديني هو المحرك والمؤثر الأساسي والرئيسي في حياة المسلمين، لأن هؤلاء بطبيعتهم متدينون، والدين هو محرك حياتهم الأساسي كما يقول ابن خلدون

في المديح النبوي

قصيدة نـهج البردة واحدة من عشرات القصائد التي نُظمت على غرار القصيدة المعروفة بالبردة للإمام البوصيري، فأخذت نفس البحر (البسيط)، ولها نفس القافية (الميم المكسورة)

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<