الروحانية الحديثة من منظور ديني إسلامي
تقديم
هذا مقال حول الروحانية الحديثة، من وجهة نظر نقدية دينية، ولا يمكن الحديث عنها، إلا بالعودة لأصولها وتعريفاتها المتشعبة، وعلاقة الجانب الروحي بالجانب الروحاني، فيُقال إن الروح هي عكس المادة أو ما يقابل المادة، وهذا المفهوم دارج في الديانات المتعددة، حيث عرف فيها ما يسمّى بالسمو الروحي، والترفع عن المادة، والزهد في طلب الدنيا وغيره من المظاهر التي تأثرت إلى حد كبير بمفهوم الروح عند الآخرين مثل البوذية والهندوسية، فضلًا عن الأديان السماوية الثلاث، فالروحانية لها أب هو الروحية، وقبلها الروح.
إن معنى الروحانية مشتق من الروح، ولكن جاء مصطلح الروحانية للتمييز بين النفس/الروح، التي في داخل الجسم البشري، وبين الحالة الإنسانية في اتخاذ الروحانية منهج حياة مثالية على الأقل، تتفق مع جانب من الجوانب العقائدية للأديان، وتختلف في جانب آخر مع جماعات الشاكين وغير المؤمنين، لأن الروحانية تعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين. بالنسبة للبعض، يتعلق الأمر في المقام الأول بالإيمان بالله والمشاركة النشطة في شرائع الأديان، وبالنسبة للآخرين، يتعلق الأمر بالتجارب غير الدينية التي تساعدهم على التواصل مع ذواتهم الروحانية من خلال التفكير الهادئ، أو قضاء الوقت في الطبيعة، أو الصلاة الخاصة، أو اليوغا، أو التأمل والنيرفانا[1]، مع العلم أنه يوجد كثير من الناس يعتبرون أنفسهم روحانيين ولكنهم غير متدينين.
التعريف
لم يتم الإجماع على تعريف وحيد للروحانية، فتُظهر المسوحات، كالمستخدمة في البحث العلمي مجالًا واسعًا من التعريفات بتراكبية محدودة، فقد نتج عن مسح لمراجعات متعلقة بالروحانية 27 تعريفًا واضحًا لم يكن الاتفاق عليهم كبيرًا، ولا تقتصر العديد من السمات الصميمية للروحانية عليها فقط، فعلى سبيل المثال اعتبر الفيلسوف الملحد (آرثر شوبنهاور) كلًّا من تنزيه النفس، والزهد، والاعتراف بارتباط الذات بكل ما حولها من أساسات الحياة الأخلاقية، وحسب (كيز وايجمان)، يتجلى المعنى التقليدي للروحانية بعملية إعادة تكوين دينية تهدف لاستعادة الهيئة الأصلية للإنسان، وهي صورة الإله، ويتم ذلك بالتوجه لقالب بمثل الشكل الأصلي: في اليهودية هو التوراة، وفي المسيحية يتمثل بالمسيح، وهو بوذا في البوذية، وهو النبي محمد في الإسلام[2].
بينما يقترح (هوتمان وأوبري) أن الروحانية الحديثة عبارة عن مزيج من علم النفس الإنساني والتقاليد الصوفية والباطنية، والأديان الشرقية، وفي العصور الحديثة يقع التركيز على التجارب الشخصية، والقيم والمعاني العميقة التي يعيش بموجبها البشر، متضمنةً السمو الذاتي أو التحوّل، غالبًا في سياق منفصل عن المؤسسات الدينية المنظمة[3].
تطور معنى الروحانية في العصور القديمة والوسطى
تطور معنى الروحانية وتوسع عبر الزمن، ويمكن العثور على دلالات مختلفة له مع بعضها، فتقليديًّا أشارت الروحانية إلى عملية إعادة تكوين دينية، تهدف لاستعادة الهيئة الأصلية للإنسان، بالتوجه لصورة الإله، كما وضّح مؤسسو أديان العالم ونصوصها المقدسة، كما استُخدم مصطلح الروحانية في المسيحية المبكرة للدلالة على الحياة الموجهة للروح المقدسة[4]، ومن ثم توسع خلال أواخر العصور الوسطى ليتضمن الجوانب الفكرية للحياة.
بدأت الكلمات الروحانية بالظهور في القرن الخامس الميلادي، وأصبحت شائعة الاستخدام قرابة نهايات العصور الوسطى .. وظهر كما رأى مفكرو الغرب، أنها في السياق الإنجيلي تعني الروحانية نفخ الإله للحياة في الكائنات، وأن يكون المرء مدفوعًا بالروح المقدسة، على عكس حياة ترفض هذا التأثير[5].
وتغير هذا المعنى في القرن الحادي عشر، عندما أخذت الروحانية تشير للجوانب الفكرية في الحياة، مقابل الجوانب المادية والحسية، أي كانت كما يمكن التعبير دائرة النور الكنسية مقابل عالم الماديات المظلم[6].
وفي القرن الثالث عشر، اكتسبت الروحانية معنى اجتماعيًّا ونفسيًّا، فدلّت اجتماعيًّا على هيمنة رجال الدين: الكنسيّة مقابل الممتلكات المؤقتة، والسلطة العلمانية، وفئة رجال الدين مقابل الفئة العلمانية، بينما أشارت نفسيًّا لعالم الحياة الداخلية: من صفاء الدوافع، والوجدان، والنيات، والنزعات الداخلية، والدراسة النفسية للحياة الروحية، وتحليل المشاعر[7].
في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديَيْن، تم التفريق بين الأشكال الروحانية العليا والدنيا: الشخص الروحاني هو من يكون أكثر وأعمق مسيحية من سواه، كما ترافق مصطلح الروحانية مع التصوف والباطنية، واكتسب معنى سلبيًّا[8].
الروحانية الحديثة
تطورت المفاهيم الحديثة للروحانية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فدمجت بين الأفكار المسيحية، والتقاليد الغربية الباطنية، وعناصر من الأديان الآسيوية، وخصوصًا الهندية، وتزايد انفصال الروحانية عن المنظمات والمؤسسات الدينية التقليدية، كما تترافق حاليًّا مع حركات فلسفية أو اجتماعية أو سياسية أحيانًا.
الروحانية غير الدينية
بعد الحرب العالمية الثانية تزايد انفصال الروحانية عن الدين الموحّد، فاتجهت الأولى أكثر نحو التجربة الشخصية، عوضًا عن محاولة تموضع الذات ضمن سياق وجودي أوسع، فتطورت تعاليم جديدة اندمج فيها كل من علم النفس الإنساني، والتقاليد التصوفية والباطنية، والأديان الشرقية، وذلك للوصول إلى الذات الحقيقية بالإفصاح عنها، والتعبير الحر والتأمل.
وأصبح الفرق بين الروحاني والديني مألوفًا أكثر لدى الشعب خلال أواخر القرن العشرين، تزامنًا مع نشوء العلمانية وحلول حركة العصر الجديد، ويُستخدم مصطلح روحاني اليوم بكثرة في سياقات كان يوظّف فيها مصطلح ديني سابقًا، وقد انتقد كل من الموحدين والملحدين هذا التغير[9].
الروحانية الإسلامية
يوجد تقارب لفظي بين الروح والروحانية في الإسلام، رغم أن القرآن الكريم فرّق بين النفس والروح، فالروح كما نرى غير النفس، فالنفس هي ما يعتبرها الناس الروح، فالنفس هي الجانب غير المرئي في الجسم الإنساني، والنفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالبًا ما تسمى نفسًا إذا كانت متصلة بالبدن، أما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها، والنفس أحيانًا تكون هي الذات قال تعالى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾[10]، وقال تعالى أيضًا: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾[11]، أما الروح فقد جاءت بمعان متعددة مثل الروح الأمين جبريل (ع)، ومنها أنه لقب للمسيح (ع)، ومنها حياة الإنسان ذاتها قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَ قَلِيلاً﴾[12]، وغيرها من الآيات التي تفرّق بين النفس والروح. وعمومًا، فإن جمهور المسلمين اعتبروا الروح هو الجانب العلوي السماوي في الجسد، ولكن تأثر المسلمون برؤية الغرب بالنظر إلى الجانب المادي والروحي، لتجسيد معنى الروحانية، وهي تلك التي تعتبر منهج حياة للبحث عن المثل العليا، سواء اتفقت مع الأديان أو اختلفت معهم.
ولكن على مستوى الحالة الاجتماعية للروحانية، يمكن القول: إن الإسلام يعتبر ديانة روحانية بامتياز، فهي ديانة قائمة على الإيمان الغيبي ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[13]، وهي أيضًا ديانة تبحث عن المثل العليا والقيم البشرية وحراسة التميز بين البشر، وأنه لا إكراه في الدين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وفي سيرة النبي والأئمة الأطهار (ص) ما يفيد برؤية الإسلام للقيم التي نسميها اليوم بالقيم الروحانية، وفي نهج البلاغة قالَ أمير المؤمنين (ع): قالَ النبيُّ (ص): إنّ الأرواحَ كانَت تَلاقى في الهَواءِ فَتَشامُّ، ما تَعارَفَ مِنها ائتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها اختَلَفَ[14] .
تنامي التصوف وظهور الإسلام السياسي
بسبب تنامي تيارات الإسلام السياسي أن أصبحت الروحانية الإسلامية في الواقع المعاصر تقريبًا حكرًا على الصوفية، وبات الانخراط بالحياة المدنية من نصيب الإسلاموية بوجهها السياسي والأصولي الراديكالي، وساد هذا الفهم المنقوص للروحانية والدين في المجتمع على المستويات الشعبية والمؤسسية.
ولكن كمضاد للأصولية الشكلية المسيطرة على الحياة الدينية، “يمكن أن نتساءل هل نستطيع التحدث عن أصولية روحانية، أو بالأحرى نزعة تأسيسية روحانية مضادة؟… وهو سؤال كثيرًا ما أثار الجدل عند مناقشة روحانية الإسلام وعلاقتها بالتصوف والممارسات الشعبية وأصولية الطقوس الدينية، وهو جدل يعتبره المفكر الفرنسي المسلم (إريك جوفروا)، الباحث بالدراسات الإسلامية، معبّرًا عما يصفه بـأزمة المعنى التي تتطلب ثورة للتحول عن الماضي واعتناق فكر جديد”[15]، ويعتبر (جوفروا) في كتابه “المستقبل للإسلام الروحاني”، الذي ترجمه هاشم صالح، وصدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة؛ أن الإسلام الروحاني هو الحل للخروج من تلك الأزمة، ويرى أن الروحانية هي الحرية التي تمنح الفرصة لتوسيع فضاء التفكير، وتتمركز أطروحته حول كيف يمكننا التفكير في الصوفية كبديل إيجابي للإحباط من الفشل المتكرر لمحاولات التجديد الديني، وبالنسبة له؛ فهناك فارق كبير بين التصوف الشعبي، الذي تتجلى مظاهره في زيارة القبور والتمسح في أعتاب مزارات الأولياء، وبين التصوف الذي يهتم بالعقل، لأن الإسلام التاريخي نفسه قد حمل طابعًا عقلانيًّا وعلمانيًّا لا يمكن إنكاره أو التغافل عنه، وأن الرسالة الأصلية للإسلام تحمل خطابًا روحيًّا متميزًا ظهرت ملامحه بوضوح بالقرآن الكريم، والحديث النبوي، وتبرز آثاره في علم الكلام والتصوف والفقه والفلسفة[16].
خلاصة القول: أولًا: إن الإسلام له رؤية متوازنة بين الدنيا والدين، بين العقل والنقل، وهي أكثر من مفهوم الروحانية، وثانيًا: توجد فجوة هائلة بين الممارسة الدينية والاجتماعية الثقافية عند المسلمين، يتم فيها إهمال الحياة الروحية بالجوانب الرسمية للدين والتوجهات الأساسية للإسلام التي تدعو إلى التجريد الروحي والحرية الفردية والانفتاح على الكونية والتعددية.
ولقد تجاهلت الأمة هذا الأمر بمرور الوقت، مما أنتج ثقافة للحظر والانغلاق الفكري، في حين أن النزعة الإنسانية في الإسلام جزء من أخلاق كونية، تضع الإنسان باستمرار كفرد، في علاقة ديناميكية بين الحرية والمسؤولية والحقوق والواجبات، تلك النزعة روحية؛ لأنها تسمح، بتحديد التناقض مع الإنسانية المادية البعيدة عن الحياة القويمة في الدنيا والدين معًا…
[1] النيرفانا بحسب الديانة البوذية، هي حالة تأمل وجود نظرية مركبة حيث يهرب الإنسان من المعاناة في العالم ويدرك وحدته مع الكون. ويستطيع الإنسان الذي يصل وعيه إلى النيرفانا أن يترك خلفه دورة إعادة التجسد إلى الوجود الروحي- انظر ف. عبد الرحيم -، معجم الدخيل في اللغة العربية ولهجاتها (بالعربية والإنجليزية والفرنسية والتركية والإيطالية والألمانية)، دمشق، دار القلم، الطبعة 1، الصفحة 211، بتصرف، وموقع https://ar.wikipedia.org/wiki
[2] أمجد من أهلنا، الروحانية، نقلًا عن موقع https://shababalrafedain.com/threads/
[3] المصدر نفسه.
[4] المصدر نفسه.
[5] Jones, L. G., “A thirst for god or consumer spirituality? Cultivating disciplined practices of being engaged by God,” in L. Gregory Jones and James J. Buckley eds., Spirituality and Social Embodiment, Oxford: Blackwell, 1997, 3-28, p4, n4.
التعطش إلى الله أو روحانية المستهلك.
6 تاريخ موجز للإنسانية، Philip Sheldrake, A Brief History of Spirituality, Wiley-Blackwell 2007 p. 1-2
[7] تاريخ موجز للإنسانية، مصدر سابق.
[8] المصدر نفسه.
[9] الدكتور أحمد عاطف درة، ما هي الروحانية؟ بحث منشور في جريدة الأهرام المصرية، 27/1/2024.
[10] سورة النور، الآية 61.
[11] سورة الشمس، الآية 7.
[12] سورة الإسراء، الآية 85.
[13] سورة البقرة، الآية 3 .
[14] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء 2، الصفحة 1129.
[15] إيريك بونس جوفروا، المستقبل الروحاني، ترجمة: هاشم صالح، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2021. بتصرف من الكتاب.
[16] المصدر نفسه.
المقالات المرتبطة
الحقيقة الميتافيزيقية بين حس الطبيعة وحدس الوجود
يبدو أنه من التعسّف أن نقارب السؤال عن ماهية الميتافيزيقا في ظرف ملتبس لا يخلو تمامًا من الممارسة الميتافيزيقيّة، فمنذ
الموت ثقافة حياة لا تنقطع
صحيح أن هذا العالم يضج بالحياة، لكنها حياة مليئة بالألم والخوف والفقر، إن عالمنا هذا لهو عالم الحروب، والبحث عن السيطرة، والنزاعات التي لا تنتهي.
مستقبل مجتمع المقاومة
أوجدت الحروب في التاريخ البشري الحاجة إلى الإدارة والتنظيم كما لم تفعل أي ظاهرة اجتماعية أخرى، فقد كان لزامًا لمجتمع يريد أن يدفع عن نفسه الغزو والإذلال إقامة الأسوار الحجرية والدروع البشرية القتالية