“ظاهرة الجهاد والشهادة المجتمعية”

“ظاهرة الجهاد والشهادة المجتمعية”

بسم الله الرحمن الرحمن

﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً[1]. ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ[2]. ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ[3]. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.[4] ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[5].

 

مقدمة

الجهاد والشهادة مفهومان حددهما الإسلام بمعانٍ دينية جديدة، وقيم إسلامية، وأرفدا المجتمع الإسلامي بثقافة أسست الركائز الأساسية للإصلاح والنهضة، هذا ما عبّر عنه الإمام الخميني منذ أكثر من ثلاث عقود “إن طريق إصلاح بلد ما يمر من إصلاح ثقافته”[6]. وهذا ما دفع الدول المستكبرة إلى محاربة هذين المفهومين بالمواجهة المباشرة بحرب ناعمة لإدراكها عمقهما المجتمعي في استنهاض الأمم.

لا نسعى في هذه المقالة إلى بحث تأصيلي لكلا المفهومين، فالمكتبة الإسلامية غنية بكتب أصّلت لهما عقيدةً وفقهًا، ما نسعى إليه هو الإضاءة على تلازم ظاهرتي الجهاد والشهادة كظاهرة مجتمعية نعيش تجلياتها في “طوفان الأقصى”، حيث دخل مرتكزي الجهاد والشهادة في العقيدة القتالية للمقاومة، وشكّلا الدافع المجتمعي للاستنهاض والصمود، و”إنه لجهاد نصر أو استشهاد”، هذا ما يدفعنا إلى مقاربة المرتكزات الدينية التي أصّلت لهذين المفهومين في مجتمع المقاومة، وصنعت قوة معنوية تواجه القوة الفولاذية “الإسرائيلية الأمريكية”، نلمس نواتجها الاجتماعية والسياسية التي ستحول مسار منطقة غرب أسيا باتجاه سياقات وتوجهات نهضوية كفيلة بإحياء أمة بكاملها.

فما هي أبرز مرتكزات الجهاد والشهادة في الإسلام ودورهما في استنهاض الأمة؟

الجهاد والشهادة

لغةً: الجهاد مصدره رباعي (فعال) يدل في أصله اللغوي على المشقة فوق الطاقة، حيث يقال: جهدت نفسي، وأجهدتها، بمعنى حملتها من المشاق ما يفوق ما اعتادت عليه. والشهادة لغةً تأخذ معنى البينة أو الدليل، فدماء الشهيد تبين شهادته أمام الناس يوم القيامة، وهي “من المفاهيم التي لا يوجد لها معنى إلا في الأديان الإلهية”[7].

 واصطلاحًا: لفظ “الجهاد” مصطلح إسلامي لم يرد في كلام عرب الجاهلية، كما لم يرد في لغات الناس قبل الإسلام، كمصطلح “القتال”، ومصطلح “الحرب”، ومصطلح “الحرب المقدّسة”، فكل هذه المصطلحات ونحوها تختلف عنه. فمصطلح “الجهاد” له دلالته الخاصة، وإيحاؤه المميز عن غيره من المصطلحات المشابهة، نستدل به من لفظ (الجهاد) في القرآن الكريم في أكثر من ثلاث مواقع: الجهاد بالقول في الدعوة إلى مجاهدة الكفار والمشركين بالقرآن، والجهاد بالقوة “الأنفس والمال” التي يقصد بها اليوم كل موارد القوة في الحسابات العسكرية من عتاد وغيره، والجهاد بالعمل الصالح.

 اختصر أمير المؤمنين(ع) استخدام مفهوم الجهاد في نهج البلاغة بعدما أفرد له الخطبة المعروفة، الذي أعطى فيها للجهاد مكانة خاصّة، ورفعه إلى أعلى مستوى من الأهمية والتّقدير، ومنحه أعظم الصّفات، حيث يقول (ع): “الْجِهَادُ عِزُّ الإسْلام”[8].

غير أن السيد الطباطبائي في الميزان قد فرّق بين العبد، الذي يجاهد في سبيل الله، وبين العبد الذي يجاهد في الله، فالمجاهد في الأول يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني، الذي يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، وكذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل، الذي يختصه بنفسه جلّت عظمته، فاستخدم مصطلح الشهادة للدلالة على هذا السبيل، الذي يختصه الله بنفسه.

 الجهاد والشهادة ظاهرة مجتمعية

يرى الإمام الخميني (قده) بأن الجهاد لا يتلازم بالضرورة مع الشهادة؛ لكنّه متلازمٌ حتمًا مع الفوز برتبة المجاهدين، والتقرّب إلى الله، فميدان الجهاد موجودٌ في كلّ مكان؛ فكما أنّه موجود في الدفاع العسكري عن البلد، كذلك هو موجودٌ في الدفاع السياسي عن البلد وعن كرامته، كذلك هو موجود في العمل على تقدّم البلد والأمّة، وهو الساحة التي تعملون بها أنتم، فكلّ هذه المجالات هي مجالات للنضال والمواجهة، وعلينا جميعًا أن نشارك في هذه المواجهة،‌ إنّ كلّ تحقيقٍ أو تقدّمٍ علميٍّ، أو تحركٍ سياسيٍّ صحيحٍ من قبلكم ضمن مجموعة تحرّكات الطلاب الجامعيّين أو خارج إطار تلك التحرّكات، يعدّ نوعًا من النضال والمواجهة”.[9]

تلازم الجهاد في سبيل الله أسس لتلازم مسير ومصار الجهاد والشهادة مجتمعيًّا ــ فالمجاهد في سبيل الله يسأله تعالى بأن يجعل خاتمة عمره الشهادة، والشهادة تصدق على من يجاهد ويقتل في سبيل الله ــ حتى اعتبر “الجهاد والشهادة من الأجزاء البارزة في راية الجمهورية الإسلامية التي عُرفت بها”[10]. فظهور هذه الراية شكّلت ظاهرة مجتمعية تختص بثقافة الإسلام المحمدي الأصيل، ودفعت الغرب لمحاربتها من خلال ضرب مفهومي”الجهاد والشهادة” في سياق حربه الناعمة، نستشهد هنا، بما ورد عن نائب وزير التعليم العالي في اليمن “د. علي شرف الدين”، حيث أكد على تغييب ثقافة الجهاد والشهادة في سبيل الله بقوة في الخطاب الرسمي منذ اندلاع ثورة (21 سبتمبر 2014) في المناهج التربوية التابعة لوزارة التربية والتعليم، وكذلك مقرّرات الجامعات التابعة لوزارة التعليم العالي، فهذه الثقافة كانت موجودة سابقًا في المقرّرات والمناهج الدراسية اليمنية، ولكن نتيجة لتدخلات السلطات الأمريكية خلال الأنظمة السابقة تم حذفها من المناهج بعد أن حذفت معها الآيات التي تتحدث عن جهاد المشركين، والكثير من المواضيع التي تتحدث عن طبيعة الصراع مع أهل الكتاب وخَاصَّة اليهود[11]. هذه المواجهة الثقافية تدخل ضمن تصنيفات الحرب الناعمة التي شنها الاستكبار العالمي على مجتمعاتنا لسلبهم المرتكزات المجتمعية الأساسية للنهضة والثورة.

مجتمع محور المقاومة

كثيرة هي الأصوات والكتابات التي انبرت بعد سلسلة الهزائم التي مني بها المشروع الأمريكي الصهيوني في منطقة غرب آسيا لفك “شيفرة” مجتمع المقاومة، ففي الحسابات السياسية واللوجستية نحن في خضم معركة طويلة الأمد يحتدم فيها الصراع غير المتكافئ عسكريًّا وأمنيًّا وتقنيًّا واقتصاديًّا… انهزمت فيه قوى الاستكبار الأمريكي الصهيوني في تحقيق أهداف مشاريعها الاستراتيجية الاستغلالية في منطقتنا من مشروع الشرق الأوسط الكبير، إلى الشرق الأوسط الجديد”.

وفي ظل الطوفان الذي تعيشه منطقتنا والتي يشنه علينا ما يمكن تسميته “تحالف الناتو” المساند للقوات “الإسرائيلية”، في ظل خضوع الحكومات العربية، في عدوان وحشي تجاوز كل معايير وقوانين المنظمات الحقوقية العالمية والأممية الإنسانية والمدنية في العدوان على “غزة” المحاصرة برًّا وجوًّا وبحرًا، على مرأى العالم في إبادة جماعية وتطهير عرقي لم يشهد له سابقة في التاريخ المعاصر، واتسع ليشمل “الضفة”، و”جنوب لبنان”، وبعدما شهد العالم هذا الصمود الأسطوري لمجتمع محور المقاومة في كل الجبهات، التي تكاملت لتحقيق هدف استراتيجي هو “دعم بقاء المقاومة”، نستدل به على فك شيفرة هذا المجتمع للعدو والصديق.

“إن ممارسات الصهاينة أنزلت هذه الكارثة على رؤوسهم، فعندما يتعدّى الظلم والإجرام حدوده، وتبلغ الوحشيّة منتهاها، لا بدّ من انتظار الطوفان… إنّ مبادرة الفلسطينيّين الشجاعة والمضحّية في الوقت عينه كانت ردًّا على جرائم العدوّ الغاصب التي تواصلت أعوامًا واشتدّت خلال الأشهر الأخيرة… لم يسبق للشعوب والبلدان المسلمة أن واجهت عدوًّا بهذا الشر والخبث والقسوة والتعطش للدماء… لم يتعرّض أي شعب من الشعوب المسلمة للضغط والحصار والضيق مثل الشعب الفلسطيني. لم نجد ذلك في العالم اليوم، ولا في هذه الفترة الآن أمام أعيننا، لم تدعم الحكومات الغربية خاصة أمريكا وبريطانيا أيّ حكومة بقدر ما دعموا هذه الحكومة الصهيونية المزيفة المتعطشة للدماء: بداية البريطانيين، ثم الأمريكيين وإلى جانبهم حكومات متنوعة، وكان سلوك هذا الكيان على هذا النحو: لم يرحم النساء والرجال، ولم يرحم الأطفال والشيوخ الفلسطينيين، وهتك حرمة المسجد الأقصى، وأفلت المستوطنين مثل الكلاب المسعورة ليتعرضوا للشعب الفلسطيني، وسحق المصلين ركلًا تحت الأرجل… الشعب الفلسطيني ليس شعب اليوم والأمس؛ إنه شعب متجذّر لآلاف السنين… أمام هذا الظلم كله؟ من الواضح طبعًا أنه سيفجّر الطوفان… أيّها المستبدّون الصهاينة، أنتم أنزلتم هذا البلاء فوق رؤوسكم. لا سبيل أمام أيّ شعب غير ردّ الفعل الغيور والشجاع هذا مقابل مثل هذا العداء”[12].

يوصِف الإمام الخامنئي بإيجاز الدوافع المجتمعية لطوفان الأقصى، كما يؤشر إلى موارد القوة المجتمعية لمحور المقاومة بجزئيها المادي والعسكري، محلّي التطوير بالرغم من بساطته قياسًا بالآلة العسكرية الصهيونية، في الرد على الظلم الصهيوني بما استطاع من قوة، التي تُعد من الحتميات الإلهية لإرهاب العدو والنصر عليهم، إلى جانب الموارد المعنوية العقيدية تحديدًا، الذي أفضى إلى الصمود الأسطوري لمجتمع المقاومة، فقوة الردع الصهيونية التي تركزت بشكل أساسي في “الجدار الفولاذي الحديدي”، الذي عملت حكومة العدو على بنائه للعزل ومنع الالتحام المباشر بين المقاومين والمستوطنين، وهو جدار مجهز بالتكنولوجيا الذكية من الدرجة الأولى، ومقوّى بأجهزة استشعار للكشف عن الأنفاق، (طوله 65 كلم على طول حدود غزة، ويمتد حتى البحر الأحمر، فوق الأرض وتحتها عشرة أمتار تقريبًا)، وبنجاح المقاومين في اختراق الجدار الذكي سقط مفهوم “الجدار الحديدي”، وفشلت إجراءات الحواجز الجدارية التي بنى الكيان دعائم الردع عليها، أي سقطت موارد القوة المادية للعدو التي سقطت معها استراتيجية ردع حماية المستوطنين، وانهار الاستقرار الأمني للمستوطنات، كما سقط معه بقية الجدران الموزعة على الحدود مع مصر والأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية، وانكشف الكيان أمنيًّا في عزله عن المحيط، وهذا الجدار ما كان بالإمكان اختراقه إلّا بمقومات معنوية بقيم الشجاعة والعزة والكرامة، إلى جانب ثقافة الشهادة التي تعني ثقافة السعي والتضحية وتجاوز الذات من أجل الأهداف بعيدة الأمد المشتركة بين جميع الناس[13]. وبالفعل “شهداؤنا أحيوا وسط ظلمات المادية في هذا العصر ثقافة الشهادة مرّة أخرى … فإذا استُلهم هذا الدرس العظيم بشكل صحيح، فإنّ كلّ أسلحة الغطرسة والمال ستفشل وسوف لن تنجح أدوات الهيمنة العالميّة بالسيطرة على التجمّعات البشريّة”[14].

ويشدّد الإمام الخامنئي حديثه عن “الهزيمة”، و”استحالة ترميمها”، فيقول: “إنّ هذا الزلزال المدمّر استطاع تدمير بعض الأُسس الرئيسيّة لحكم الكيان الغاصب، وليس من السهل أن يُعاد بناء تلك الأسس، من المستبعد أن يتمكن الكيان الغاصب رغم الضجيج، الذي يفعله كله، والدعم كافة الذي يتلقاه من الغربيين اليوم من ترميم تلك الأسس، ويختم بأن الكيان الصهيوني لم يعد الكيان الصهيوني السابق بعد السبت “السابع من أكتوبر”، والضربة التي تلقّاها غير قابلة للتعويض بسهولة”[15]. تأكيدًا منه على الرهبة في قلب العدو كأحد النواتج الحتمية للسنن القرآنية، بالإعداد العسكري والإعداد الثقافي العقيدي، فـ”ثقافة الجهاد والشهادة” المجتمعية هذه، تمثل موردًا أساسيًّا للقوة المعنوية التي يفتقدها المعسكر المادي المستكبر، وبهذه الثقافة استطاع مجتمع المقاومة أن يصمد صمودًا أسطوريًّا، ويلقّن الكيان الصهيوني هزيمة لا يمكن ترميمها من كل النواحي.

“الجهاد والشهادة” ظاهرة مجتمعية

يصعب في مقالة أن نستحضر كل النماذج المجتمعية لظاهرة “الجهاد والشهادة”، لعمق وتجذر هذه الظاهرة في كل فئات المجتمع من جهة، ولتوسع انتشارها، حتى تشمل كل بيت من بيوتات محور المقاومة، ويكاد لا يخلو بيت أو عائلة من مجاهد أو شهيد أو عوائل لمجاهدين وشهداء، إلّا أننا يمكننا أن نضيء على أشكال للجهاد المجتمعي في محاور جبهات المقاومة بالآتي:

  • الجهاد المدني، استهدفت القوات الصهيونية المدنيين من ضمنهم الطواقم الصحية ومراكز الاستشفاء في غزة في عدوان ممنهج بين سندان التهجير القسري والإبادة الجماعية، فصمد المجتمع المدني بجهاده، الذي أفشل مخططات العدو “التهجير”، والضغط على “حماس” بالرغم من ارتفاع عدد الشهداء إلى 23 ألفًا، و968 شهيدًا، وعدد المصابين إلى 60 ألفًا، و582 شخصًا، 70% منهم نساء وأطفال[16].
  • الجهاد الإعلامي، اتسع النشاط الإعلامي ليشمل وسائل التواصل الاجتماعي ويحولهم إلى جنود مجاهدين في نقل الحقائق بالصورة والكلمة المباشرة من الحدث الذين استطاعوا أن يدحضوا السردية “الإسرائيلية”، وأن يحرجوا كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية في تبنيها السردية الإسرائيلية الكاذبة في غزة، وما استهداف الإعلام بشكل مباشر من القوات الصهيونية حيث وصل عدد الشهداء الصحفيين إلى 112 شهيدًا[17]، إلّا مؤشرًا على تأثير هذا الجهاد الإعلامي.
  • الجهاد الاقتصادي المجتمعي، نماذجه كثيرة في الحصار الأمريكي الاقتصادي على لبنان، واليمن والصهيوأمريكي على غزة.

 أما في النماذج المجتمعية للاستعداد للشهادة وتقبلها، وَصّف الإمام الخميني (قده) شعب الثورة بأنه “الشعب الذي يغلي حبّ الشهادة في قلوب نسائه ورجاله وصغاره وكباره، ويسابق أحدهم الآخر من أجل نيل الشهادة…”[18]. وهذا التوصيف ينسحب على شعوب ومجتمع محور المقاومة التي ترتكز إلى الإسلام المحمدي الأصيل المحفز والدافع العقيدي لهذه الظاهرة المجتمعية، وما سنوجزه هو شواهد مجتمعية لنماذج مجتمعية تقدم صورة مجملة لمعالم هذه الظاهرة التي يمكن لحاظها في:

  • النخب السياسية والعسكرية: نحن أمام مقاومة في كل جبهاتها، قادة مستعدون للشهادة، وتحكمهم ثقافة الشهادة، نستدل بهذا من كلام قائد محور المقاومة “السيد حسن نصر الله”: “إنني أشكر الله وأحمده على عظيم نعمه أن تطلّع ونظر نظرة كريمة إلى عائلتي فاختار منها شهيدًا، وقبلني وعائلتي أعضاءً في الجمع المبارك المقدس لعوائل الشهداء الذين عندما كنت أزورهم أخجل أمام أب الشهيد، وأم الشهيد، وزوجة الشهيد، وأطفال الشهيد وسوف أبقى أخجل من هؤلاء…”[19]. تلاه تعبير “الحاج محمد رعد”[20] بأنه تعلّم من السيد حسن نصر الله كيف يكون أباء الشهداء، صابرين، مُحتسبين، أقوياء، ثابتين على هذا النهج الجهادي المقاوم. لم تختلف هذه الثقافة في بقية المحاور، فها هو اليمن العزيز يؤكد قادته بأنّ لا عزةَ ولا كرامةَ وَلا حرية لهذه الأُمَّــة دون ثقافة الجهاد وَالاستشهاد، وهذا ما شهد به الواقع في ظل العدوان الأمريكي السعوديّ عليهم، “لنا في الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- أُنموذجٌ لصفةِ الشهادة، وَمنطلقٌ لهذا النهج بأبعاده الإنسانية وَالوطنية وَالدينية، فالشهيد الذي أعاد تأصيلَ منهجية الشهادة، وَأطلقها لتصبحَ ثقافةً وَطريقًا، كان أولَ مَن تملك أصولَها في سلوكه وَأفعاله وَقاد بها المشروع، وَعلى ذمته ارتقى شهيدًا، وهذه الحقائقُ باتت اليومَ واضحةً وجليةً بعد أن ظلت دهرًا مثارًا للتشويه والتحريف والتضليل الإعلامي”. ليختتمها “صالح العاروري” بـ”يا مرحبًا بالشهادة”[21].
  • المهنيين: “الصحة، الصحافة، المدرسين..: كلمة الصحافي “الدحدوح” وهو يرثي عائلته الشهداء يختصر المشهد كله، “هذا هو خيارنا قبل حمزة وبعد حمزة ماضون مستمرون ما بقي فينا عرقٌ ينبض، وما دمنا على وجه هذه الدنيا الفانية، فحمزة سبق، وأمّه سبقت، وأخوه سبق، وأخته سبقت، وأعمامه وأخواله سبقوا، والرسول عليه الصلاة والسلام، الذي خلقت الدنيا لأجله سبق ونحن على الطريق ما دمنا أحياء سنمضي دون أي عثرات حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا”[22]. وقد أكدّ أنّه مهما كانت الأثمان والشهداء والدماء فإنّه سيواصل مهمّته الإنسانية في العمل الصحفي وإيصال الحقيقة إلى العالم أجمع ليرى ما يجري من ظلمٍ وقهرٍ في فلسطين.
  • العائلات: نماذج كثيرة للعائلات التي تربي أبنائها على الشهادة، مؤخرًا “آل طويل”، ثلاثة أبناء إخوة، وحفيدان شهداء، مؤشر لمجتمع عائلات كثيرة قدمت إخوة وأحفاد وأمهات، لم تتوقف هذه العائلات أو تتخلى أو تكتفي، بل على العكس مستعدين ليقدموا المزيد من الشهداء.
  • هذه العائلات التي أبناؤها مجاهدون يرسلونهم إلى الخطوط الأمامية.
  • رسائل لتوقيع الأب والأم للسماح لابنهم الوحيد بالذهاب إلى الجبهة الأمامية.
  • الأمهات: كثيرة هي الشواهد والمواقف التي تحتاج لأطروحات للكتابة عنها ولا تنصفها، نختصرها بكلمة لوالدة الشهيد رميتي بأنها “ملتزمة بهذا النهج الحسيني، الذي يوصل إلى الحق دائمًا”[23].
  • الأطفال: سنكتفي بفيديو انتشر لطفل فلسطيني مثقل بالجراح وهو يحرص على تلقين “التشهد” لأخيه، الذي يستقبل الشهادة، فتحليل لغة جسد هذا الطفل تشير إلى عدة دلالات منها: ملامح الطفل وحركة جسده كلها قوة وفخر بالرغم من أنه ينزف بدمه لكنه لم يتزعزع أو يخشى الموت، وبتكرير جملة “ارفع صوتك” أكثر من مرة دليل على الثبات والقوة الداخلية والعزيمة، تصرّف الطفل بكل براءة وحب مع شقيقه بالرغم من هول الموقف، فإنه لن يخشى الموت بالرغم من نزفه للدماء، وهذا دليل على شجاعته، ويختصر[24]، وتختصر الركيزة العقيدية لثقافة الجهاد والشهادة كلمة مدوية لطفلة من بين الركام للإعلام “نحن الله معنا أحلى من مية سلاح”، هذه عقيدة الإسلام المحمدي الأصيل.

لا يخفى على أحد بأن ضربة طوفان الأقصى الاستراتيجية في 7-10-2023 خلخلت “إسرائيل”، القاعدة العسكرية المتقدمة في غرب آسيا، وتسببت بهزة كبيرة للمشروع الغربي، الذي يبدو فيه تلاشي وظيفة هذا الكيان في المنطقة خلال ساعات، مما استلزم تدخلًا كثيفًا ومباشرًا لأمريكا وحلفائها على عدة مستويات، وأبرز موارد القوة في هذه الضربة الاستراتيجية هي ظاهرة “الجهاد والشهادة” المجتمعية التي هي من المفاهيم القرآنية كاملة، وَمنطلقة من معطيات المسمّى الإلهي، وَمستوفية لشروطها، وَهي أبلغ المسميات التي لا يمكن مقارنتها بأي منهج إنساني مهما كانت الفضيلة تحكمه، ناهيك عن أنها أحاطت بمعاني المفاهيم الإنسانية والوطنية التي لا تتعارَض أبدًا مع المفهوم الإيماني، الذي أحاط بكُلِّ أصول الفضيلة، فاشتراك وجود هذه الظاهرة في كل ساحات أو جبهات المقاومة، شكّلت عنصر توحّد ثقافي جامع أسّس لتكامل جبهات محور المقاومة، متجاوزًا كل المفرّقات الثقافية، حتى وجدنا من نواتجه السياسية الاجتماعية اللوجستية هذا الصمود الأسطوري لمجتمع تعرض لأبشع عدوان وحشي لم يُشهد له سابقة في التاريخ المعاصر، حتى يصدق على هذا العدوان معركة التوحش والشذوذ كله مقابل معركة الإنسانية والأخلاق كلها.

[1] سورة الفرقان، الآية 52.

[2] سورة الصف، الآية 11.

[3] سورة العنكبوت، الآية 6.

[4] سورة العنكبوت، الآية 69.

[5] سورة الأنفال، الآية 60.

[6]  https://alwelayah.net/post/print/15143

[7]  الإمام الخامنئي، عطر الشهادة، مركز بقية الله الأعظم للدراسات، الصفحة 9.

[8]  نهج البلاغة، (قصار الحكم رقم: 252)  https://imamhussain.org/islamic/6726

[9] من خطاب القائد في لقائه بجمعٍ من طلاب الجامعة في قزوين بتاريخ 17-12-2003م.

 https://dar.al- wafa.net/22967/%D8

[10]خطاب القائد الخامنئي أمام أساتذة وطلاب جامعة علم وصنعت بتاريخ 19-7-2008م.

 https://dar.al-wafa.net/22967/%D8

[11]ما وراءَ تغييب النظام السابق لثقافة الشهادة في سبيل الله؟ نشر في ديسمبر 17, 2022 صحيفة المسيرة.

[12]خطاب القائد في المراسم المشتركة لتخريج ضبّاط جامعات القوّات المسلّحة للضباط (10/10/2023).

 https://arabic.khamenei.ir/news/7574

[13] من خطاب الإمام القائد الخامنئي أمام أساتذة وطلاب جامعة علم وصنعت بتاريخ 19-7-2008م.

 https://dar.al-wafa.net/22967/%D8

[14]  رسالة سماحته في يوم الشهداء في أسبوع الدفاع المقدس بتاريخ 27-9-2001م.

[15]  الإمام الخامنئي في مراسم تخريج طلاب جامعات الضباط 10/10/2023.

https://arabic.khamenei.ir/news/7618

[16]  https://www.nna-leb.gov.lb/ar/%D8%B3%D9%8A

[17]  https://alqudsnews.net/post/201377/112-%D8% 6

[18]  من خطاب القائد استشهد فيها بكلمة للإمام الخميني (قده) في الذكرى الثالثة لانتصار الثورة الإسلامية بتاريخ 22 بهمن. 1360[11/2/1982]، https://islamasil.com/2023/01/02

[19]  الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في كلمة له يوم تلقيه نبأ استشهاد نجله هادي. https://archive.almanar.com.lb/article.php?id=204969

[20]  رئيس كتلة الوفاء للمقاومة وعضو شورى حزب الله عند تلقيه نبأ استشهاد نجله “عباس” شهداء على طريق القدس.

https://addiyar.com/article/2134050-%D9%85%D8%AD

[21] https://al-akhbar.com/Palestine/374808

[22]  https://www.alahednews.com.lb/article.php?id=64040&cid=126

[23]  https://archive.almanar.com.lb/article.php?id=204969

[24]  https://www.youm7.com/story/2023/10/18/%D8%



المقالات المرتبطة

قراءة في كتاب “منهجيّة القرآن المعرفيّة” لـ محمد أبو القاسم الحاج حمد مراجعة نقديّة لنظريّة أسلمة فلسفة العلوم

يستهل الكتاب ما يبدو أنه مدخل غير تقليدي، إلى فهم النص الديني. لا تخلو المحاولة، رغم إحيائيتها الظاهرة، من ميل

فلسفة الأخلاق والميتافيزيقيا

الإشكالية الأساسية التي ينتمي إليها هذا العنوان، تتمثّل في إمكان وعدم إمكان قيام فلسفة أخلاقية بعيدًا عن الأساس الميتافيزيقي والديني المتمثّل في المسائل الأساسية

نحو رشدية عربية (1)

عنوان هذه السلسلة الجديدة من المقالات القادمة له قصة جديرة بأن تُروى؛ بدايتها عندما كنت طالبًا فى السنة الثانية بقسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول في عام 1944

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<