by الدكتور عيسى عبد الله علي | يوليو 1, 2024 12:36 م
المبحث الثاني
الحنيفية في مكة قبل الإسلام
تمثل الحنيفية التيار التوحيدي الذي انتشر بين العرب قبل الإسلام، وقد ورد ذكرها في الآيات القرآنية أكثر من مرة بما يوحي بأنها كانت منتشرة بشكل كبير بين العرب: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين﴾ (سورة البقرة، الآية 135).
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران، الآيتان 67 – 68).
﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين﴾ (سورة آل عمران، الآية 95).
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾(سورة النساء، الآية 125).
﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين﴾ (سورة الأنعام، الآيتان 78 – 79).
﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 161).
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (سورة النحل، الآيات 121 – 123).
يرى بعض المستشرقين أن لفظ حنيف ذات أصل عربي بمعنى التحنث؛ أي الانقطاع للتعبد والتأمل، وقد ورد لفظ حَنَفَ (حنفه) في النصوص العربية الجنوبية بمعنى (صبأ)؛ أي مال وتأثّر بشيء ما، وهي تشير إلى من ترك عبادة قومه إلى عبادة أخرى(17)، وعلى الرغم من أن الأخبار المنقولة عنها لا تظهر بنحو دقيق تفاصيل عقائدها، أو إن كانت بالفعل تشكل جماعة دينية مترابطة، فقد نسبت إلى أفرادها سمات مشتركة وهي: رفض السجود للأصنام، رفض تناول المذبوح للأنصاب، عدم شرب الخمر، التحنث والاعتكاف في الكهوف والمغاور لممارسة التعبد التأملي(18).
ويذكر هشام بن محمد الكلبي أن بعض القبائل العربية استمرت في تمسكها ببعض بقايا دين إسماعيل(ع) كأبناء معد، وقبيلتي ربيعة ومضر(19)، لكنهم بصفة عامة توزعوا في مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية(20).
وبالنسبة للتوحيد في قريش فإن المرويات الإسلامية تشير بوضوح إلى بعض الشخصيات التي اشتهرت بالانتماء إلى التوحيد، حيث يذكر ابن إسحاق أن بعض القرشيين رفضوا المعتقدات الوثنية السائدة وقرروا البحث عن تعاليم دين إبراهيم: “وقد كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم حليف بني أمية، حضروا قريشًا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض، قالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين إبراهيم وخالفوه، ما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع، فابتغوا لأنفسكم، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها، الحنيفية دين إبراهيم (ع)”(21).
من خلال هذا النص يمكننا ملاحظة أن هؤلاء الأشخاص كانوا ينتمون إلى طبقة النخبة الثقافية في مكة والتي كان أبناؤها يجيدون القراءة والكتابة بالإضافة لإجادة بعض اللغات الأخرى كالسريانية والعبرانية، وبديهي أن الطبقة التجارية كانت الأكثر قدرة على تقبل مثل هذه الأفكار الدينية نتيجة تجولها الدائم ومطالعتها لأفكار ومظاهر حضارية متنوعة.
ومن ناحية أخرى فقد أشارت بعض المرويات أن عبد المطلب بن هاشم قد رفض عبادة الأصنام وكان أول من تحنث في قريش(22)، ويبدو أنه كان مرافقًا للمجموعة التوحيدية سالفة الذكر، حيث يذكر الحلبي أن من بين الذين اعتادوا على التحنث في غار حراء بشهر رمضان مع عبد المطلب كل من ورقة بن نوفل، وأبي أمية بن المغيرة(23)، كما دوّن اليعقوبي في تاريخه بعض الشرائع والتعاليم التي كان يدعو إليها في القبيلة، وهي في جملتها ذات خلفية توحيدية واضحة، بل إن بعضها يتوافق مع ما أقرّه الإسلام فيما بعد: “الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الدية، وألا تنكح ذات محرم، ولا تؤتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤدة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا والحد عليه، والقرعة، وألا يطوف أحد بالبيت عريانًا، وإضافة الضيف، وألا ينفقوا إذا حجوا إلا من طيب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحرم، ونفي ذوي الرايات”(24).
إن هذه المرويات توحي بأن عبد المطلب بن هاشم ربما يكون هو من سعى لإيحاء الحنيفية في مكة مرة أخرى، خاصة أنها تذكر كذلك أن اعتناقه للحنيفية ورفض عبادة الأوثان كان في فترة متأخرة من حياته المديدة، ومما يدعم هذا التصور ما ذكره الحلبي عن بعض آرائه الدينية: “وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبهم عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر وقال: والله إن وراء هذه الدار دارًا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته”(25).
حيث يظهر عبد المطلب في هذا النص كمفكّر وداعية للحنيفية، على أنه من غير المعلوم إن كان قد تلقى الحنيفية من أحد دعاتها، أم أنه توصل إليها بفضل رؤية فكرية خاصة بناء على ما لدى القرشيين من بعض العادات والسلوكيات التي كانت معروفة ومنسوبة لإبراهيم وإسماعيل (ع)، وربما كانت للصلات التجارية بين القرشيين واليمن دور في إحياء النزعات التوحيدية لديهم حيث شهدت اليمن في تلك الفترة نشأة عبادة “الرحمن”، أو “الرحمنن”، وهي ديانة توحيدية ظهرت من جزيرة العرب فيما بعد الميلاد، ويرى بعض المستشرقين أنها تأثرت نوعًا ما باليهودية وإن لم ينتمي أتباعها إلى أي من المجموعات الدينية المجاورة لهم(26)(●).
وبديهي أن عبد المطلب – زعيم قبيلة قريش – الذي سعى لنشر التوحيد بين قبيلته قد حاول كذلك أن ينشر التوحيد بين عشيرته الهاشمية وعلى الأخص أبنائه وهو ما يبرر لنا تغييره لاسم نجله المقرب من عبد الدار أو عبد قصي إلى عبد الله(27)، كما يبرّر كذلك تقبل الهاشميين بشكل عام لدعوة النبي(ص) عندما أعلن دعوته بعد نزول آية: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ (سورة الشعراء، الآية 214)(28)، ويبدو من المرويات الواردة عن كتّاب السيرة أنه كان حريصًا لدرجة كبيرة على اعتناق أبنائه للعقيدة التوحيدية، فيذكر الحلبي في سيرته: “وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور”(29).
إلا أن المرويات لا تتحدث بشكل واضح حول مدى استجابة أبناء عبد المطلب لدعوته، وإن كان من الواضح بالفعل أن أحدهم وهو أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب لم يبد استجابة لمثل هذه المثل العليا، بل إنه اتهم في حياة والده بسرقة غزالة الكعبة وبيعها لقافلة قادمة من الشام مقابل الخمر، وقد اضطر فيما بعد للاحتماء بأخواله من قبيلة خزاعة كي لا يطبق عليه حد السرقة الذي شرعه والده(30)، وفي المقابل لا يوجد من ينفي اعتناق باقي أبناء عبد المطلب للآراء التوحيدية، ومن ناحية أخرى لا يمكن تفسير الدعم الذي تلقاه النبي(ص) من عمه أبي طالب أثناء دعوته للإسلام إلا على أساس إيمانه بالدعوة الإسلامية التي توافقت مع الأفكار الحنيفية التي آمن بها مسبقًا(31)، ويذكر الحلبي أن أبي طالب تحدث للنبي(ص) عقب مواجهة بينه وبين القرشيين فقال له: “والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شحطًا”(32)؛ بمعنى لم تطلب منهم أمرًا بعيدًا أو غريبًا عنهم، والواقع أنه لا يوجد مبرر حقيقي للاعتقاد بكفر أبي طالب ومطالبته لبني هاشم من بعده بمناصرة النبي(ص) إلا اعتقاده وإيمانه بدعوة ابن أخيه، وهو ما تنص عليه المرويات الإسلامية بكل وضوح(33)، إلا أنها رغم ذلك تصر على كفر أبي طالب(34).
على أن بعض المصادر التاريخية تنقل مرويات صريحة في إيمان أبي طالب مثل تاريخ أبي الفداء: “توفي في شوال سنة عشر من النبوة ولما اشتد مرضه قال له رسول الله (ص): (يا عم قلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة) يعني الشهادة. فقال له أبو طالب يا ابن أخي لولا مخافة السبة وأن تظن قريش إِنما قلتها جزعًا من الموت لقلتها، فلما تقارب من أبي طالب الموت جعل يحرك شفتيه فأصغى إِليه العباس بأذنه وقال: واللّه يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال رسول الله (ص): (الحمد لله الذي هداك يا عم)”(35)، وعلى الرغم من اعتراف أبي الفداء بأن المشهور موته كافرًا، فمن الواضح أنه لم يقتنع بهذا الرأي: “هكذا روي عن ابن عباس والمشهور أنه مات كافرًا ومن شعر أبي طالب مما يدل على أنه كان مصدقًا لرسول الله (ص)”(36).
الهوامش
17 – عماد الصباغ، الأحناف، مصدر سابق، الصفحة 38.
18 – هشام بن محمد بن السائب الكلبي، الأصنام، تحقيق: أحمد زكي باشا، القاهرة، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة 2003، الطبعة 5، الصفحة 13.
19 – عماد الصباغ، مصدر سابق، الصفحة 75.
20 – محمد بن إسحاق، مصدر سابق، الصفحتان 88، 89.
21 – علي بن برهان الدين الحلبي، السيرة الحلبية، نسخة إلكترونية، موقع مكتبة مشكاة الإسلامية www.almeshkat.net. الجزء 1، الصفحة 346. البلاذري، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 84، اليعقوبي، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 10.
22 – الحلبي، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 346.
23 – اليعقوبي، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحتان 10، 11.
24 – الحلبي، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 4.
25 جواد علي، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 908.
26 – اليعقوبي، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 9.
27 – مسلم بن الحجاج، الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نسخة إلكترونية، موقع مكتبة مشكاة www.almeshkat.net. الجزء 1، الصفحة 193.
28 – الحلبي، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 4.
29 – الحلبي، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 49.
30 – الحلبي، مصدر سابق، م 1، الجزء 2، الصفحة 508.
31 – الحلبي، مصدر سابق، م 1، الجزء 2، الصفحة 508.
32 – الحلبي، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 508.
33 – الحلبي، مصدر سابق، م 1، الجزء 2، الصفحة 509.
34 – إسماعيل بن أبي الفداء، تاريخ أبي الفداء، نسخة إلكترونية، موقع مكتبة مشكاة www.almeshkat.net. الجزء 1، الصفحة 124.
35 – تاريخ أبي الفداء، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 124.
36 – مسلم بن الحجاج، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 191.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/16744/father-of-the-prophet/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.