عاشوراء الحسين: قيم وأخلاق

عاشوراء الحسين: قيم وأخلاق

 (السماح للأنصار بالانصراف مصداقًا)

كذب من ادّعى أن ملحمة كربلاء هي ملحمة للبطولة والفداء فقط، بل هي مدرسة للرسالة المحمدية جمعاء بما فيها البطولة وسائر الأشياء، بل لا نغالي إذا قلنا: إن ملحمة كربلاء عندما دخلت في ضمير الأمة الإسلامية أصبحنا لا نبالي بأي انهيار ثقافي؛ كونها أصبحت ركيزة ثقافية قوية قد تركزت في عمق الإنسان المسلم؛ وذلك لأن قلبه قد أصبح خريطة مصغرة لكربلاء، منذ أن كان طفلًا رسم في عقله وقلبه شخصية الإمام الحسين (ع)، وشخصية أبناء وأصحاب الإمام (ع)، كون ملحمته ونهضته لم تكن بدعًا، بل هي امتداد لرسالات الأنبياء، ففي كل فصل من فصولها دروس وعبر استلهمتها من تاريخ الأنبياء المرسلين والمصلحين.

فكانت الأخلاق والقيم إحدى تلك الدروس والعبر، فهي شيم زرعها الإمام الحسين(ع) في أصحابه كونها من المسائل بالغة الأهمية من مفاهيم وقيم هذا الدين الحنيف. فالعامل الأخلاقي قد تداخل مع كل مرفق من مرافق الحياة وما جاء هذا الدين إلا لإكمال ما جاء به الأنبياء السابقون، فقال صاحب الرسالة (ص): “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. (المجلسي، بحار الأنوار، 68/382). وقد خاطب القرآن الكريم صاحب الرسالة بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة القلم، الآية 4)، وكأني بالقرآن يخاطب محمدًا (ص) قائلًا له: يا محمد، أنت من أسس الخلق الإسلامي الحنيف، وعليك تدور رحى النظرية الأخلاقية الإسلامية، بل آل بيتك شركاؤك بهذا الشرف العظيم لأنهم من أكمل مسيرة الرسالة بعدك، ومتى ما ابتعدت الأمة عن مبادئك والاستفادة من سيرة أهل بيتك العطرة كان مصيرها الانحطاط. فقد (زخر التاريخ بأحداث وعبر دلّت على أن فساد الأخلاق وتفسخها كان معولًا هدامًا في تقويض صروح الحضارات، وانهيار الكثير من الدول والممالك) (مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت، ص 6). وهذا ما حصل بالفعل، فأمة الإسلام بعد أن قادت العالم في القرون الأولى خسروا ذلك كله بعد انحرافهم عن سيرة رسول الإنسانية، وهذا الأمر جعلهم في حالة مزرية من التخلف والتسيب الخلقي. واليوم الأمة معنية بالخطاب القرآني: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سورة آل عمران، الآية 104) لكي تستعيد ما أغفلت عنه من تراثها الأخلاقي العظيم، وتنتفع من رصيدها المذخور، لتكسب هذه الأمة احترام العالم من جديد، وليكونوا كما أراد الله ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (سورة آل عمران، الآية 110).

وكربلاء الحسين إحدى هذه المعاقل التي دعيت الأمة لاستلهام العبر والدروس منها، فقد حوت دروسًا يعجز العقل البشري عن الوصول إليها إلا بعد حين، أليس الإمام الحسين هو القائل: “الخلق الحسن عبادة” (الكليني، الكافي، 2/331)، والقائل أيضًا: “نافسوا في المكارم وسارعوا في المغانم” (ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 175).

من هنا تحول الإمام الحسين (ع) من مجرد وجود شخصي إلى شعور إنساني؛ لأنه تجرد عن ذاته للحق ولوجه الحق الذي يمثله.

من صور المثل الأخلاقية التي طرحها الإمام الحسين (ع) في عاشوراء هي السماح لأنصاره بالانصراف، فقد وقف (ع) أمامهم جميعًا رافعًا صوته قائلًا: “ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعًا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا وذروني مع هؤلاء القوم حتى يفرج الله عني” (ابن طاووس، اللهوف في قتل الطفوف، ص 90)، “فتفرق الناس عنه، وأخذوا يمينًا وشمالًا حتى بقي من أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه” (الخوارزمي، مقتل الإمام الحسين، 1/311).

وقد قام (ع) بهذه الخطوة بعدما “علم أن الأعراب الذين اتبعوه إنما اتبعوه وهم يظنون أنه يأتي بلدًا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون” (الطبسي، مقتل الإمام الحسين، ص 273).

وثمة أهداف أخرى نقف على أهمها:

  1. كان عليه السلام يريد معرفة من جاء معه للنصرة الحقيقية ومن جاء معه لأجل الغنائم.
  2. أراد أن يغربل الأصحاب ليعرف من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها؛ كونه عليه السلام كان لا يريد أن يحمل معه من لا طاقة له بحمل دعوته ولا من ليسوا بمستواها، فالمهمة إذن منوطة به وحده وبعصبة رهطه وثلة صحبه، ولم يستعمل إغراءً ولا أسلوبًا آخر من قبيل تقديم الوعود والعهود بعودة حياة سعيدة زاهرة جميلة يعمها الصلاح والأمن وتطبيق الدين (محمد علي عابدين، التسيير الذاتي لأنصار الحسين، ص 45).
  3. أنه عليه السلام حرص على إظهار جبهة الثوار ومظهرها اللائق عبر التاريخ، فأراد أن يكون أصحابه واجهة مثالية يقتديها المسلمون، فقرر إبعاد العناصر الانتهازية والنفعية؛ وبذلك نجد قوائم أسماء من استشهد معه لا تحوي غير الشخصيات التاريخية الكفوءة والعملاقة (أمل الحسيني، قراءات في الثورة الحسينية، ص 144).
  4. أراد عليه السلام أن يجعل من نفسه عبرة لكل القادة على مدى الزمان في اختيار من يعتمدون عليهم ومن يقترن أسماؤهم باسم قائد كالحسين، حتى لا يتكرر ما حدث في عهد جده رسول الله فيكون في معركة الطف شهيدًا يسمى بشهيد الحمار.
  5. أنه عليه السلام أراد أن يحدث طفرة نوعية عند بعض الأشخاص الذين لم يكن هواهم معه كزهير بن القين – الذي كان عثماني الهوى -، والحر بن يزيد الرياحي – الذي انتقل من معسكر ابن سعد إلى معسكر الإمام الحسين – لكي يكونوا مضرب الأمثال للأجيال القادمة- (ينظر، أمل الحسيني، قراءات في الثورة الحسينية، ص ص 144-145).

وبهذا يكون الحسين (ع) قد استهدف النوعية وأهمل الكمية، استهدف النوعية الراقية الكفيلة ببيان سمو الغاية وجلال القصد، فلو أراد الكمية لتبعه ومنذ خروجه من المدينة إلى حين وصوله كربلاء آلاف مؤلفة من طلاب الدنيا، لكنه كان حكيمًا إزاء عملية التجنيد.

6- عندما أعلن لهم إحلاله من بيعته، إنما أراد بذلك أن تطلع الأجيال اللاحقة كلها على: أن أصحابه الذين ثبتوا معه لم يقاتلوا معه مجردًا للوفاء بالبيعة أو التزامًا بمنطق القبلية والعشائرية، أو دفاعًا عن رحم كان قد انتهك، أو خجلًا من التراجع عن الوعد، إنما هم قاتلوا عن مبدأ لعلمهم أن الإمام الحسين هو إمام مفترض الطاعة، كما أنهم أشفقوا على مبادئ الإسلام التي قرر يزيد وأتباعه القضاء عليها، كذلك إيمانهم المطلق بأن الإمام الحسين هو المعني بالتغيير، بل هو الوحيد القادر عليه، كذلك امتلاكهم الإرادة القوية وحسهم الديني بالشعور بالمسؤولية، كذلك إيمانهم أن الانحراف الكبير الذي أحدثه بنو أمية في الإسلام لا يوقفه إلا دم الشهداء. فقد كانوا رضوان الله عليهم أكثر وعيًا من غيرهم وأبصرهم بالواقع للفتنة التي عمت المسلمين، وبالتالي ضمنوا للأمة الإسلامية سلامة وصحة مسيرتها وعدم انحرافها، وسيرها بثقة مطلقة وهمة عالية بأن دور النبوة لن ينتهي فهناك إمام معصوم يقوم مقامه.

من هنا حصلوا على الدرجات العالية التي لا نبالغ إذا قلنا إنها درجات لم يحصل عليها حتى من قاتل مع رسول الله، فقال عنهم الحسين: “إني لا أعلم أصحابًا ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أصحابي وأهل بيتي” (المفيد، الإرشاد، 2/91). ووقف الإمام الصادق أمام هؤلاء الثلة قائلًا: “السلام عليكم يا أنصار دين الله، السلام عليكم يا أنصار رسول الله، السلام عليكم يا أنصار أمير المؤمنين، السلام عليكم يا أنصار فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، السلام عليكم يا أنصار أبي محمد الحسن بن علي التقي الزكي الناصح الولي، السلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله، بأبي أنتم وأمي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم فوزًا عظيمًا، فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم” (الطوسي، مصباح المتهجد، 2/723). فأيّ مقامات قد وصلوا إليها بحيث يتمنى الإمام المعصوم أن يصل إلى درجاتهم ومقاماتهم العالية. وثمة خطاب آخر له للأصحاب يحمل رائحة مبادئه وخلقه الرفيع ألا وهو قوله لهم: “من كان في عنقه دين أو حق للناس فليرحل” (لجنة من معهد الإمام الباقر، موسوعة كلام الإمام الحسين، 1/505). فقد أراد أن يوصل رسالة للمتسلطين على رعيتهم – بالرغم من أنه إمام مفترض الطاعة وسماحه لهم بالانصراف لا يعني قبولهم بالخيار- مفادها: أن الشهادة حتى لو كانت في كربلاء وبين يدي سيد الشهداء فإنها لا تسقط حقوق الناس، رغمًا عن احتياجه للنصرة في أحلك ظروفه، إلا أنه التزام أخلاقي يجب الوفاء به، وقد حرص (ع) على الوفاء بالعهود والمواثيق في أشد الظروف قساوة وأكثرها ألمًا ومحنة.

وأخيرًا نقول: إننا لم نقف على كل المواقف الأخلاقية التي تجلت يوم عاشوراء وكان بطلها الإمام الحسين (ع)، إنما سلطنا الضوء فقط على مفردة (سماحه للأنصار بالانصراف)، وقد اتضح جليًّا الجانب الأخلاقي الذي قام به الحسين (ع) في هذه المفردة ودلت على معانٍ نقف على بعض منها:

  1. إن الإمام الحسين بهذه الأخلاق استطاع أن يحقق النصر الحقيقي في المعركة، فهو وإن لم ينتصر في أرض الواقعة، لكن انتصرت مبادئه وأخلاقه، وأيقن المسلمون أن نهضته كانت نهضة سليمة جاءت لإصلاح الواقع وتغييره بعد أن جسّد هذا الإصلاح وهذا التغيير على أرض الواقع، بحيث دخل في سلوكها وأخلاقها، بل في كل مفصل من مفاصلها.
  2. دلّت أن الأخلاق الحسينية في الحرب تمثل المدرسة الإلهية التي علّمت العالم أجمع كيف يجب أن يكون القائد العسكري ناجحًا في معارك الشرف والكرامة.
  3. كذلك هي علّمت طلاب الدنيا كيف يجب أن يكون تعامل القائد الرسالي مع أتباعه وجنوده حتى يفدوه في ساعة العسرة بأرواحهم ويدافعوا عنه بكل ما أوتوا من قوة قبل أن يصاب هو بجرح واحد.
  4. علّمت العالم أجمع أن القائد وإن كان في أمس الحاجة لجنوده لا يجب عليه أن يستعمل الطرق الملتوية لأجل تحقيق النصر، فالصدق هو مفتاح الظفر وإن كان هذا الظفر معنويًا.

ختامًا، إن تجليات الأخلاق في المشهد العاشورائي كثيرة، لو أحصيناها لاحتجنا إلى مؤلفات ومؤلفات ما تملأ الخافقين، لأن أخلاقيات عاشوراء تتجدد كل يوم وكل زمان، فصدق من قال: “كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء”.

الأستاذة الدكتور أمل سهيل الحسيني

الأستاذة الدكتور أمل سهيل الحسيني

جمهورية العراق- جامعة الكوفة- كلية التربية



المقالات المرتبطة

التوظيف السياسي للتصوف

شهدت دولة الإمارات العربية المتحدة متغيرات كبيرة منذ وفاة مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عام  2004، حيث عُمِلَ

فلسفة المهدوية: العدالة ونهاية التاريخ

قد يكون من المبرّر منهجيًّا أن يُطرح أكثر من سؤال حول فلسفة المهدوية ومختلف أبعادها، وكيف يجب أن يُنظر إليها في إطار الرؤية الكونية الإيمانية….

فلسفة أبي العلاء المعري في لاميته

في قصيدة أبي العلاء المعري المعروفة بلامية أبي العلاء، حشد من الحكم والمأثورات الفلسفية التي تنم عن خبرة واسعة بالحياة ودروبها المختلفة، ومتناقضاتها التي لا تنفك تفاجئنا كل يوم بما لا نتوقع

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<