تجلي الأخلاق الإلهية في الإمام الحسين (ع)*

by زينب محمد طليس | يوليو 19, 2024 7:53 ص

مقدمة

 تعتبر أخلاق الإمام الحسين (ع) موضوعًا يستحق البحث والتأمل، حيث يُعَدُّ قدوةً أخلاقيةً للبشرية جمعاء. إن قصة صموده وتضحيته في معركة كربلاء أصبحت مرجعًا أخلاقيًّا يُلقِّن لنا دروسًا تتعلق بهداية الإنسانية والشجاعة والعزة والتسليم والرحمة والعطف والحلم وكلها كملت في الحسين (ع) المعصوم.

أهمية البحث

تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على أخلاق الإمام الحسين (ع) الإلهية وتحليلها. ستساعد الدراسة في فهم أسس وقيم هذه الأخلاق وتطبيقاتها العملية في حياتنا اليومية، وكذلك تسليط الضوء على دورها في تشكيل المجتمعات وتعزيز القيم الإنسانية المقتبسة من صفات الله تعالى.

منهجية البحث

ستعتمد هذه الدراسة على تحليل المصادر التاريخية والروائية التي تتناول حياة الإمام الحسين (ع) وأخلاقه. سيتم دراسة سيرته وأقواله وأفعاله من منظور أخلاقي وفقًا للمعايير الإنسانية والدينية والإلهية.

ستغطي الدراسة عدة جوانب من أخلاق الإمام الحسين (ع) الربانية، بما في ذلك:

الشجاعة والتحدي: تحليل مفهوم الشجاعة والتحدي عند الإمام الحسين (ع) كمظاهر من مظاهر الأخلاق الإلهية المتجسدة في الحسين (ع).

الإنسانية والعطف: دراسة التعامل الإنساني والعطوفة التي تجلى في رحمة الإمام الحسين (ع) حتى مع أعدائه.

التسليم لله والعزة بالله؛ جعلت من الحسين (ع) ملهمًا لكل مظلوم في العالم أن يقارع الظالمين ولو بقي وحيدًا.

استنتاج

تنمي أخلاق الإمام الحسين (ع) الربانية القيم الإنسانية العالية، ونقتبس من أخلاق الحسين (ع) المثالية العظيمة رسالةً أن الإنسان عندما يسلم نفسه لله تصبح كل أخلاقه إلهية، وعندما يقدم كل شيء لله يعطيه الله كل شيء.

الأخلاق في الفلسفة

تُعرف الأخلاق على أنها سمات سلوكية وفكرية تقوم على مبدأ تمييز الخطأ من الصواب، وتوجه الإنسان لفعل ما هو صحيح دائمًا، مهما كان الموقف، أو النتائج المترتبة عليه.

أما في المنظور الإسلامي،  فقد اهتم القرآن الكريم بالمسائل الأخلاقيّة وتهذيب النفوس اهتمامًا كبيرًا، باعتبارها مسألةً أساسيّةً، تنشأ منها وتبتني عليها جميع الأحكام والقوانين الإسلاميّة. حيث قال رسول الله (ص): “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (1).

وكلما تعرف العبد على خالقه تقدم في مدارج الكمال الأخلاقي الذي يريده الله منا.

كيف يمكن التعرف على الله عز وجل؟

الله تبارك وتعالى عندما خلق الخلق، أيضًا أبدع مظاهر لجماله ولجلاله، هناك مظاهر أبدعها الله لجماله وجلاله إذا قرأناها وتأملناها بلغنا الكمال بالتعرف على جماله وجلاله تبارك وتعالى.

الشمس المضيئة مظهر لجمال الله وجلاله، هناك مظاهر لجماله وجلاله ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِيخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (2). ومن مظاهر جماله وجلاله محمد وآل محمد  “ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضًا مدحية، ولا قمرًا منيرًا، ولا شمسًا مضيئة، ولا فلكًا يسري، ولا بحرًا يجري، إلا لأجل هؤلاء الخمسة”(3). الله عزّ وجل خلق هذا الكون لأجل أن يكون مظهرًا لجماله وجلاله، وأبرز مظهر لجماله وجلاله هم هؤلاء الخمسة. إذًا، ما خلق هذا الكون كله إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء، قيل: ومن تحت الكساء؟ قال: “هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها”؛ أهل البيت مظهر له، ولذلك تقرأ في الزيارة  الجامعة: “السلام على محال معرفة الله”(4). لا يمكن معرفة الله إلا عن طريقهم، هم محال معرفته، لأنهم مظاهر جماله وجلاله.              

وإذا كان الفلاسفة قالوا: “الفلسفة عبارة عن التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية”، فقد أمرنا رسول الله (ص) “تخلقوا بأخلاق الله”(5).

ولأن الإنسان هو خليفة الله في الكون فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الكمال المطلق، فلقد كرم الإنسان وأعطى له صلاحية الكمال، قال في الحديث القدسي: “عبدي أطعني تكن مِثْلي أو مَثَلي تقول للشيء كن فيكون”(6). فالإنسان باعتباره خليفة الله يجب أن يكون في قمة مكارم الأخلاق، وفي قمة السمو الروحاني والنفسي.

كيف نتخلق بأخلاق الله تعالى؟

إن من المفاهيم التي قد لا يستوعبها البعض، ضرورة التخلق بأخلاق الله تعالى كما ورد عن النبي (ص).. بمعنى أن يكمل الإنسان جميع بذور الخير في نفسه، ليحوّلها إلى شجرة نامية في أعلى درجات النمو.. وهذا هو معنى الفناء في الله.. بمعنى أن لا تبقى له خصوصيات بشرية تنافي مقتضى الإرادة الإلهية في عالم الصفات والأفعال.

وقد تجلت في الإمام الحسين (ع) بعض الأخلاق الإلهية التي يمكن أن تتمظهر في إنسان كامل، كما تمظهرت في جده رسول الله(ص)، وقد مدحه الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾(7).

فالخلق العظيم هو الخلق الإلهي الذي تجلى في المعصوم؛ فالرسول وأهل بيته الأطهار مظهر لتجلي جمال الله وجلاله.

في زيارة الحسين يوم الأربعين الواردة عن الإمام الصادق:

 “السلام عليكم يا آل الله”(8).

هنا قد يلتفت الذهن ليتساءل: كيف يكون الإنسان آلًا لله؟ الله عز وجل ليس جسمًا حتى يولِد وحتى ينجب، وهو القائل في كتابه: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾، فإذا لم يكن جسمًا ينجب وينسل، فما معنى كلمة “السلام عليكم يا آل الله”؟ هذه العبارة تحت تمظهر الصفات الإلهية.

آل الشخص هم الذين يمثلونه، آل فلان، أهل فلان. الإنسان يتمثل في آله، يتمثل في أهل بيته، آله هم الذين يرثون صفاته، هم الذي يرثون شمائله، هم الذي يرثون كفاءاته، الوراثة تفعل مفعولها، فآل الشخص هم الذين يمثلون صفاته وشمائله ومظاهره وأسماءه. أهل البيت هم المخلوقات التي تمثّل صفاتِ الله عز وجل، الله تجلى فيهم بما لم يتجل بغيرهم، الله تبارك وتعالى تجلت أسماؤه وصفاته في أهل بيت النبوة، وأهم صفتين تجلتا في أهل البيت صفة العلم وصفة الرحمة.

فعلمه تبارك وتعالى تجلى فيهم، وانحدر على ألسنتهم، ورحمته تبارك وتعالى تجلت في أفعالهم ومعاملاتهم مع الخلق، حيث كانوا يتعاملون مع الخلق معاملة الرحمة، معاملة الحنان، معاملة اللطف، معاملة الجذب، معاملة الاحتواء، معاملة الاستيعاب، إذن أهل البيت مظهرٌ لعلم الله، ومظهرٌ لرحمة الله، فبما أنهم مظهرٌ له، إذن فهم آله “السلام عليكم يا آل الله”؛ أي: مظهر صفات الله ومظهر أسمائه تبارك وتعالى.

الهداية الربانية تجسدت في سلوك الحسين(ع)

قال رسول اللّه (ص): “إنّ الحسين مصباحُ الهُدى وسفينة النجاة” (9).

يصوّر الحديث الشريف لنا الدنيا بأروع ما يمكن تصويره ليقربنا إلى واقع الدنيا وحقيقتها، فيشبّهها بلجج البحار المظلمة، التي لا سبيل للنجاة من لججها إلّا بالسفينة، ولا طريق للخلاص من ظلماتها إلّا بالمصباح، وهو تشبيه رائع.

فإن الإنسان في الدنيا بحاجة إلى:

أولًا: المصباح المنير ليرى به الطريق، وإلّا ضاع في ظلمات الجهل والمرض والفقر، ووقع في المهاوي، ولم يبصر السباع والوحوش التي تريد افتراسه فيجتنبها، ولا العقارب والحيّات التي تريد انتهاشه فيحترز عنها، ولا يرى ما يحفظ به جسده من الحرّ والبرد، وما يقيم بسببه بدنه من المأكل والمشرب حتى يستفيد منها.

ثانيًا: كما إنه بحاجة إلى السفينة لتحفظه من الغرق والهلاك في لجج الدنيا المتلاطمة وتوصله إلى ساحل السعادة بأمان وسلام.                                                                                                                                        

ويا ترى مَن هذا الذي يستطيع أن يكون المصباح لهداية الإنسان في الدنيا، والسفينة لإنقاذه من لججها وغمراتها؟ إنه لا يمكن أن يكون إلّا مَن نصّ عليه الوحي ودلّ عليه رسول اللّه (ص).

والحسين (ع) أحد المعصومين (ع) الذين كلهم سُفُن النجاة ومصابيح الهدى، فقد قال النبي (ص): (أهل بيتي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم) (10).

وقال (ص): “مَثَل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها غرق” (11).

فالصفتان: (المصباح والسفينة) لكل من المعصومين الأربعة عشر: (علي وفاطمة والحسن والحسين والسجّاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي عليهم الصلاة والسلام).

أما الرسول (ص) بنفسه، فهو المصباح الأعظم، والسفينة الأشمل، وقد قال سبحانه: ﴿يا أيُّهَا النّبيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِراً وَنَذيراً وَداعِياً إلى اللّه بإذْنِهِ وَسِراجاً مُنيرا﴾(12).

والبشريّة إذ تعيش اليوم في ظلام دامس من الجهل وتغرق في لُجج من الفوضى والاضطراب والقلق لا علاج لها ـ إذا أرادت النجاة ـ إلاّ بالاستضاءة بأنوار هؤلاء الأطهار، وركوب سفينتهم فإنهم عِدل الكتاب الحكيم، حيث قال رسول اللّه (ص): “إنّي مُخلّف فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعِتْرَتي ما إنْ تَمَسَّكتُمْ بِهِما لَنْ تَضِلّوا مِنْ بَعْدي أبداً”(13).

ممّا يدلّ على أنّه لولا التمسّك بالعترة إلى جانب التمسّك بالكتاب يكون الضلال الذي في دنياه عار وشنار، وفي آخرته جحيم ونار وماذا بعد الحق إلا الضلال؟

وكربلاء الإمام الحسين كانت لتبيان الحق من الضلال، وإلا كان الإعلام الأموي حوّل دين النبي محمد (ص) إلى دين أموي.

فكربلاء الحسين (ع) كانت انتصارًا للأخلاق الإلهية المتجسدة في الإمام الحسين (ع) على الأخلاق الشيطانية المتجسدة في يزيد وأعوانه.

 الرحمة والعطف الإلهي المتجلي في الحسين(ع)*

هل كان هنالك قلب كقلب المولى أبي عبد الله الحسين (ع)؟ وهل كان هنالك حزن كحزن حل في قلب الحسين (ع) في ذلك الموقف الرهيب؟ والحسين (ع) هو ذلك الحنان الكبير، والعطف والشفقة والرأفة، كان كجده المصطفى (ص) في خصاله المباركة ومشاعره الشريفة، ﴿عزيز عليه ما عنتم حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾(14)، فعز على الحسين ما عنتوا، فبكى على أعدائه، فحرص على أن يتم عليهم الحجة، وأمهلهم عسى أن يفيقوا من غفلة مردية فخطب فيهم وذكرهم طويلًا، ووعظهم ونبههم إلى ما هم قادمون عليه، وعرفهم نفسه وهم يعرفونه، وكم ألزمهم الحجة عليهم، ودعاهم إلى النجاة يقول: يا قوم إن بيني وبينكم كتاب الله، وسنة جدي رسول الله، فأبوا شاهرين سيوفهم في وجهه، ومشرعين برماحهم نحوه، ومسددين إليه سهام الغدر مخاصمين، فوعظهم قبل أن تسيل الدماء وتزهق الأرواح، فأبوا إلا القتال، وإن أجهش بعضهم بالبكاء من كلامه، وأصر الجمع عاقدين نواياهم الخبيثة على استحلال دمه المقدس، فبكى عليهم، إذ أراد لهم النجاة ونادى يهتف في ضمائرهم فصموا وعموا وضلوا فبكى بلوعة عليهم! في ذلك اليوم المهيب، يوم عاشوراء، وقد علم أنه يوم مذهل، كان الحسين متوجهًا بكله إلى ربه جلّ وعلا، وكانت كلماته القدسية تجري على لسانه الذاكر الشاكر، ومن قلبه العابد الصابر المحتسب.

إن الإمام الحسين(ع) ونهضته رحمة من ألفها إلى يائها، كان رحمة في وجوده بين الخلق وفي مقاصده وغاياته، ورحمة في حركاته وسكناته، رحمة عامة في جانبها الرحماني تشمل حتى العدو، ورحمة خاصة في جانبها الرحيمي مختصة بالمؤمنين به وبأصحابه وشيعته ومحبيه.

فهنا لا بدّ لنا أن نقف بجانب الإمام الحسين وقيامه كيف وقف الحسين (ع) من الحر الرياحي وقومه المكلفين من قبل ابن زياد؟

لما رأى الإمام ما بالقوم من العطش أمر أصحابه أن يسقوهم وخيولهم برحمة ومحبة ففعلوا كذلك.

أما موقفه مع ابن الحر الجعفي؛ لما ورد الحسين قصر بني مقاتل رأى فسطاطًا مضروبًا، فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعبيد الله بن الحر الجعفي. فأرسل إليه الحجاج بن مسروق الجعفي، ويزيد بن مغفل الجعفي فأتياه وقالا: إن أبا عبد الله يدعوه، فقال لهما: أبلغا الحسين أنه إنما دعاني من الخروج إلى الكوفة حين بلغني أنك تريدها فرار من دمك ودماء أهل بيتك، ولئلا أعين عليك، وقلت: إن قاتلته كان علي كبيرًا وعند الله عظيمًا، وإن قاتلت معه ولم أقتل بين يديه كنت قد ضيعته، وإن قتلت فأنا رجل أحمى أنفًا من أن أمكن عدوي فيقتلني ضيعة، والحسين ليس له ناصر بالكوفة ولا شيعة يقاتل بهم. قال الحسين: أفهذه نصيحة لنا منك يا بن الحر؟! قال: نعم.. والله الذي لا شيء فوقه، فقال له الحسين: إني سأنصح لك كما نصحت لي إن استطعت أن لا تسمع صراخنا، ولا تشهد واعيتنا فافعل، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا أكبه الله في نار جهنم(15).

ومثل هذا الموقف كثيرًا ما يمكن أن نشاهده في حياته وخصوصًا في طريقه من المدينه إلى كربلا! وما كان حقيقة هذا الموقف إلا تبيينًا وتطبيقًا لرحمة الله على أحد مصاديقه وهو الإمام الحسين(ع).

فالإمام الحسين(ع) في كل موقف من طريق المدينة إلى كربلا يلتقي فيه شخصيات لا تريد أن تكون له أو عليه، وتتشبث بأعذار واهية هربًا من نصرته، ولكنه(ع) يشفق عليها ويقترح لها طريقًا يجنبها النار، وذلك بأن لا تسمع له واعية.

فلذلك لا نستغرب بعد هذا البيان إذا نسمع أن الحسين (ع) يبكي يوم كربلاء خوفًا على أعدائه أن يدخلوا النار بقتله؛ لأنه مصداق حقيقي واقعي لرحمة الله تعالى.

ولا نستغرب أن نخاطب الحسين(ع) ونقول له: السلام عليك يا باب رحمة الله الواسعة! ويا باب نجاة الأمة.

تجلي الحلم الإلهي في الإمام الحسين

لماذا تلقى الحسين دم قلبه بيده ورمى به إلى السماء؟ وكم مرة فعل ذلك؟ وفي إحداها مسح به وجهه وبدنه! وأي دم صعد إلى السماء، وأي دم مسح به رأسه ووجهه؟ وهل وقع من دمه على الأرض؟ ولماذا لم يتركه الإمام الحسين يجري على الأرض؟ ولو جرى على الأرض هل تبقى أرض وأهل الأرض؟

لماذا لم يقهر الأعداء بسيفه المستمد من قوة الإله؟ ولماذا لم يدعُ عليهم وهو صاحب الدعاء المستجاب؟ أليس أن الإنسان الكامل مظهر لأسماء الله وصفاته؟

ولماذا لم يُعمل ما أجراه الأنبياء على أقوامهم، فيهلكهم بعذاب أو أشد من ذلك؟

إن معرفة سر هذه الأسئلة تميط اللثام عن بعض أسرار الولاية الكبرى، وتكشف عن جوهر ثورة كربلاء، وبدونها تبقى نهضة الحسين الشهيد (ع) أجزاءًا متفرقة.

فكل موقف من مواقف الإمام فيه شرف وفضل وكرامة، وتجلٍّ لأعلى مراتب التضحية والإنسانية.

فطالما أن الحسين (ع) مظهر لقدرة الله المطلقة، ولو شاء لهزم القوم وحده، وأبادهم عن بكرة أبيهم فجعلهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ولولا القضاء لمحى الوجود بأسره.

لكن حلم الحسين المقتبس من حلم الله تعالى حال دون استخدامه ولايته التكوينية للانتقام من الظالمين الجهلة.

عظمة الله تعالى تجسدت في تسليم الحسين(ع) المطلق

إن سيد الشهداء (ع) كما جاء في الروايات كان كلما اقترب الوقت من ظهر يوم عاشوراء يزداد وجهه إزدهارًا، لماذا؟ لأنَّه كان يرى أنَّه على وشك الالتحاق بالله، إنَّه كان ينظر إلى الله لا إلى المستشهدين من أولاده، فإن نظر إلى أيّ منهم فإنما ينظر إليه باعتباره مرتبطًا بالله لا باعتبار أنَّه ولده أو أولاده كلّا فإنَّه لم يكن كذلك.

 يقول الإمام روح الله الموسوي الخميني (قده): إنّ هذه الحالة ـ حالة التسليم المطلق ـ هي التي تفسّر لنا جميع أبعاد شخصيّة الحسين (ع)، ونحن نجد تجلّيًا لهذا الإيمان في الدعاء الذي قرأه (ع) في يوم عاشوراء، وهو: “اللّهمَّ أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دُعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، تدرك ما طلبت، شكور إذا شُكرت، ذكور إذا ذُكرت، أدعوك محتاجًا، وأرغب إليك فقيرًا، وأفزع إليك خائفًا، وأبكي إليك مكروبًا، وأستعين بك ضعيفًا، وأتوكّل عليك كافيًا”(16).

لقد قرأ أبو عبد الله (ع) هذا الدعاء عندما أحاط به ثلاثون ألفًا، وربّما يكون (ع) قد قرأه بعد أن وقع أصحابه وأهله صرعى مضرّجين بدمائهم على أرض كربلاء، ومع ذلك فقد كانت بصائر الإيمان تتلألأ وتتجلّى في ملامحه، فكان كلّما ازدادت المصاعب عليه ازدادت طلعته بهاءً وانشراحًا وهو يقول: هون ما نزل بي أنه بعين الله تعالى.

كيف تتحول المأساة أو الفاجعة إلى مظهر جمالي، لأمر جميل لأهل البيت؟

كثرة المصائب التي وردت على العقيلة زينب هي مظهر مأساوي، ولكنها في نفس الوقت مظهر لصبرها وقوة إرادتها وصمودها، إذن مأساتها لها صفة جمالية، مأساة زينب مظهر لفاجعتها، ومظهر لصبرها وقوة إرادتها وتحديها. هذه المأساة أيضًا لها سمة جمالية برزت وتحققت يوم كربلاء.

هذه المأساة كما هي حافلة بالحزن، فإنها حافلة بلوحات الجمال، لذلك نرى العقيلة زينب، عبرت عنها بعبارات الجمال والجلال، عندما وقفت على جسد أخيها الحسين، ومدت يديها من تحت الجسد، وما ولولت ولا أعولت، ولكن قالت: اللهم تقبل منا هذا القربان، حولت المأساة إلى صفة جمال، حولت الفاجعة إلى تسليم وارتباط وثيق بالله طالما أن التضحية هي في سبيل الله تعالى.

هذه المرأة البطلة العظيمة أجابت ابن مرجانة عندما قال لها مستهزئًا: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ قالت: “ما رأيت إلا جميلًا”. نحن نعتبر المأساة نعمة أنعم الله بها علينا، لأنه ابتلانا بما لم يبتل به غيرنا “ما رأيت إلا جميلًا”، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن يكون الفلج يومئذ ثكلتك أمك يابن مرجانة.

العزّة الإلهية تمظهرت في الإمام الحسين

ومن دروس عاشوراء هذا المستوى العالي من العزّة والإباء الحسينيّ، فابن سعد يريد العزّة من أميره قائلًا للناس: “اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى”.

لكن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ فقد أطلق الإمام شعار العزّة مدوّيًا: “ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام” (17).

وأمّا أنصاره (رض)، فقد وجدوا العزة في طاعة الحسين (ع) ولو كانت عن طريق مواجهة جيش من الوحوش وفي أرض غربة إلّا أنّهم أدركوا معنى قول بقيّة الله في كربلاء الإمام السجّاد (ع): “طاعة ولاة الأمر تمام العز”(18).

خاتمة

إن أدنى ما نتعلمه من مدرسة الإمام الحسين الأخلاقية الإلهية أن يظهر عفونا ورحمتنا أولًا على ذوي الحقوق كالوالدين، والزوجة، ومن لهم حق الهداية والإرشاد.. فإنه ليس من الإنصاف أبدًا أن لا ننظر إلى الطرف المقابل بمجموع صفاته.. فلا نجعل إساءة واحدة كافية لأن تنسينا جميع الحقوق التي ينبغي مراعاتها في ذوي الحقوق.. إن هذا الإحساس – إذا ما تحلينا به – كفيل لترطيب العلاقات الاجتماعية والأسرية بما يمنع حدوث المشاكل المختلفة.

والذي يرحم العباد، ويعفو عن الخاطئين منهم، لهو في معرض الرحمة الإلهية الغامرة.. ومن الطبيعي أن ينظر الرحيم الودود بعين الود والرحمة، لمن غرس هذه الصفة الإلهية في نفسه إلى حد الملكة الراسخة.

فالرحمة الإلهية التي جسدها الإمام الحسين (ع) حتى مع أعداء الله وحزنه على عاقبة هؤلاء الضالين بعد قتله سلام الله عليه جعلت منه قائدًا فريدًا على صعيد البشرية ولا يمكن لإنسان آخر أن يصل إلى هذا المقام وأصبح قبلة للأحرار في العالم ليكون الرحمة الإلهية للبشرية على قاعدة ما ذكره الإمام علي (ع) “الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.

فنرحم الإنسان مهما كان شكله ولونه وعقيدته وتفكيره ونتعامل مع العالم بفكر الحسين وأخلاق محمد ورحمة الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نتخذ من عاشوراء الإمام الحسين (ع) الحل لواقعنا للانطلاق بنهج إصلاح الذات والفكر والمجتمع لنكون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر التي ضحى سلام الله عليه من أجل إحياء هذه الأمة، وترسيخ الدين المحمدي الأصيل وفقًا لوصية الرسول الأكرم (ص) المباركة “إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترة أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا”.

إن هذه الأخلاق الإلهية هي التي جعلت أبا عبد الله (ع) مقياسًا وإمامًا لنا، وقدوة إلى الأبد، فمثل هذه الروح الإيمانيّة، والسمو المعنوي جعلا سيّدنا أبا عبد الله (ع) شعلة وقّادة في نفوس المظلومين؛ بحيث إنّنا نجد اليوم ما نجده من بطولات وشجاعة المجاهدين المتّبعين لنهج الحسين (ع).

إن الأرض ستمتلئ عدلًا وحقًّا بسيف حفيد أبي عبد الله الإمام الحجّة المنتظر (عج)؛ حيث سيخرج هذا الإمام حاملًا سيفه وهو يهتف: “يا لثارات الحسين”.

المصادر والمراجع :

(1) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 68، الصفحة 382.

(٢) سورة آل عمران، الآية 19.

(3) السيوطي، الدر المنثور، الجزء5، الصفحتان 198و 199.

(4) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، الجزء2، الصفحة 208.

(5) بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 58، الصفحة 129.

(6) العلامة الحلي، عدة الداعي، الصفحة 233.

(7) سورة القلم، الآية 4.

(8) بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 98، الصفحة 245.

(9) بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 36، الصفحة 205.

(10) ابن حجز العسقلاني، لسان الميزان 1/141.

(11) الحاكم النيسابوري، مستدرك الحاكم، الجزء 3، الصفحة 151.

(12) سورة الأحزاب، الآية 45.

(13) حديث الثقلين، الجزء4.

(14) سورة التوبة، الآية 128.

(15) عبد العظيم المهتدي البحراني، من أخلاق الحسين، الصفحة 186.

(16) بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 98، الصفحة 348.

(17) الشيخ محمد الريشهري، موسوعة الإمام الحسين في الكتاب والسنة، الجزء1.

(18) الشيخ محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء 3، الصفحة 1958.

*[1] دراسة تسلط الضوء على أخلاق الإمام الحسين (ع) الربانية التي أخرجت الإسلام من ظلمات الانحراف إلى النور الإلهي.

Endnotes:
  1. *: #_ftnref1

اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/16786/hussein2-2/