ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا

ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا

بالنظر لما كان يتمتع به الإمام (قده) من تبحّر عميق في التاريخ، خاصة التاريخ السياسي للإسلام، ثابر بالاستناد على سيرة، سنة وسلوك نبي الإسلام محمد (ص)، وأمير المؤمنین (ع)، فیما یتعلق بتشکیل الحکومة، حيث ثابر الإمام على إزالة الخمول وتنوير الرأي العام بالنسبة إلى القضايا السياسية، وما تحمله للمسلمين من متاعب.

 لم يقف سماحته (قده) صامتًا أمام ما يتعرض له العالم الإسلامي، من هيمنة للمستعمرين، المستكبرين والمستبدين، على مصير الدول الإسلامية، وذلك لما يقتضيه واجبه الإلهي. كان سماحته يرى أن انفعال عدد من العلماء وابتعادهم عن الحكم والقضايا السياسية وانصرافهم إلى المواضيع العبادية، هو من آفات الحوزات العلمية الإسلامية، حسب رؤيته، فإن المدرسة الإسلامية، خاصة مدرسة التشيع، سياسية وعبادية معًا، حيث سعى بجد إلى توضيح الأحكام الإسلامية المضيئة، وإزاحة الغبار عن الوجه الواقعي للدين. لقد أوصى الإمام (قده) المجاميع المختلفة لنخب المجتمع، بإعداد مشاريع وبرامج أساسية بنّاءة وعملية لدعوة شرائح المجتمع المختلفة، والتيارات المتنوعة إلى الفكر الإسلامي، والغور في الأحكام السياسية، الشاملة للإسلام، وتعريفها بصورة صحيحة لكافة أبناء الإنسانية.

فلو نظرنا إلى هذا القرآن الكريم الموجود بين أيدي المسلمين، والذي ليس فيه حرف زيادة ولا نقيصة منذ البداية وحتّى الآن، لو نظرنا إليه بعين التدبر لما وجدناه يدعو الناس أبدًا إلى الجلوس في منازلهم وذكر الله والخلوة به، إنّه يدعو إلى الاجتماع، ويدعو إلى السياسة، ويدعو إلى إدارة البلاد، جميع الأعمال التي دعا الإسلام إليها ذات جنبة عباديّة وسياسية. وحتّى إنّ العمل في المصانع والزراعة والتربية والتعليم في المدارس كلّها مصالح إسلاميّة وذات جنبة عباديّة وسياسية. إنّ الأحكام الأخلاقيّة للإسلام سياسيّة أيضًا، فهذا الحكم الموجود في القرآن، والّذي يعتبر المؤمنين إخوة إنّما هو حكم أخلاقيّ وحكم اجتماعيّ وسياسيّ، لو أمكنكم درك مفهوم الدين في ثقافتنا الإسلاميّة، لتأكّد لكم بوضوح عدم وجود أيّ تناقض بين القيادة الدينيّة والسياسيّة، كما أنّ الكفاح السياسي هو جزء من الوظائف والواجبات الدينيّة، فإنّ قيادة الكفاح السياسيّ وتوجيهه هما جزء من وظائف ومسؤوليّات القائد الدينيّ، الإسلام دين السياسة، وهو الدين الذي تظهر السياسة بوضوح في أحكامه ومواقفه.

وهنا نلفت النظر إلى وصية الإمام السياسية وما جاء فيها بخصوص هذا الموضوع، فيقول: … من المؤامرات المهمة التي تبدو واضحة في القرن الأخير وخصوصًا في العقود المعاصرة، وبالأخص بعد انتصار الثورة الإسلامية الدعايات على نطاق واسع بأبعاد مختلفة لزرع اليأس من الإسلام في الشعوب، تارة يقولون بسذاجة وبصراحة إن أحكام الإسلام التي وضعت قبل ألف وأربعمئة سنة لا تستطيع إدارة الدول في العصر الحاضر، أو إن الإسلام دين رجعي ويعارض كل أنواع التجدد ومظاهر الحضارة، وفي العصر الحاضر لا يمكن فصل الدول عن الحضارة العالمية ومظاهره. وأمثال هذه الدعايات البلهاء، وتارة يعمدون بخبث وشيطنة إلى الدفاع عن قداسة الإسلام، فيقولون: إن الإسلام وسائر الأديان الإلهية تهتم بالمعنويات وتهذيب النفوس، والتحذير من المراتب الدنيوية، والدعوة إلى ترك الدنيا والاشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرّب الإنسان من الله، وتبعده عن الدنيا، والحكومة والسياسة وفن الإدارة مناقض لتلك الغاية وذلك الهدف الكبير والمعنوي، حيث إن هذه جميعًا لبناء الدنيا، وذلك مناقض لسيرة جميع الأنبياء العظام، ومع الأسف فإن هذه الدعاية بشكلها الثاني، قد تركت أثرها في بعض الروحانيين والمتدينين الجاهلين بالإسلام، فكانوا يرون التدخل في الحكومة والسياسة بمثابة المعصية، جاء الإمام ليغير هذه الأفكار وليثبت للعالم أجمع أن السياسة فرع من الدين لا يمكن فصله، والذي أحدثه الإمام الخميني هو هذا الدمج غير القابل للانفكاك بين المسائل الدينية والمسألة السياسية.

إن الدين الإسلاميّ ليس مجرّد دين عباديّ، وظيفته تقتصر على العلاقة بين الإنسان وخالقه، فهو ليس وظيفة روحانيّة فقط، كما أنّه ليس دينًا سياسيًّا فقط، بل عباديّ وسياسيّ، وإنّ سياسته مُدغمة في عباداته، وعبادته مدغمة في سياساته. إنّ المستعمرين هم الذين قالوا وأشاعوا فكرة فصل الدِّين عن السياسة، وأنّ على علماء الإسلام أن لا يتدخّلوا في الأمور الاجتماعيّة والسياسيّة، فهذا قول الرافضين للدِّين، وإلّا فهل كانت السياسة منفصلة عن الدِّين في زمن الرسول (ص)؟! وهل انقسم الناس يومئذٍ إلى مجموعتين العلماء والسياسيّين؟! إنّ هذا الكلام من صنع وإعداد المستعمرين والعملاء السياسيّين، ويهدفون من ورائه إلى عزل الدِّين عن إدارة شؤون الحياة والمجتمع الإسلاميّ، وعزل علماء الإسلام عن الناس وعن الجهاد في سبيل الحريّة والاستقلال ليتمكّنوا بعدها من التسلّط على المسلمين ونهب ثرواتهم.

إن الإمام الراحل أعطى تعريفًا جديدًا للسياسة ينسجم مع المبادئ الإلهية والإسلامية، فقد عرّف الإمام السياسة بأنّها تلك التي تعمل على هداية المجتمع، وتهتم بجميع مصالحه، وتأخذ بنظر الاعتبار جميع أبعاد الإنسان والمجتمع. إن هذا الربط المستمر بين الدين والسياسة إنما هو لصالح الأمة الإسلامية، وأن من يريد فصل الدين عن السياسة، وهذا مبدأ مهم في فكر الإمام الراحل، وقد أكّد عليه في خطابات عديدة، واعتبر القائل بفصل الدين عن السياسة على المستوى العلمي لا يؤمن إلا بجزء قليل من مجموع آيات القرآن، ويترك مئات الآيات التي لها مجالها للتطبيق على صعيد ممارسة العمليّة السياسية.



المقالات المرتبطة

النبي الأكرم رافعة بناء القيم الحضارية والإنسانية

تقوم الثقافة الحضارية في عالم اليوم، على إعادة إحياء مبحث القيم، كرافعة إنسانية لكل معالم الوفرة العلمية…

دولة الموعود دولة العدالة والوفرة

ليست دولة الموعود هي فقط دولة العدالة التي بها تطمئنّ النفوس وتندكّ الفوارق الباعثة على كلّ أشكال الصراع والاستغلال. بل هي أيضًا دولة الوفرة الحقيقيّة القائمة على أساس الوفرة بمدلولها الاستغراقيّ وليس الطبقيّ.

الفكر العربي الحديث والمعاصر | القول الفلسفيّ وماهيته عند الدكتور علي زيعور

تستمر الرحلة الفكرية مع الدكتور علي زيعور، وننتقل إلى الحديث عن تطبيقاته المنهجية على التراث العربي – الإسلاميّ، وهنا سنلاحظ

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<