الحوار مع الغرب بين الصدام والوئام
تمهيد البحث
يدور الجدل في الدوائر الإسلامية والأوروبية حول كيفية التوصل إلى حوار جدّيُّ بين الطرفين، ليحلّ السلام ويبعد الخصام، ويتأصّل التواصل، بدلًا من أن يتهم كل فريق الآخر بما فيه وما ليس فيه، فالمسلمون يتهمون الغرب أنه يتآمر ضد الإسلام، ويرون فريقًا من الغربيين يتهمون الإسلام والمسلمين بالتطرف والإرهاب ومعاداة الآخر، ويجدون مبررات لأنفسهم في سلوك الجماعات المتأسلمة، لتتكون ما عُرف بــ “الإسلاموفوبيا”، وتكون المعضلة، التي تقع المسؤولية فيها على عاتق المسلمين، ولكنها لا تبرئ الغرب في الوقت ذاته، فالمسؤولية ملقاة على عاتق الجميع، لأن الحرب في النهاية تعني الخراب للشعوب، ولكن السلام يكون بالعودة إلى الميراث الديني لدعوة محمد والمسيح عليهما السلام، لأنهما تمثّلان العودة للسلام بين كل البشر، وذلك من خلال دعوة محمد للحوار، وميراث المسيح في المحبة، حتى للأعداء.
نحاول البحث عن مظاهر الحوار وأشكاله بين المسلمين والأوروبيين، من خلال البحث عن دعوات الحوار والمحبة، وهذا ما يدور حوله بحثنا المقدم، وهو يحتوي على ثلاثة محاور.
المحور الأول
القرآن دعوة إلى الحوار، والإنجيل دعوة إلى المحبة
إن الأديان السماوية جاءت من مصدر واحد، هو المصدر الإلهي، وجميعها تدعو إلى السلام والإخاء والأريحية والحوار، لا للصدام أو الحروب، والبشرية في حاجة ماسة لقيم الروح في الإسلام والمسيحية، كليهما يدعوان إلى المحبة والحوار، وإذا جاز لنا أن نقول: إن المسيحية دين المحبة، فيكون الإسلام دين الحوار، وهذا لا يمنع أن كلاهما يدعوان إلى المحبة والحوار.
الحوار في القرآن
إن الحوار يجب أن يقوم على فلسفة واضحة، تنطلق من النواة الأولى، أي الحوار داخل الجماعة الواحدة، ومن السذاجة أن ننطلق للحوار مع الآخر، ثم نحن نعجز عن الحوار مع ذاتنا، علمًا بأن القرآن الكريم، هو في حد ذاته كتاب حوار، يدعو للسلام، والحوار في القرآن يمثل نقل عناصر الفكر الإنساني بكل خصائصه الثقافية والشعورية للإنسان الآخر، الذي يقوم بالدور نفسه بالنسبة لهذا الشخص[1].
إن الحوار الأول في القرآن الكريم، كان حوارًا بين الله والملائكة، عندما قال لهم:﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾[2]، وحاوروا ذاته العليا بقولهم باستنكار ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾[3]، وانتهى الحوار باقتناعهم، عندما أخبرهم آدم (ع) بالأسماء كلها، وقالت الملائكة: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَ مَا عَلَّمْتَنَا﴾[4]، أما الحوار الثاني في كتاب الله، فقد كان بينه سبحانه وتعالى وبين إبليس، فإبليس رفض السجود لآدم، لكنه لم يرفض فرصة الحوار مع الله سبحانه، وعبّر إبليس عما في نفسه، وقدّم طلبه إلى الله بعد أن رفضه سبحانه وتعالى، ثم بعد أن قُبل طلبه عبّر عن خطته ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لاَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[5]، وأجابه سبحانه بعد ذلك ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾[6]، وهذا الحوار بين الله سبحانه وتعالى رب الكون وبين إبليس، يعطينا فكرة أن المخلوق حتى لو كان متمردًا فإنه لا يفقد فرصة الحوار مع خالقه، ومن ثم ليس هناك شخص مرفوض في الحوار، وبالإمكان محاورة أي إنسان مهما كانت درجة سقوطه الإنساني والديني والاجتماعي.
وجاءت الحوارات كثيرة ومتنوعة في القرآن العظيم، بين إبليس وآدم، والقرآن الكريم دخل في حوارات متعددة مع المؤمنين والكافرين والشاكّين والمنافقين، ثم حوارات بين هذه الطوائف المختلفة، بحيث يمكن القول: إن الحوار هو الوسيلة لتأكيد المعرفة وتحريك الواقع، وقد طلب القرآن الكريم أن يدخل الإنسان في حوار مع نفسه.
وقد وضع الله في قرآنه الكريم قواعد ثقافية ومعرفية للحوار يجب أن يأخذ بها المتحاور في قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾[7]، فأراد الله للإنسان أن يملك المحاور المعرفة فيما يحاور فيه، وأراد للحوار أن ينطلق من خلال أصول موضوعية، تحترم إنسانية الإنسان المحاور، سواء في قيام الدعوة، أو في مقام الخصام والجدال، ولعل قمة المنهج القرآني الموضوعي، هو ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾[8]، فالقرآن جرّد الحوار من ذاتية المتحاور، وجعل المتحاورين لا يتبنيان شيئًا، حتى لو كانا ملتزمين في العمق التزامًا حاسمًا حول هذا الموضوع أو ذاك، لأنه يعتبر أن هناك حقيقة، وأن هناك شكًّا مشتركًا، وأن الطرفين يريدان أن يحركا الشك في طريق اليقين حتى يلتقيا بالحقيقة، ويعتبر هذا الأسلوب منهج قرآني في الحوار، الذي يجعل فكرًا يحاور فكرًا، لا ذاتًا تحاور ذاتًا، فالحوار يضيء للإنسان مواطن الحقيقة[9]، ويجعل الإنسان يكتشف الآخر دون اللجوء للإكراه، فضلًا عن القتل العقائدي، الذي مورس كثيرًا عند كل البشر، إما تحت دعاوى الزندقة، أو الخروج من الملة، أو مفارقة الجماعة، وجميعها سياسية غطت برداء الدين كثيرًا. صحيح كانت هناك محاولات كثيرة جابه العلماء فيها الخلفاء والحكّام والسلاطين، ولكنها ظلت مواجهات فردية للعلماء لم تأخذ صفة الجماعة، هذا باستثناء الحركات السياسية التي تقوض دولة لتنشئ دولة، وهذه أيضًا لها فتاوى كثيرة متنوعة حسب موقع السلطة المنتصرة، وأغلبها جاءت غير قرآنية المصدر على الإطلاق، ولكن المشكلة أن جميعها صارت من ضمن أسس الحوار التراثي، والذي اعتبره المسلمون فيما بعد من الدين بالضرورة، وليس فيه من الضرورة شيء، ولسنا بصدد الدخول في التاريخ لكل فترات التاريخ الإسلامي، ولكنا نريد إيضاح الحقيقة كما جاءت في القرآن العظيم على لسان النبي محمد (ص)، وهي الحقيقة الثورية التي يجب على المسلمين وغيرهم معرفتها.
إن الإنسان في تصور القرآن مخلوق أرضي حقًّا، ولكنه بحكم تكوينه ووظيفته موصول بالسماء[10]، وبهذه الصفة يجب أن يقدم له خطاب ديني محرّر من أي قيود غير قرآنية كما رأيناها آنفًا في الحوار القرآني، علمًا بأن هذا الحوار السماوي يتعلق بالأرض والإنسان المستخلف.
ولماذا نذهب بعيدًا؟ إن أول ما نزل في القرآن الكريم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[11]، فالقراءة والقلم هما عنوان المعرفة البشرية السماوية المصدر، ولا تكون القراءة إلا مع القلم أو ما دوّن بين دفتين، ولذلك فإن ثاني ما نزل من القرآن الكريم ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾[12]، من جديد يؤكد الله سبحانه أهمية القلم في تدوين العلم والمعرفة والثقافة، وهكذا يتسق مع قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[13]، لأنه سبحانه لم يترك القرآن لذاكرة البشر، فكان تدوين القرآن لحظة نزوله على الحجر وسعف النخيل من أسباب حفظ القرآن، والخطاب الديني التراثي لم يأخذ بكل ما سطّر القرآن الكريم، نظرًا للقيود غير القرآنية التي أضعفت كثيرًا من نصوصه، إما للأهواء البشرية، وإما لسوء فهم مفسري النصوص، على أنها جميعًا تخضع النصوص للتصور البشري، وإذا كان القرآن قدّم للبشر، ولم يقدّم البشر للقرآن، يكون المفهوم القرآني، الذي قدّم للبشر له أصوله الإلهية ودلالاته الرسالية، وأي فهم قاصر لهذه الدلالات تخرج النصوص كلية عن معناها.
نقد الذات
عندما نتحدث عن الحوار القرآني، لا يغيب عنّا نقد الذات الإسلامية، فالواضح أن فتنة التكفير لها جذورها الممتدة عبر الزمن، منذ الخوارج وحتى اليوم، ورغم أنهم قلّة ولكنهم أول المشوّهين للإسلام والمسلمين، وعندما نعود للمنهج الإسلامي الحواري الحقيقي، نجد أن القرآن الكريم عندما أعلن الثورة على الطغيان، فإنه أعلنها انطلاقًا من قواعد إيمانية وعقلية، ولقد جاءت إشارة إلى أحد اشتقاقات كلمة الثورة في القرآن في الآية الكريمة ﴿وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا﴾[14]، وفسّر صاحب معجم ألفاظ القرآن كلمة “أثاروا”؛ أثار الأرض حرثها وشقها وقلبها للزراعة أو لغيرها كاستخراج المعادن واستنباط الماء[15].
وفي الحديث الشريف جاء تعبير “ثوّروا القرآن”، و”أثيروا القرآن”، قال مؤلّف مجمع بحار الأنوار “من أراد العلم فليثور القرآن؛ أي لينقر عنه ويفكّر في معانيه وتفسيره وقراءته، وأثيروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين، ويستثير فيها من الفوائد، أي يستخرج”[16].
إن التصدي لتفسير القرآن وتجديد أو تحرير الخطاب الديني يستلزم العودة إلى مصدر متلقي القرآن؛ أي الرسول (ص)، ثم لمفسريها، أي مفسّر يعتمد على الحوار القرآني والنهج النبوي، الذي ليس فيه إكراه أو جبر، فضلًا عن تكفير أو قتل، والثورة في القرآن تعني التغيير دون اللجوء لأي عنف، فليس هناك تجديد أو تحرير لخطاب الأمة الديني، بل تثوير للقرآن للتنقيب عن علومه، كما ينقب عن المعادن المخبوءة في باطن الأرض، وتثوير القرآن يكون بالعقل المضيء بورع النبوة، وبإيمان الروح حتى لا يتغلب العقل على الروح، أو الروح على العقل، ولا يكون ذلك إلا لمن رسخ في العلم، والذين قال الله تعالى فيهم: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾[17]، فليس كل من قرأ القرآن أدرك كل معانيه حتى في عصره (ص)، فقد جاء في الآية الكريمة: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً﴾[18]؛ أي إنه ليس كل إنسان مؤهل لتفسير القرآن الكريم، حتى من الصحابة أنفسهم، مع التأكيد على أن القرآن نفسه ترك للمؤمنين آيات كثيرة واضحة لتقوية الإيمان وتعضيد الاعتقاد، فمثلًا سورة الإخلاص ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾[19]، يفهمها العامّي ويدرك بتلقائية وحدانية الله وصمديته، دون شروح أو تفاسير، ويفهمها العالم والمفكر والفيلسوف كل حسب إدراكه وثقافته وإمكاناته الفكرية، فالأمر يتعلق بإرساء التوحيد والعدل.
لقد حدث ابتعاد عن القرآن الكريم تدريجيًّا حتى قال فيهم الشيخ محمد الغزالي: “هجر المسلمون القرآن إلى الأحاديث، ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة (الأمراء)، ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين، ثم هجروا المقلدين وتزمتهم إلى الجهّال وتخبطهم”[20]؛ وهناك من يريد تجديد الخطاب الديني، وهو لم يكلف نفسه النظر في أهل الذكر الذين طلب الله منا أن نسألهم؛ علمًا بأن أهل الذكر هم الذين يستطيعون الاستنباط.
ولقد عطّل هذا المسلك إعمال القرآن وروحه المبدعة وانطلاقاته الثورية والتحررية[21]، وتم غلق باب الاجتهاد كلية منذ قرون عديدة، فخمدت أي روح ثورية لتجديد خطاب الأمة، وصار الحديث عن تجديد الخطاب الديني المعاد عبارة عن حرث في البحر، لأن كل من يريد هذا التجديد – مع حسن نوايا بعضهم – يعود لنفس الفكر الهاجر للقرآن والمفرغ له من ثوريته.
وعندما يفكر الإنسان مليًّا فيما فعله المفسرون وما عكفوا عليه القرون الطوال، فإن الحيرة تتملكه كيف هان عليهم القرآن حتى يقحموا النقول الركيكة والأقوال السقيمة والمزاعم المسفهة، وكيف لم تتوقف أيديهم وهى تُعمل سكين النسخ بترًا وتقطيعًا، فكيف يتفق ذلك مع ما روي عن هؤلاء المفسرين من تقوى وإخلاص، فإن لم يكن تحرك في نفوسهم شيء أو حاك في قلوبهم، فإن هذا يعتبر دليلًا على قوة روح العصر الذي عاشوا فيه، بحيث يمكن القول: إن هؤلاء المفسرين الأسلاف ارتكبوا أخطاء في حق القرآن وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وقدّموا شواهد لأعداء القرآن وهم يحسبون أنهم يدافعون عن القرآن[22].
لذلك قال الشيخ المجتهد المجدد الإمام الأكبر للجامع الأزهر محمود شلتوت: “وكثيرًا ما تفسر الآية على مقتضى القواعد الأصولية التي استخلصها أرباب المذاهب من الفروع الفقهية واتخذوها أصولًا، تحاكموا إليها في فهم القرآن والسنة واستنباط الأحكام، ولم يقف ذلك عند التشريع وآيات الأحكام، بل تعدّى إلى العقائد وآراء الفرق، وكما يقولون: هذه الآية لا تتفق ومذهب الحنفية وتأويلها كذا وكذا، وكما يقولون هذه الآية أو تلك الآيات – وربما نيفت على السبعين – لا تتفق ومشروعية القتال، فهي منسوخة”[23]، وهكذا صار القرآن فرعًا بعد أن كان أصلًا، وتابعًا بعد أن كان متبوعًا، وموزونًا بغيره بعد أن كان ميزانًا، يقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ﴾[24]، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته الصحيحة، ولكن هؤلاء عكسوا القضية وقلبوا التشريع وردوا كتاب الله وسنة رسوله إلى ما لهم من آراء ومن مذاهب[25].
وقد وصف الإمام علي بن أبي طالب(ع) القرآن بأنه “كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، لا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله”[26]، فالإمام كان يشرح للأمة كيف يمكن قراءة القرآن وفهم معانيه ودلائله، بحيث لا يسند حديث إلى رسول الله (ص) يختلف أو يتعارض مع آيات القرآن، وشرح القرآن بالقرآن فهو ينطق بعضه بعضًا ويفسر بعضه بعضًا.
دعوة المحبة عند المسيح
لا يغيب الحوار عن الإنجيل، فهو أيضًا كتاب حوار، ولكن اشتهرت دعوة المسيح (ع) بأنها دعوة محبة، يقوم بها ابن الإنسان لأخيه الإنسان، وتوجد نصوص متعددة يحضّ فيها المسيح حوارييه وتلامذته على المحبة، نختار منها بعض تلك الوصايا:
“وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ”[27]، و”اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ، كُونُوا كَارِهِينَ الشَّرَّ، مُلْتَصِقِينَ بِالْخَيْرِ، وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ”[28].
وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الأَخَوِيَّةُ فَلاَ حَاجَةَ لَكُمْ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنْهَا، لأَنَّكُمْ أَنْفُسَكُمْ مُتَعَلِّمُونَ مِنَ اللهِ أَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا[29]. و”مَنْ يُحِبُّ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي النُّورِ وَلَيْسَ فِيهِ عَثْرَة”[30]. و”طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ”[31].
“أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ، وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّة”[32]، و”يَا أَوْلاَدِي، لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِ”[33]، و”أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضًا أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا”[34]. و”فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا”[35].
مثل تلك الدعوات اليسوعية، لا نملك إلا أن نخشع لها، على المستويات الروحية والإيمانية والإنسانية، وفي المقابل لا ننسى أن الكثيرين المنتمين للمسيحية، خاصة من الغرب الأوروبي استخدموا دين المسيح للحروب والاستعمار ونهب الثروات وتشويه الأديان، وباسم الصليب شُنّت حروب بشعة دامت مائتي عام بين الغرب الأوروبي والشرق الإسلامي، كما حدثت حروب أهلية دينية بين مذاهب المسيحية المختلفة، خاصة بين الكاثوليك والبروتستانت، ولا نملك إزاء كل ذلك إلا أن نطلب من الأشقاء المسيحيين، خاصة الأوروبيين والغرب الأمريكي بصفة عامة، أيضًا نقد ذاتهم، والعمل على إيجاد أرضية مشتركة بين الإسلام والغرب، وهو ما نحاول أن نكتب فيه وعنه في المحور التالي.
المحور الثاني
الصدام والتواصل بين المسلمين والغرب
منذ فترة الفتوحات الإسلامية الأولى، والعلاقات بين الإسلام والغرب يشوبها نوع من الالتباس والغموض والفهم الخاطئ، حيث ظل الإسلام في الغرب، هو ذلك الآخر البربري الغازي والحاقد والمحارب[36]…
والحقيقة أن الصراع بين الغرب الأوروبي والشرق الإسلامي، لم يكن وليد الفتوحات الإسلامية، لأنه بدأ منذ فجر الدعوة الإسلامية، وفي عصر النبي محمد (ص)، عندما تجمع الروم ومعهم عرب الشام من الذين يدينوا بالولاء للروم، فقتلوا رسول النبي لملك الغساسنة، فكانت الحرب، وحاول الروم ومن معهم غزو الجزيرة العربية للقضاء على الدين الجديد، فتصدى لهم جيش إسلامي قليل العدد في معركة مؤتة عام 8 هـ، الموافق 629 م، وكان هدف الروم إسقاط الدولة النبوية في مهدها، ومنذ معركة مؤتة والصراع قائم بين الغرب والإسلام، خاصة أن المسلمين قضوا على دولة الفرس الشرقية للأبد، وطردوا الروم من الشام وشمال أفريقيا ودخلوا الأندلس الأوروبي، ثم فتحوا القسطنطينية على يد الدولة العثمانية عام 1453 م، ومن قبلها اصطدم الغرب الأوروبي مع المسلمين في الحروب المعروفة بالحروب الصليبية، التي دامت قرنين من الزمان، ولم تتوقف الحملات الأوروبية بعدها، حيث قامت باحتلال الدول الإسلامية منذ القرن السابع عشر، وحتى القرن العشرين.
كل ذلك جعل الصدام حتميًّا بين الغرب الأوروبي والشرق الإسلامي، والواضح أن المسلمين لم يبدأوا الصدام، ولكنه الغرب الذي بدأ، ولم يتوقف، ولذلك نجد عدة دراسات استشراقية، استهدفت منذ عدة عصور وإلى الآن الإسلام، وتوخّت تشويه صورته في الغرب والعالم، إلى الحد الذي جعل البعض يعتبر أن المسلمين في حالة حرب دائمة، وبالتالي يقولون مثلًا: “إنه لا يصلح مع المسلمين بتاتًا حوار الحضارات، ووصفوا المسلمين بأبناء الله، ولكنهم الغارقون في مختلف أشكال الانحراف، الذين لا همّ لهم سوى أداء الصلوات والتكاثر مثل الفئران، والذين لا يستحقون سوى الضرب”، كما قالت الكاتبة الصحفية الإيطالية أوريانا فلاتشي في كتابها “الغضب والكبرياء”، الذي حطّم رقمًا قياسيًّا في حجم المبيعات داخل مختلف البلدان الأوروبية، وقد وصفت النبي محمد (ص) بالإرهابي، وبأنه كان رجلًا عنيفًا ويدعو إلى الحرب[37]، بل إن وزير العدل الأمريكي “جون أشكروفت” صرح بأن: “الإسلام دين يطلب فيه الله منك أن ترسل ابنك لكي يموت من أجله، والمسيحية إيمان يرسل الله فيه ابنه لكي يموت من أجلك”[38]. وقد ارتبط سوء فهم الغرب للإسلام من خلال عدم التمييز، بين ما هو من صلب الدين الإسلامي، وما هو ناتج عن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي هي الممارسة البشرية، ويظهر هذا الفهم الضيق والمنحرف للإسلام من خلال وضع الإسلام ضمن إطار ما يعرف بالاستبداد الشرقي، وتعميم التشدد والقسوة والتعصب والإرهاب واللاعقلانية والتخلف ونبذ الديمقراطية وحكم القانون المدني والمساواة بين الرجل والمرأة على الثقافة الإسلامية برمتها. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، برز تيار فكري في الغرب يجعل من الإسلام عدوًّا للغرب بديلًا عن الشيوعية، وفي نفس السياق تم تداول عدة مصطلحات ثم ربطها بالإسلام من قبيل “التعصب الإسلامي”، “التطرف الإسلامي”، “الإرهاب الإسلامي”، “الخطر الإسلامي”، “الخطر الأخضر”، وقد أسهمت في ترويج هذه المصطلحات الدعاية الإعلامية المعادية والدراسات الاستشراقية، هذا زيادة على الدعاية الصهيونية، التي نجحت في رسم صورة مشوهة وقاتمة عن الإسلام والمسلمين والعرب في الغرب، من خلال تزوير الحقائق التاريخية، في ظل فراغ أفرزه عدم التواجد الإعلامي والثقافي العربي والإسلامي الفاعل هناك، ويبدو أن بعض الأطراف في الغرب تخشى بشكل جدّي “الخطر الإسلامي” بالنظر إلى مرونة الإسلام وعالمية هذا الأخير، الذي جاء للعالمين على خلاف المسيحية واليهودية[39].
وفي هذا الشأن نرى بأن الخطر الإسلامي، هو ذاته خرافة، والحديث عن نزاع مستمر عبر تاريخي بين العالم الإسلامي والعالم الغربي هراء، فمن الجانب الإسلامي من الحماقة أن نرى البلدان الإسلامية، وكأنها بمعنى ما تهدد الغرب.
من المؤكد أن تجاهل الغرب بصفة عامة، والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة لتطلعات الرأي العام في البلدان الإسلامية، أسهم بدرجة كبيرة في تصاعد العداء نحو الغرب داخل الأوساط الشعبية في العالمين العربي والإسلامي، وعزّز من تنامي خطاب الهوية الثقافية، الذي يزيد من توتر العلاقة بين الغرب والإسلام.
ولقد شكّلت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، ثم نمو التنظيمات التكفيرية الحالية، مثل “تنظيم القاعدة”، و”داعش”، و”بوكو حرام” وغيرها منعطفات تاريخية، أصبحت تنذر بإمكانية قيام مواجهة وصدام حقيقيين بينهما، بناءً على خلفيات سياسية وعسكرية بغلاف ثقافي وحضاري، وخاصة من جانب الغرب، فقد أعادت هذه الأحداث علاقة الغرب بالإسلام إلى الواجهة من جديد، وأنعشت نظرية “صامويل هانتنغتون” المرتبطة بصدام الحضارات، وأحبطت إلى حد ما كل المحاولات والجهود، التي توخت التسامح والتعايش والحوار بين مختلف الحضارات البشرية، ففي ظل هذه الأحداث، أصبح مألوفًا وعاديًّا إصدار حكم متعجل بالإدانة على جميع العرب والمسلمين، وأصبحت الجاليات العربية والإسلامية في الغرب موضع شك وغموض، وتُخصّ بإجراءات أمنية مستفزة ومتميزة، وفي هذه الظروف تشكّلت صورة سوداء عن الإسلام في الغرب بناء على تصرفات استثنائية، حيث تجاوزت الاتهامات الخاصة بعمليات إرهابية، القائمون بها يوجهونها إلى كل المسلمين والعرب، بل إلى الإسلام ذاته، إلى الحد الذي دفع رئيس الوزراء الإيطالي “سيلفيو بيرلوسكوني” إلى التصريح بتفوق الغرب وتخلف الحضارة الإسلامية، وحديث “جورج بوش الابن” عن إحياء الحروب الصليبية[40]…
حقيقة أن أصحاب القرار في الغرب عامة، والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة يصرون على التمييز بين الإسلام كدين والإرهاب كسلوك، ويجهرون باحترامهم للإسلام كدين ويؤكدون أن حربهم ليست حربًا ضد الإسلام، وهو ما تفرضه المجاملات الدبلوماسية الرسمية، خاصة وأن العرب والمسلمين أضحوا رقمًا ملحوظًا في المعادلة الديموغرافية والسياسية الغربية، من حيث وجود حوالي 7 ملايين عربي ومسلم في الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر من 10 ملايين منهم في أوروبا الغربية، وهو ما يجعل الإسلام في الغرب، كما يرى بعض الأكاديميين والساسة الغربيين، لم يعد ذلك الآخر، لأنه يتواجد داخل الجسم الغربي ويعيش بين أفراده، ولكن المشكلة، هو أن الغرب يشهد بروز اتجاهات داخل الحقل السياسي والفكري، تحمل قدرًا كبيرًا من العداء العلني للإسلام، ربما قد تجد لها طريقًا نحو أصحاب القرار السياسي، لتبنيها سياسيًّا وبشكل علني.
إن العولمة التي يتحكم في دواليبها الغرب القوي والمتفوق، هي بصدد نشر ثقافة أحادية تسهم في تغريب الشعوب غير الغربية واستفزازها من خلال الترويج لمفاهيم غربية وتكريسها دوليًّا، كمفهوم الديمقراطية، وكذلك مفهوم الإرهاب، الذي يسعى لتكريس تجريم أي عمل عنيف، ولو كان في إطار المقاومة، مع التركيز على إرهاب الأفراد وغض النظر عن إرهاب الدولة[41].
إن هذه العولمة في أبعادها وخلفياتها، هي بمثابة سلوك ثقافي اقتصادي وسياسي صراعي غربي، يحرّض على الصراع مع باقي الحضارات الأخرى، من خلال إيقاظ الشعور القومي، خاصة وأنها تستهدف تهميش الثقافات البشرية الأخرى، أو إعادة صياغتها بمحددات جديدة، وكذا الترويج لثقافة واحدة دون اعتبار لثقافة الآخر، ومن ثم فهي جزء لا يتجزأ من آليات هذا الصدام والصراع والتي تجاهلها “هانتنغتون” في أطروحته.
كما أن القانون الدولي كضابط مفترض للعلاقات الدولية يعكس في الواقع مصالح الغرب ورؤيته، سواء بالنظر لأصوله ومصادره، أو عند إعماله وتطبيقه، فمصادر هذا القانون في ارتباطها بالجانب الشكلي، ووفقًا لما اعتمدته المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية تتحدد في البنود التالية[42]:
أ – الاتفاقات الدولية العامة والخاصة، هي التي تضع قواعد معترفًا بها صراحة، من جانب الدول المتنازعة.
ب – العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.
ج- مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة.
د- أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم.
ومعلوم أن هذه المصادر وحسب تصنيفها الوارد في المادة السابق ذكرها تعكس في الواقع موازين القوى الغربية المهيمنة إبان النصف الأول من القرن العشرين، ذلك أن معظم دول العالم لم تساهم في بلورتها بحكم خضوعها للهيمنة الاستعمارية في تلك الفترة.
وعلى مستوى تطبيق هذا القانون الدولي، فإن ذلك غالبًا ما يعكس إرادة الغرب القوي والمتحكم في دواليب المؤسسات الدولية السياسية والعسكرية والاقتصادية، المسؤولة عن صياغة قرارات استراتيجية دولية في مجالاتها.
فالاتفاقيات الدولية، وإن كانت تنطوي على أهمية كبرى باعتبارها أداة لربط العلاقات وتشجيع التعاون الدوليين، تأتي في غالبيتها غير متكافئة، وتعكس مصالح الأطراف القوية، والمتتبع لما يجري في الساحة الدولية من أحداث منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، يلمس بوضوح حجم التدخلات الزجرية بشتى أشكالها والتي استهدفت الدول الإسلامية والعربية في كل من العراق، السودان، ليبيا أفغانستان الصومال، فلسطين، وكله باسم هذا القانون، وعمومًا يوجد في الغرب عدة خطابات حضارية، فهناك من جهة خطاب غير رسمي تتزعمه بعض القنوات الإعلامية، وبعض الباحثين والأكاديميين، وبعض السياسيين، موجّه نحو الرأي العام الغربي، يتوخى رسم صورة مشوهة للإسلام والمسلمين، وخطاب آخر يتبنّى الحوار مع الإسلام ويميز فيه أصحابه بين الإسلام كدين سماوي، والإسلام كممارسة وتجربة بشرية تحتمل النقاش، وخطاب آخر رسمي بوجهين: الأول علني، يتوخى التسامح والتعايش مع الإسلام واحترام الحضارات الأخرى، والثاني خفي وواقعي، يتوخى محاصرة الإسلام والتضييق على المسلمين إلى مستوى ممارسة مختلف الضغوطات على بعض الدول الإسلامية، لتعديل سياساتها التعليمية والتربوية بذريعة تفريخها للإرهاب من خلال تكريس ثقافة الجهاد.
ويمكن القول: إن صراع الغرب مع الإسلام هو واقع وجاري في الميدان، على مختلف الواجهات من خلال السياسات التعسفية التي تستهدف محاصرة الإسلام والتضييق على المسلمين في كل مكان، وهي السياسات التي تغطيها التصريحات الرسمية الداعية إلى الحوار والتعايش، وهي سياسات تنطوي على خلفيات اقتصادية وسياسية وعسكرية، فالنزوع نحو التفوق والهيمنة الحضارية للغرب، والتخويف من البديل الحضاري والسياسي المرتقب للعالم الإسلامي، دفع بعدد كبير من النخبة السياسية المحافظة إلى تبني منطق الصدام الحضاري، ويظهر أن بروز نظريات من قبيل “نهاية التاريخ”، و”صدام الحضارات” في الغرب ما هي إلا مرجعيات واهية لتبرير هيمنته وتأكيد تفوقه، لأن الغرب تعددي في خطاباته وممارساته اتجاه الإسلام، وفي المجتمع الإسلامي هناك نفس الشيء، فهناك خطابات تتبنّى الحوار والتواصل، وهناك خطابات أخرى تتبنى المواجهة والتصدي في حين نجد اتجاهات تؤمن بضرورة الحذر والتحفظ من الآخر المجهول، ولكن علينا أيضًا أن نؤكد على أن شطرًا كبيرًا من المسؤولية تقع على العالم الإسلامي بأسره، دولًا وجماعات، فحتى اليوم، لا يوجد خطاب ديني إصلاحي متجدد، كالذي ذكرناه في المحور الأول، ولا يوجد حد أدنى من التوافق العربي أو الإسلامي، وهناك جهود متواصلة تبذل منذ سنوات للتقريب بين الثقافات والحضارات والديانات، ولبناء علاقات الاحترام المتبادل بينها إعلاء لمصالح الشعوب ومن أجل إزالة أي مواقف تحرض على الكراهية على أساس ديني أو عنصري أو قومي، أو تزكّي الصراعات التي تهدد مصالح الشعوب جميعًا، إلا أن هذه الجهود تواجه أحيانًا بمواقف وأحداث سلبية فتعود بها إلى نقطة الصفر، وهو ما يمثل تهديدًا فعليًّا لعلاقات الاحترام المتبادل بين الثقافات والأديان المختلفة. يقول المفكّر والسياسي الدانمركي أوله فولورز: “هناك أغلبية في أوروبا، وأنا منها، تؤيد الاتصال والحوار مع الأجانب، لأنها مفيدة ونرى أن فتح حوار مع الآخر، هو أفضل طريقة للاتصال والتفاهم معه، وقد تعلمنا نحن في أوروبا ومن خلال تاريخ علاقتنا التي تمتد لقرون طويلة مع العرب والمسلمين، أن الحوار يؤدي إلى التفاعل والتطور والرقي العالمي، ونرى اليوم توجهًا لفتح حوار هادئ بين الجميع في عالم اليوم”[43]، ودعا عبد الله أحمد بدوي، رئيس الوزراء الماليزي الأسبق، الرئيس الدوري الأسبق لمنظمة التعاون الإسلامي، العالم الإسلامي والغرب إلى تغيير المفاهيم السلبية عن الجانبين، وتشجيع المزيد من الجماعات الساعية إلى مد جسور التقارب بين الحضارتين، معتبرًا أن المفاهيم السلبية بين بعض الجماعات من الحضارتين، قد تأصلت وانتشرت على نطاق واسع، حاثًّا على تغيير الوضع بالحوار، وليس بمجرد الكلام، وطالب من قبل وسائل الإعلام الرئيسية بأن تولي مزيدًا من الاهتمام لأصوات الساعين إلى مد جسور التقارب بين الحضارتين، والذين يعملون اتجاه تحول حقيقي في العلاقات، مما ينهي عداء وخصومة الماضي والحاضر.
المحور الثالث
الحوار وأشكال التواصل
إن المناخ العام قد يوحي بعدم وجود قواسم مشتركة بين المسلمين والغرب، المسلمون بمسؤوليتهم عن أنفسهم وتفرقهم وتشتتهم، والغرب بنشر دعوات العنصرية السياسية، فتتحول لعنصرية دينية، ولكن لا يمكن اليأس، حيث يوجد مفكرون عقلاء ورجال دين هنا وهناك، يمكن الاعتماد عليهم، من أجل تلاقي الحضارات بدلًا من صراعها، وبداية التاريخ بدلًا من نهايته، ولا بدّ من وجود الثقة في النفس، ثم الثقة في الغير، ليكون الحوار مثمرًا وتكون دعوة المحبة عالمية النشأة والمصير، مع العلم أن التواصل لم ينقطع، فقد انتقلت مفردات الحضارة الإسلامية إلى أوروبا منذ عصر النهضة، من خلال مناطق الصراع في الشام ومصر أثناء الحروب الصليبية، ومن خلال دولة الأندلس الإسلامية، فالصراع لم يمنع من التواصل.
إن الأصل في عمق وطبيعة الحضارات هو التحاور والتشابك والتواصل، ولذلك فإن الصراع حتى، وإن اتخذ مظهرًا ثقافيًّا، غالبًا ما تكون وراءه دوافع سياسية واقتصادية أكثر منها ثقافية، وهي الخلفيات، التي طالما عكّرت الحوار بين الحضارات، ولعل الأحادية الثقافية التي تروج لها بعض الجهات داخل المجتمع الغربي، وتلقى تجاوبًا في الأوساط الشعبية والرسمية، لن تصمد أمام التاريخ والحضارات، ويمكن إجمال أهم الإجراءات الكفيلة بتصحيح صورة الإسلام والمسلمين في الغرب فيما يلي[44]:
1 – التعريف بقيم التسامح للحضارة الإسلامية، والتي تتمحور حول الحوار والتواصل، لا الحروب والمواجهات، من خلال السبل المتاحة من منابر إعلامية مكتوبة ومرئية ومسموعة، وإصدار الكتب المترجمة إلى اللغات الغربية، والترويج للكتب الغربية المنصفة للإسلام، وإجراء إعفاءات جمركية للمنتجات الثقافية والفكرية العربية، التي تخدم هذه الأهداف عند تصديرها للخارج، واستغلال شبكة المعلومات الدولية (الإنترنيت)، والتي تستثمرها إسرائيل بشكل كبير ومتقن لتشويه صورة العرب والمسلمين[45]، خصوصًا وأن إشاعة المعرفة وإتاحة المعلومة تزيدان من فاعلية المجتمع وحيويته ومنسوب ديمقراطيته، ومناعته ضد أساليب الاستبداد والغزو الثقافي[46].
2 – مراجعة الخطابات السياسية والثقافية العربية والإسلامية المنغلقة والمتشددة، التي تولد سوء الظن بين أبناء الحضارات المختلفة، وتوخي خطاب مرن في مواجهة الغرب والتعلم من إنجازاته وثقافته، أسوة بما أنجزته بعض الدول مثل: كوريا الجنوبية، سنغافورة، اليابان، ماليزيا، الصين، تايوان، أندونيسيا، بدلًا من تبنّي خطابات الانعزال خوفًا من الغزو الثقافي للآخر، خاصة وأن الإسلام ذاته، يأمر بالتعارف والتواصل المستمر مع كافة الشعوب، علمًا أن الاتجاهات التي تمنع من الإطلاع على ثقافة الغير، تمنح الفرص لبعض الأصوات بالغرب لوصم الإسلام بالانغلاق وعدم التسامح…
3 – الاعتراف بأن تشجيع خطاب التطرف من قبل البعض، هو أمر ضار بالمسلمين، قبل أن يكون ضارًّا بالغير.
4 – ضرورة تحسين، وإصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالدول الإسلامية، التي غالبًا ما تكون المسؤول الأول والرئيسي عن ظهور الخطابات المتشددة والمتطرفة، وعن تبني أفكار المتطرفين.
5 – ضرورة الإيمان بمبدأ المساواة بين كافة الحضارات الإنسانية.
6 – العمل على إبراز نقاط الالتقاء مع الثقافات الأخرى، بدلًا من التركيز على محاور الخلاف، وفتح حوار في هذا الشأن مع النخبة المثقفة في الغرب.
7 – توحيد الخطاب الحضاري الإسلامي اتجاه الغرب، بدل تعدد وتباين الخطابات التي تدعي إحاطتها بالثقافة الإسلامية، والتي تخلق حالة من الالتباس في أذهان الغربيين.
8 – يجب على الجاليات العربية والمسلمة المتواجدة في الغرب، أن تنظم نفسها بالشكل، الذي يجعل منها قوة مؤثرة في الساحة الغربية، قادرة على فرض احترام الغرب للحضارة الإسلامية من خلال تقديمها لسلوك حضاري راق.
هذه بعض التوصيات، القائمة على حقيقة التواصل البشري، وأن الأصل هو السلام، والسلام هو روح دعوات الأنبياء، مع العلم أن الحوار بين قوى متكافئة، فبدون القوة العلمية والاقتصادية، يفرض القوي حواره وشروطه على الضعيف، وهو ما نرجوه للمسلمين، وندعو به في الخاتمة.
[1] علي أبو الخير، بين النور والنار، القاهرة، دار المعبر الثقافي، 2017، الصفحة 6.
[2] سورة البقرة، الآية 30.
[3] سورة البقرة، الآية 30.
[4] سورة البقرة، الآية 32.
[5] سورة الأعراف، الآية 16.
[6] سورة الحجر، الآية 42.
[7] سورة آل عمران، الآية 66.
[8] سورة سبأ، الآية 24.
[9]السيد محمد حسين فضل الله، مستقبل الحوار الإسلامي – الإسلامي، كتاب الكلمة، بيروت، منتدى الكلمة، 2004، الصفحة 12.
[10] فهمي هويدى، حق الناس هو حق الله، مجلة العربي الكويتية، العدد 297، أغسطس 1983.
[11] سورة العلق، الآيات 1- 5.
[12] سورة القلم، الآية 1.
[13] سورة الحجر، الآية 9.
[14] سورة الروم، الآية 9.
[15] جمال البنا، تثوير القرآن، القاهرة، دار الفكر الإسلامي، 2004، الصفحة 3.
[16] المصدر نفسه، الصفحة 4.
[17] سورة النساء، الآية 83.
[18] سورة محمد، الآية 16.
[19] سورة الإخلاص، الآيات 1- 4.
[20] الشيخ محمد الغزالي، فقه السيرة، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1982، الصفحة 33.
[21] جمال البنا، تثوير القرآن، مصدر سابق، الصفحة 73.
[22] جمال البنا، تثوير القرآن، مصدر سابق، الصفحة 63.
[23] محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة، دار الفكر، 1965، الصفحة 48.
[24] سورة النساء، الآية 59.
[25] تثوير القرآن، مصدر سابق، الصفحة 64.
[26] الإمام على بن أبي طالب، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، بيروت، دار الفكر، 1993، الصفحة 17.
[27] إنجيل يوحنا 13:34- 35.
[28] رسالة رومية 12:9- 10.
[29] رسالة تسالونيكي 4:9.
[30] إنجيل يوحنا 2:10.
[31] إنجيل بطرس 1:22.
[32] إنجيل يوحنا 4:7- 8.
[33] إنجيل يوحنا 3:18.
[34] إنجيل يوحنا 4:11.
[35] رسالة كولوسي 3:12- 13.
[36]إدريس لكريني، الإسلام والغرب: بين نظريات الصدام وواقع الفهم الملتبس، موقع الحوار المتمدن،http://www.ahewar.org/debat/، العدد 1576، 9 يونيو/حزيران2006.
[37] إدريس لكريتي، المصدر السابق، الإسلام والغرب وقد جاء ذلك الحديث على لسان القس اليميني الأمريكي جيري فالويل في تصريح له لإحدى القنوات التلفزيونية، نص التصريح في جريدة القدس العربي، العدد 4165، بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2002، الصفحة 2. نقلًا عن موقع الحوار المتمدن، 9 يونيو/حزيران 2006.
[38] إدريس لكريني، الإسلام والغرب: بين نظريات الصدام وواقع الفهم الملتبس، مصدر سابق.
[39] جعفر شيخ إدريس، العولمة وصراع الحضارات، مجلة البيان، الشارقة- الإمارات العربية، المنتدى الإسلامي، العدد 170، يناير/كانون الثاني 2002، الصفحات31- 33.
[40] إدريس لكريني، الإسلام والغرب: بين نظريات الصدام وواقع الفهم الملتبس، مصدر سابق.
[41] إدريس لكريني، مكافحة الإرهاب الدولي بين تحديات المخاطر الجماعية وواقع المقاربات الانفرادية، مجلة المستقبل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 281، يوليو/تموز2002.
[42] مأخوذ من موقع محكمة العدل الدولية https://www.icj-cij.org/ar
[43] حوار مع أوله فولورز في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم 3 ديسمبر/كانون الأول 2004.
[44] إدريس لكريني، مكافحة الإرهاب الدولي بين تحديات المخاطر الجماعية وواقع المقاربات الانفرادية، مصدر سابق.
[45] ريتا عوض، صورة العرب والإسلام- كيف يعاد تشكيلها؟ مجلة شؤون عربية، القاهرة، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد 109، ربيع 2002، الصفحة 128.
[46] د.نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، عالم المعرفة، الكويت، الصفحة 56.
المقالات المرتبطة
العلمانيـة في الخطاب الإسلامي
ليس محددًا بدقة متى دخلت عبارة العلمانية إلى اللغة العربية، ولكن بدأ تداولها ما بعد عشرينات القرن العشرين بعدما كان
الفلسفة السياسية لولاية الفقيه 5 –
إنّ الفقهاء لا يتميزون عن الناس في خضوعهم لسياسات الحكومة المنتخبة وينحصر دورهم في استنباط الأحكام، وفي القضاء الصلحي بين الناس، والدعوة إلى الخير…
في فلسفة الحكم عند الإمام عليّ (ع)
يستشهد عليّ (ع) بالقرآن فيقول: “هل أنزل الله سبحانه دينًا ناقصًا، أم أنزل سبحانه دينًا تامًّا فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ﴾ (الأنعام/38) . فهل الحكم لا شيء حتى يتجاهله الله تعالى؟