الفكر الإصلاحي بين محمد عبده وفرح أنطون

الفكر الإصلاحي بين محمد عبده وفرح أنطون

المقدمة

عاش العالم العربي/الإسلامي صدمة حضارية مروعة، عندما وصل الجيش الفرنسي بقيادة “نابليون بونابرت” مصر واحتلها عام 1798، ورغم أن الاحتلال لم يستمر إلا ثلاثة سنوات، إلا أن ما خلّفته الحملة، كان صدمة حضارية، أفاقت مصر والمسلمين على حقيقة غائبة عنهم، هي أن المسافة الحضارية بينهم وبين الأوروبيين هائلة.

كما أثمرت البعثات التي أرسلها حاكم مصر “محمد علي باشا” إلى فرنسا إلى رؤية تتضمن الانبهار العربي بالغرب، ومحاولة تقليدهم، والأخذ بأسباب حضارتهم، وبرزت أسئلة عن أسباب تخلف المسلمين، هل بسبب الإسلام؟ وقطعًا الإجابة بلا، ذلك أن الحضارة الإسلامية ظلّت تهيمن على العالم أكثر من خمسة قرون متوالية، وكانت نواة الحضارة الأوروبية الحديثة، ثمّ ظهرت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عدة أفكار تحولت إلى مدارس فكرية، تعمل على تضييق الفجوة الحضارية، ومحاربة الاستعمار، وتطبيق الإصلاح الاجتماعي.

من ضمن تلك المدارس مدرستان (بخلاف المدرسة المحافظة التقليدية)، هما مدرسة التنوير، التي تعتبر الإسلام دينًا ودولة، حضارة وروح، والأخرى مدرسة العلمانية، التي تريد الفصل التام بين الدين والدولة، المدرسة الأولى يمثّلها الإمام الشيخ المصري محمد عبده، والثانية يمثّلها الأستاذ اللبناني موطنًا والمصري إقامة “فرح أنطون”. 

(1)

النشأة والتكوين الفكري لكل من الإمام محمد عبده والأستاذ فرح أنطون

نشأة الإمام محمد عبده والمفكّر فرح أنطون  

وُلد الإمام محمد عبده عام 1849 في قرية “محلة نصر” مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، في شمال الدلتا بالقرب من الإسكندرية في مصر، أما بالنسبة للمفكّر والكاتب السياسي والاجتماعي والصحافي الأستاذ فرح أنطون، فقد ولد في مدينة طرابلس في لبنان، سنة 1874، أي إنه وُلد بعد الإمام محمد عبده بربع قرن من الزمان خمسة وعشرين عامًا، كان الإمام قد بدأ حياته العملية عندما كان فرح أنطون يحبو في درب الحياة طفلًا، وقد وُلد أنطون في بيئة مختلفة، لأن الإمام محمد عبده نشأ نشأة إسلامية بحتة، وفرح أنطون نشأ في بيئة غربية مسيحية، وبيئة عربية أيضًا، فيها الإسلام بمذهبيه السني والشيعي.

حفظ الإمام محمد عبده القرآن الكريم في كتّاب القرية، ثم التحق بالجامع الأحمدي[1] في مدينة طنطا وعمره ثلاثة عشر عامًا، فدرس علوم تجويد وترتيل القرآن الكريم بالقراءات المختلفة، وفي عام 1866 التحق بالجامع الأزهر الشريف، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية واللغوية، وكانت الدراسة في الأزهر- في ذاك الوقت- لا تخرج عن هذه العلوم في شيء، فلا تاريخ ولا جغرافيا ولا طبيعة ولا كيمياء ولا رياضيات، وغير ذلك من العلوم التي كانت توصف بعلوم أهل الدنيا، ولذلك فَقَدْ شَابَ الدراسة في الأزهر الكثير من التخلف والجمود، وتوقفت العلوم عند ظواهر الأشياء دون النفاذ إلى الجوهر، ومن ثم كانت الدراسة تنصبّ على المتون والحواشي والشروح بالدرجة الأولى، وهو ما نقده محمد عبده فيما بعد، ولكنه نجح ثم حصل عام 1977 على شهادة العالمية[2]، ثم عمل بالتدريس في كلية دار العلوم، وأما بالنسبة لفرح أنطون، فقد بدأ تعليمه وهو طفل بمدرسة ابتدائية أرثوذكسية، تعلّم فيها أصول اللغة العربية وقواعدها، كما تعلّم اللغة الفرنسية، وقرأ الكتاب المقدس، ثمّ التحق بمعهد كفتين في قضاء الكورة بلبنان[3]؛ وكان معهدًا ذائع الصيت لدقة برامجه وقيمة أساتذته العلمية، وقد عرف فرح أنطون بذكائه وإقباله على المطالعة، ثم تخرج من معهد كفتين في العام 1890 وهو ابن ست عشرة سنة فقط[4].

لقد نشأ الإمام محمد عبده نشأة دينية تقليدية، بينما نشأ الأستاذ فرح أنطون نشأة غربية وسط محيط عربي إسلامي، وقد أثّر ذلك على مسيرته التي توّجها بتبني العلمانية منهجًا فكريًّا، كما كان وما زال للبيئة اللبنانية أثر بارز في مسيرة فرح أنطون، فالبيئة اللبنانية تتميّز بالتنوع والتعدد، في الثقافة والسياسة على السواء، وتعرّف لبنان قبل غيره من الدول العربية على الثقافة الغربية خاصة الفرنسية،  وهو ما سهّل على فرح أنطون التعرف على الثقافة الغربية والفكر الفرنسي.

لقد حفظ الإمام محمد عبده القرآن وجوّده، ثم تخرج من الأزهر، ولكنه لم يكتف بما حصّل، بعد أن رأى جمود الأزهر علميًّا وفقهيًّا، فبدأ يقرأ في شتى العلوم والمعارف، خاصة وأن البيئة كانت ملائمة، فقد عاصر الإمام نشأة المدارس (الكلّيات فيما بعد) المدنية التي أسسها حاكم مصر “محمد علي”، ثم بدأ القراءة المنتظمة في كل المعارف والفنون، قراءة متعمقة نقدية، قرأ في الفلسفة والمنطق والتاريخ، بينما عكف فرح أنطون على متابعة التحصيل في بيته، عبر قراءات فرنسية غزيرة، بحيث أتيح له أن يطلع على الفكر الغربي ويتعرف مباشرة على الآراء السياسية والاجتماعية والفلسفية والاقتصادية لأهم المفكرين، أمثال جان جاك روسو في “العقد الاجتماعي”، وكارل ماركس في “البيان الشيوعي” و”رأس المال”، وأرنست رينان في “تاريخ السيد المسيح”، وجول سيمون في “حل المشاكل العمالية”، وفريدريك نيتشه في “مفهوم الرجل المتفوق”، وليون تولستوي في رائعته “الحرب والسلام”[5]. هذا إلى جانب قراءاته المتعددة للفلاسفة العرب في عصور النهضة الإسلامية، وهو ما يعني أنه أستاذ نفسه، علّم نفسه بنفسه، ووصل لأعلى أفق من الثقافة الفكرية.

في حين أن البيئة المصرية أثّرت على محمد عبده، لأن البيئة المصرية كانت مستعدة للرقي، صالحة لغرس بذور هذه النهضة، وظهور ثمارها، أو بعبارة أخرى أن مصر بما فيها جامع الأزهر، والمعاهد العلمية الحديثة، والتقدم العلمي الذي ابتدأ منذ عهد محمد علي، كانت على استعداد لتقبل دعوة محمد عبده، ومن قبله جمال الدين الأفغاني للتجديد الفكري والثقافي، واستقبلت فيما بعد فرح أنطون نفسه، ونشر أفكاره فيها، أي إن البيئة المصرية واللبنانية أثرتا على فرح أنطون، كما فعلت البيئة اللبنانية، التي وُلد أنطون فيها، كما عاش محمد عبده عدة سنوات في لبنان، أثّرت في مسيرته الفكرية والإصلاحية.

روافد الثقافة… مصادر التكوين الفكري/الثقافي عند الإمام والأستاذ

كان حفظ الإمام محمد عبده للقرآن الكريم وتفسيره وتجويده، أهم الروافد الفكرية له، ورغم أن التدريس في الأزهر الشريف كان تقليديًّا، ولكنه احتفظ بوعيه الثقافي، عندما قرأ لكل تفاسير القرآن عند كل المذاهب الإسلامية، الشيعية والسنيّة، بما فيها من تصوف وعرفان.

في حين أن فرح أنطون تعلّم اللغة الفرنسية جنبًا إلى جنب مع اللغة العربية، فأخذ من الثقافة الفرنسية منهج الشك النقدي، وقرأ بعمق كتابات “جان جاك روسو وفولتير ومونتسيكيو”، وغيرهم من كتّاب عصر ما قبل وبعد الثورة الفرنسية، فأخذ من فكر “جان جاك روسو” مفهوم المواطنة والصوت الانتخابي، وأن المواطنة لا تلغي أو تقلل من قيمة الأفراد بسبب أديانهم أو أعراقهم، وأن المواطنة هي الجامع البديل لوحدة الدول، والأهم هو أنه تشرّب أفكار جان جاك روسو وجول سيمون وكارل ماركس[6] آراءهم الديمقراطية والاشتراكية فأعجبه مناخ الحرية في كتاباتهم[7]. ولكنه يستدرك بالقول: إن الدين ضرورة لحياة المواطن، بعيدًا عن احتكار رجل الدين له.

وأما محمد عبده، فقد كان لبعض الشيوخ عليه أثر فكري متميز، أولهم الشيخ “درويش خضر”، والذي كان شيخًا متصوّفًا، وعرفه منذ صباه، وهو الذي جعله يمكث في الأزهر، بعد أن كاد يتركه، وكان محمد عبده يلتقي به في إجازته من كل عام، فيتعهده بالرعاية الروحية، والتربية الوجدانية، فيصبُّ في روحه من صوفيته النقية، ويشحذ عزيمته ونفسه بالإرادة الواعية، ويحركه للاتصال بالناس، والتفاعل مع المجتمع، ويدعوه إلى التحدث إلى الناس ونصحهم ووعظهم، وهو الذي ساعده على تجاوز حدود العلوم التي درسها بالأزهر، ونبهه إلى ضرورة الأخذ من كل العلوم، بما فيها تلك العلوم التي رفضها الأزهر، وضرب حولها سياجًا من المنع والتحريم.

أما الشيخ الثاني وهو أستاذ أزهري الذي كان له أثر كبير في توجيه محمد عبده إلى العلوم العصرية، هو الشيخ “حسن الطويل”[8] الذي كانت له معرفة بالرياضيات والفلسفة، وكانت دروسه في الأزهر في المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يُدرّس في دار العلوم مقدمة ابن خلدون، كما ألّف كتابًا في علم الاجتماع والعمران، وكان له اتصال بالسياسة، وعُرف بالشجاعة في القول بما يعتقد دون رياء أو مواربة، وقد حركت دروس الشيخ “حسن الطويل” روح ونفس محمد عبده، ودفعته إلى البحث عن المزيد، كما دفعه ذلك إلى الانخراط في الحياة العامة بما فيها من سياسة وثورة.

ثم جاء المعلّم الثالث، وهو السيد “جمال الدين الأفغاني” الذي استقر في مصر مدة ثمانية أعوام (1871 – 1879)، حرّك فيها المياه الفكرية في مصر والشرق العربي بأسره، اتصل محمد عبده به، وصارا صديقين حميمين في الفكر والسلوك، قال محمد عبده عن أثر الأفغاني عليه وعلى فنون الكتابة وتطورها على يده: “كان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله فكري، وخيري باشا، ومحمد باشا سيد أحمد على ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي على اختصاص فيه، ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها، ومن عشر سنوات ترى كتبه في القطر المصري، لا يشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه، أو عن أحد تلاميذه، أو قلد المتصلين به”[9]، فقد كانت روح جمال الدين لها الأثر البالغ في نهضة العلوم والآداب في مصر، بمن فيهم محمد عبده نفسه.

أما بخصوص فرح أنطون، فقد كان له رافدان فكريان، هما الثقافة الفرنسية كما ذكرنا، وكذلك الثقافة العربية، فإلى جانب ثقافته الفرنسية، فقد طالع فرح أنطون مؤلفات الفلاسفة العرب، مثل الوليد بن رشد، والفارابي، وأبي حامد الغزالي، وعمر الخيّام، وابن طفيل وغيرهم.. فكانت ثقافته واسعة انحاز فيها إلى الإنسان، وآمن به بقطع النظر عن جنسه ولونه وعقيدته.. وتميز بمواقفه الجريئة والتحررية ودعوته إلى التسامح ونبذ العنف والتعصب، ورغبته في نشر أهم النظريات العلمية والفلسفية التي أثرت في الغرب وكانت أساس نهضته. إلا أنّه واجه موجة من الانتقادات والتهم بالإلحاد والعلمانية[10]. كذلك تأثر فرح أنطون بفكر محمد عبده نفسه، قرأه قراءة نقدية، اتفق واختلف معه، بعد أن وصل الإسكندرية، عندما هاجر سنة 1897 إلى مصر، واعتنى بالعمل الصحفي فأصدر مجلّة “الجامعة” في مصر، وكذلك فعل حين اتجه إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة حيث أصدر مجلة وجريدة بالاسم نفسه، فضلًا عن أنّه تولّى تحرير جريدة “صدى الأهرام” مدة ستة أشهر، وكتب مقالات بأسماء مستعارة في مجلة “السيدات” المصرية، والتي بعثها لأخته روز أنطون حداد وعدة صحف أخرى. ولكن جرأة كتاباته في مهاجمة الظلم والاستبداد تسبّبت في إغلاق كل صحيفة أو مجلة ينشر بها مقالًا. وهو ما حصل مثلًا مع صحيفة “مصر الفتاة”، وصحيفة “المحروسة”، وصحيفة “الأهالي”[11].

 

المجالات الفكرية للإمام والأستاذ 

كان لكل من الإمام محمد عبده وفرح أنطون مجالات فكرية تأثروا بها وأثروا الفكر من خلالها، ومنها قاما كل منهما بالقراءة والتأليف والنشاطات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وأسهما كلّ بطريقته في نشر الوعي والتنوير.

فيما يتعلق بالإمام محمد عبده، فإنه ساهم بعد التقائه بأستاذه السيد جمال الدين الأفغاني في إنشاء حركة تنويرٍ واسعة في العالم العربي ونهضةٍ فكريةٍ تجديديةٍ، كانت تهدف إلى القضاء على الجمود الفكري والكساح العقلي، كانت مجالاته متعددة، فكرية وسياسية وتعليمية واجتماعية، وأمّا فرح أنطون، فقد ظهر أثر فكر الثورة الفرنسية وإعلان مبادئها حول المواطنة وإبعاد الدين عن السياسة، ولكنه التقى مع الإمام في بعض أفكاره، وإن اختلفت الوسيلة، كما يلي:

المجال الفكري الإصلاحي

كان مجال محمد عبده الأول هو التجديد في الفكر ومكافحة الاستعمار والاستبداد معًا، وقد استخدم قلمه في تأليف الكتب وكتابة المقالات، فاتصل بعدد من الجرائد، كان يكتب في “جريدة الأهرام” مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، فكتب مقالًا في “الكتابة والقلم”، وآخر في “المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني”، وثالثًا في “العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية”[12].

أما المجالات الفكرية لفرح أنطون التي قرأها واهتم بها وألّف عنها، كانت متنوعة وعديدة، فكرية وأدبية من شعر ومسرح وروايات، كلها خدمت مشروعه الفكري، فقد ظل الفكر هو الهمّ الأكبر لفرح أنطون، وظهر أثر التلاحم الفكري العربي والثقافة الغربية عليه، عندما أسس جريدة “الجامعة”، وعندما طرح أفكاره في الجرائد المصرية، حتى بعد أن هاجر إلى أمريكا، ولأن الفكر مرتبط بالسياسة، فإن فكره النقدي، هو ما دفعه لخوض معارك سياسية فكرية[13].

لقد تركزت جهود محمد عبده في مجال الإصلاح الديني بمختلف مستوياته، حثًّا على الاجتهاد ومحاربة للتقليد والجمود وتثمينًا للعلم وعطاءات الفكر الإنساني، وإصلاحًا لطرق تدريس العلم الديني ومناهجه، واستطاع أن يقدم إجابات متكاملة ضمن بناء فكري متناسق في موضوع الإصلاح والنهضة عمومًا، في حين ظلّ فرح أنطون على موقفه الرافض للجمع بين السياسة والدين، أو التقريب بين العلم والفلسفة من جانب، وبين الدين من جانب آخر.

لقد وصف برهان غليون محمد عبده بأنه الوحيد الذي حاول أن يقدم جوابًا عمليًّا وشاملًا لكل المسائل المرتبطة بالنهضة، وأن يدرج في هذا الجواب العامل الديني، ليخرج منه برؤية توليفية، تجمع بين ضرورات تمثل عناصر الحضارة، وحاجات الحفاظ على الهوية والوحدة الاجتماعية[14].

كما يُعتبر محمد عبده، كما يقول الدكتور محمد عمارة، عقلًا من أكبر عقول الشرق والعروبة والإسلام في عصرنا الحديث[15]؛ لأنه الأكثر ثراء في الفكر والتنظير، والأكثر تأثيرًا في عصره ومن بعد عصره، وقد كان محمد عبده، على غرار بعض من سبقه، وخصوصًا أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، يعتبر الإصلاح الديني أساس كل إصلاح، ويضيف إلى ذلك اعتبار الاهتمام بالتربية والتعليم أداة الإصلاح الكبرى[16].

والذي جعل فكر محمد عبده بأن يكون له تأثير واسع المدى هو تجديده ونجاحه إلى حد كبير في صياغة منهج، ينطلق من الانسجام بين مبادئ الإسلام ومقتضيات شريعته من جهة، ومعطيات الحضارة الإنسانية المعاصرة من جهة أخرى [17].

في حين ظل فرح أنطون في مشروعه العلماني، خاصة أن وصول فرح أنطون إلى مصر عام 1897، وكان محمد عبده مشغول بالفقه والقضاء والإفتاء وإصلاح التعليم، ولم يمر وقت طويل حتى رحل عن الحياة عام 1805، وظل فرح أنطون بعدها سبعة عشر عامًا، يبشّر بمشروعه الفكري، حتى مات عام 1922.

المجال السياسي

أسهم محمد عبده في النضال السياسي، إلى جانب أستاذه جمال الدين الأفغاني، فانضم إلى “الحزب الوطني الحر” الذي أسسه الأفغاني، وهو حزب ناضل من أجل صد التدخل الأجنبي الزاحف آنذاك على مصر، واستخلاص مصر للمصريين من أيدي الشراكسة والأتراك، ومن أجل إقامة الحياة الدستورية النيابية[18].

أما فرح أنطون، فقد جاءت فكرة الوطن، لتتوج عملية الاتحاد والتألق والتجمع لقوى الأمة في مواجهة العدو المشترك، والعدو المشترك هو الاستبداد والاستعمار، ويحتاج الوطن إلى الوحدة، وإذا كان الوطن يشكل الرابط السياسي والقانوني والمادي، فإن الله يشكّل الرابط المعنوي والروحي الذي تقوم عليه أخلاق الأمة، كما تقوم عليه مبادئ الثقة والحق والمساواة والواجب[19]، فمن واجبات الإنسانية – كما يرى فرح أنطون –  الدفاع عن الوطن، وحب الوطن جزء من الإيمان، ورباط يربط عناصر الأمة، والوقوف بوجه الغرب يدعو للنظر إلى الأمام، وعدم الانغلاق، ومن ثمّ التقدم والتطور للإنسانية، وبناء المدنية القائمة على العقل والعلم والتكتيك، ويجب تماسك الإسلام والمسيحية وكأنهم كالبنيان المرصوص[20].

ولما نُفي الأفغاني من مصر سنة 1879م، تم إبعاد محمد عبده عن التدريس، ثم نفي إلى قريته “محلة نصر”[21]، وصدر عفو عنه سنة 1880، وعُيّن محرّرًا في صحيفة “الوقائع المصرية” الرسمية، ثم رئيسًا لتحريرها، واشتغل في هذه المرحلة بالصحافة والسياسة، وساند الثورة العرابية بكل قواه بعد اندلاعها سنة 1881، فلما انهزمت عام 1882 واحتلت بريطانيا مصر، سُجن ثلاثة أشهر، ثم حكم عليه بالنفي خارج البلاد لثلاثة سنوات، امتدت لتصل إلى ستة سنوات، ولقد انتقل الإمام إلى بيروت ثم إلى باريس سنة 1883، حيث أصدر مع الأفغاني صحيفة “العروة الوثقى” التي كانت تتضمن مقالات تندد بالاستعمار وتدعو إلى التحرر من الاحتلال الأجنبي بجميع أشكاله، فتم إيقافها بعد سنة تقريبًا، ثمّ عاد مرة أخرى إلى بيروت سنة 1885، واشتغل بالتدريس والتأليف والتوعية، وبث فكره الإصلاحي، ثم عُيّن قاضيًا أهليًّا، ثم مستشارًا في محكمة الاستئناف، كما عيّن عضوًا في مجلس إدارة الأزهر قبل أن يصبح مفتيًا للديار المصرية، وكان أول مفتي مستقل في مصر عام 1895، إذ كان منصب الإفتاء يشغله قبل ذلك شيخ الجامع الأزهر[22].

أما بخصوص فرح أنطون، فقد عاش حياته، وقد ملأها بالمعارك من أجل الحرية ودفاعًا عن العقل والعلم.. وعن الفقراء وقد أصدر فرح العديد من الصحف لعل أشهرها وأكثرها ذيوعًا مجلة “الجامعة” التي تحولت وبسرعة إلى منارة للعلم والعقل، ودارت على صفحاتها ومعها وحولها نقاشات تفيض بالاستنارة والليبرالية. لكن المفكر والصحفي والفيلسوف الذي كانت حرارة كلماته دائمًا عالية، تغلي من فرط هجومها على الظلم والطغيان والاستبداد ودفاعًا عن الفقراء فتتسبب دومًا في إغلاق كل جريدة يكتب فيها، ثم عاد فرح أنطون ليصدر جريدة “الأهالي” فيشن فيها هجومًا شديدًا يقول فيه: إن هناك من يريد منا أن نكون من أهل الكهف وعلى صحفنا أن تكون قبل صدورها من أهل القبور، فالحياة أصبحت مباحة في مصر لفريق من الناس دون فريق، فلا عدل ولا أمن ولا حرية إلا إذا وافقت هذه الأمور أغراض الحكام أو أهواءهم[23]. كانت قضيته في النهاية الوطن والعلم والحرية.

مقارنة بين التنويري والعلماني

نجد هنا فروقًا بين الإمام والأستاذ أثّرت على مسيرة كل منهما، بدون تفضيل رأي على رأي، ذلك أن الإنسان ابن بيئته ونشأته.

فالإمام محمد عبده بيئته إسلامية صرفة، لا أثر فيها لروافد غربية في سنين حياة الإمام الأولى، من الطفولة وحتى بدايات الشباب، ولذلك وعندما بدأت سيرته تتخذ منهجًا تنويريًّا، كان من منطلق قناعاته الإسلامية، خاصة بعد أن التقى بالسيد جمال الدين الأفغاني، فكليهما أرادا نهضة الأمة بالعودة إلى جذور نهضتها التاريخية، ومن خلال إحياء العقل المسلم بمواريثه القرآنية، لأن القرآن الكريم حرض المسلم على التأمّل والبحث بعقلية متفتحة للكون، وهو العقل الذي اعتمد عليه محمد عبده عندما أراد إصلاح المجتمع، مع التأكيد على أن الإمام أراد أن يأخذ من الحضارة الغربية ما يتفق مع الدين الإسلامي، وظهر هذا جيدًا في مؤلفاته ومسيرته كلها.

أما بالنسبة للأستاذ فرح أنطون، كانت ثقافته غربية المنشأ والتربية والتكوين الثقافي، بحكم دينه المسيحي من ناحية، ولبنانيته من ناحية أخرى، وعندما بدأ قراءاته المبكرة، كانت باللغة الفرنسية، فتأثر بالميراث الفرنسي من “جان جاك روسو”، و”رينان”، ثم قرأ لباقي أدباء الغرب في روسيا وبريطانيا وألمانيا، ومن هنا جاءت فكرته عن فصل الدين تمامًا عن الدولة، وإحياء قيمة المواطنة، وهي الفكرة العلمانية بأصولها الحرفية، وحتى عندما ألّف “فرح أنطون” كتابه عن “ابن رشد” فقد كتبه بالعيون الأوروبية، فنظر لابن رشد كأنه فيلسوف غربي، لأن ابن رشد شرح فلسفة أرسطو وقدمها لأوروبا، وكانت بدايات عصر العقل والنهضة الأوروبية، وظل “فرح أنطون” مخلصًا لفكره سواء عاش في لبنان أو مصر أو أمريكا، وقد روّجها في كتاباته الفلسفية والصحفية والأدبية من مسرح وقصة[24].

(2)

الإنتاج الفكري لكل من محمد عبده وفرح أنطون

ترك الرجلان محمد عبده وفرح أنطون إنتاجًا فكريًّا متميّزًا، تركا مؤلّفات قيّمة، أثرت وأثّرت في الفكر العربي، وقد كان أثرهما عظيمًا في محاربة الاستعمار ومهاجمة التقليد، ومن ثمّ أسسا مدارس للتنوير، كما تركا تلاميذ انتشروا في الأرض العربية، فحاربا جمود التقليد، وأسّسا لنهضة عربية.

مؤلفات كل من محمد عبده وفرح أنطون

ترك كل من الإمام محمد عبده والمفكّر فرح أنطون عدة مؤلفات متنوعة، أكّد كل واحد منهما منهجه وتشخيصه وعلاجه لمشكلات الأمة، فالإمام محمد عبده ألّف عدة كتب، منها ما دعا فيه للتجديد ورفض الجمود، ومحاولة إعادة الأمة لأصولها القرآنية السنيّة، مثل كتاب “رسالة التوحيد”، وكتاب تحقيق وشرح “البصائر القصيرية” لأبي الحسن الطوسي الشيعي، كما حقّق كتابين في اللغة العربية، وهما تحقيق وشرح “دلائل الإعجاز”، و”أسرار البلاغة” للجرجاني.

 كما دخل في حوار عقائدي في الرد على المستشرق الفرنسي”هانوتو”، وأيضًا ناقش وحاور المستشرق “إرنست رينان” في كتابه “الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية”، ثم شرح كتاب “نهج البلاغة” المنسوب للإمام علي بن أبي طالب، فقد رأى محمد عبده أن في خطب نهج البلاغة إعجاز لغوي عربي سليم، وهو الشرح الذي ما زال يعتمد عليه الباحثون حتى اليوم.

كذلك شرح “مقامات بديع الزمان الهمذاني“، كما كانت مقالاته في جريدة العروة الوثقى“، مع معلمه السيد جمال الدين الأفغاني من أبرز محاولاته التجديدية، وحاول تفسير القرآن الكريم، فلقد كان من أهداف محمد عبده تنقية تفسير القرآن، مما علق به من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة والخرافات والاستطرادات النحوية، وقد كانت طريقته في الدرس التوسع فيما أغفله أو قصر فيه المفسرون واختصار ما برزوا فيه[25].

وكل مؤلفات محمد عبده، تنطلق من فكر يربط التراث الإسلامي بالفكر المعاصر، الدين هو الأساس كما ذهب الإمام الشيخ.

أما بالنسبة للأستاذ فرح أنطون، فقد ترك مؤلفات وتلاميذ كما فعل محمد عبده، ولكن في تياره العلماني الذي اتخذه منهجًا فكريًّا، دافع عنه طوال حياته، ظهر ذلك واضحًا في مقالاته في مجلة “الجامعة” التي أسسها وأصدرها في مصر، وهو ما زال شابًّا يافعًا، وأيضًا مقالاته في جريدة صدى الأهرام، وجريدة الأهالي، وكلها صدرت في مصر، وأصدر عدة كتب فكرية فلسفية “ابن رشد وفلسفته”، و”الدين والعلم والمال”، وهما الكتابان المهمان الذي يظهر فيه عقيدته وهدفه العلماني.

كما نشر فكره أيضًا في رواياته: “الوحش”، “أورشليم الجديدة أو فتح العرب بيت المقدس”، “كريم قبل التوبة”، “ثلاثيته: نهضة الأسد، وثبة الأسد، فريسة الأسد”[26]، كما ألّف عدة مسرحيات منها: “مصر الجديدة أبو الهول يتحرك”، و”السلطان صلاح الدين”، و”بنات الشوارع وبنات الخدور”، كما أسهم في ترجمة عدة روايات أجنبية هي: “أوديب ملكًا لسوفوكلس”، و”الساحرة لسوفوكلس” أيضًا، ورواية “ابن الشعب لديماس”، وكل هذه الروايات والمسرحيات المؤلفة والمُترجمة، كلها تصب في خانة ضرورة فصل الدين عن السياسة، وإعلاء شأن المواطنة، وهو بعكس الإمام محمد عبده الذي يرى ضرورة أن تكون بداية النهضة من مفردات الدين الإسلامي، لأنه مشروع نهضة، ولكن فرح أنطون بحكم عقيدته، رأى أن يكون الوطن بديلًا للدين، مع احتفاظ كل مواطن بعقيدته بينه وبين الله[27].

الأفكار المحورية عند كل من محمد عبده وفرح أنطون

من خلال قراءة مؤلفات محمد عبده وفرح أنطون، نجد أنهما أكّدا فكرهما في مؤلفاتهما.

بالنسبة للإمام محمد عبده، فقد رأى على سبيل المثال، إصلاح اللغة العربية من خلال شرحه لكتاب “نهج البلاغة” الذي جمعه “الشريف الرضي” منسوبًا إلى الإمام علي بن أبي طالب [ع]، وقد شرح محمد عبده الغامض من كلام الإمام علي واعتبره من إعجاز الإسلام، لأنه ينهل من القرآن الكريم[28].

أما الأهم في كتب الإمام هو ما جاء في ردوده على “أرنست رينان”، و”مسيو هانوتو”، سواء في المقارنة بين الإسلام والنصرانية، مع “رينان”، أو في ردوده على “مسيو هانوتو”، نجده يؤكد على أن الإسلام دين العلم والمدنية، ومن ثمّ يردّ على “مسيو هانوتو” فيما يتعلق بمعنى الجمع بين السلطتين الدينية والمدنية في شخص واحد في الديانة الإسلامية، معتبرًا أن هانوتو لم يدرك معنى السلطتين في شخص واحد عند المسلمين، لأن المسلمين لم يعرفوا في عصر من العصور سلطة دينية، كما كانت للبابا على الأمم المسيحية عندما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقرر الضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية[29]

إن الشريعة الإسلامية، كما يقول محمد عبده، قررت حقوقًا للحاكم الأعلى، وهو الخليفة أو السلطان، وهي ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان الذي يدير البلاد بالسياسة الداخلية أو السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس له عليهم إلا الترقية والعزل، وليس لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن، وفي نظر محمد عبده، أن الدولة العثمانية وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرّعت نظام الطريقة والحكم وعدد الحاكمين ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء مسيحيون[30].

فالسلطة المدنية إذن، هي صاحبة الكلمة الأولى، كما يطلب مسيو هانوتو، ويضيف أيضًا أن سياسة الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية ليست سياسة دينية، ولم تكن قط من يوم نشأتها إلى اليوم، وإنما كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة، وفي أخرياتها دولة سياسية ومدافعة، ولا دخل للدين في شيء من معاملاتها مع الأمم الأوروبية، ولكن مع ذلك، “لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين، بل كان الأمر معكوسًا، فأمراؤنا السابقون لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين، لما استطاعوا المجاهرة بمخالفته في ارتكاب المظالم، والمغالاة في وضع المغارم، والمبالغة في التبذير الذي جرّ الويل على بلاد المسلمين، وأفقدها أعز ما كان لديها وهو الاستقلال”[31].

ويقول محمد عبده حول أحقية العقل في التعامل مع النص الديني: “فلم يعول فيها إلا على تنبيه العقل البشري، وتوجيهه إلى النظر في الكون، واستعمال القياس الصحيح، والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب، وتعاقد الأسباب والمسببات، ليصل بذلك إلى حقيقة أن للكون صانعًا، واجب الوجود عالمًا حكيمًا قادرًا، وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان”[32].

فالإسلام في هذه الدعوة، حسب محمد عبده، يدعو إلى معرفة الله ووحدانيته من خلال استعمال العقل في الطبيعة: “فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته، لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري”[33].

وبالنسبة لفرح أنطون، فقد جاءت مؤلفاته المسرحية والقصصية والفكرية، تسير في الطريق الذي وضعه لنفسه، وقد بدأ أنطون بطرح سؤالين: الأول يتعلق بغرض الأديان في الأرض، والثاني بغرض الحكومات، ويرى أنطون أن غرض الأديان تعليم الناس عبادة الله تعالى، وحثهم على القضاء، وإصلاح شؤونهم بالطرق المذكورة في كتبها[34]، أما غرض الحكومات، فهو: حفظ الأمن بين الناس، أي حفظ حرية كل شخص ضمن دائرة الدستور، وهذا الدستور لا يجيز أن يؤخذ من حرية الشخص شيء، إلا بمقدار ما يجب أخذه لمصلحة الجمهور، فالشخص فيما عدا هذه الحالة حر بالمطلق تحت قبة السماء، يروح ويغدو متى شاء، ويفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويعتقد ما يشاء[35].

إن فرح أنطون يضع حدًّا فاصلًا بشكل مطلق منذ البداية، بين أغراض الدين وأغراض السياسة، وأنه إذا حصل تداخل بينهما، أو تولّت الأديان زمام الحكومات، اضطرت بحكم طبيعتها، كما يقول فرح أنطون، إلى الضغط على الفكر الإنساني، كما كان يحدث في أوروبا، وقاومت كل فكر جديد، ويضيف: إنه لولا فصل الأوروبيين بين السلطتين الدينية والمدنية، لما ترسخ التمدن في أوروبا هذا الرسوخ الذي نراه الآن[36].

لقد حاول فرح أنطون وهو يتناول محنة ابن رشد، الإيحاء بأن الإسلام حمل في تاريخه نوعًا من الاضطهاد للعلماء والمفكرين، وهو ما رفضه محمد عبده، الذي أشار إلى أن المسلمين تسامحوا مع أهل العلم من كل ملة، وأن المسلمين في زمن الخلفاء الأوائل لم يقفوا عند احترام أهل العلم من المسيحيين واليهود فقط، بل أوكلوا إليهم العديد من الأعمال الجسيمة، مؤكدًا أن قضية التسامح في الإسلام تحظى بعناية كبيرة[37]. ولم يكتف الإمام محمد عبده بذلك، بل ذهب إلى التذكير بكيفية الاضطهاد المسيحي للمغايرين في الدين، ضاربًا المثل بما تم مع المسلمين واليهود بعد سقوط الأندلس[38].

وهنا يسارع فرح أنطون إلى القول: إن المسيحية لا تتحمل مسؤولية الفظائع التي ارتكبها أتباعها من الجهلاء في الغرب، ثم نحن في الشرق لا في الغرب، والشرقيون المسيحيون لا علاقة لهم بالغرب، إلا كما لإخوانهم من المسلمين من علاقة به[39].

انتشار فكر محمد عبده وفرح أنطون

انتشر فكر محمد عبده وفرح أنطون في العالم العربي، من خلال الكتب المنشورة والجرائد والمجلات، والتلاميذ الذين تأثّروا بفكر كل منهما.

بالنسبة لمحمد عبده، فقد ثبتت اتصالاته بالعديد من العلماء والشباب في الشام والعراق وأفغانستان والهند والمغرب العربي الكبير، وذلك من خلال المراسلات أو الزيارات أو المقالات في الصحف والمجلات، وفي مناطق متعددة من العالم الإسلامي[40]. منهم “محمد رشيد رضا”، و”قاسم أمين”، و”أحمد لطفي السيد”، و”طه حسين”، و”علي عبد الرازق” وغيرهم كثيرون في مصر وخارجها مثل “عبد الحميد بن باديس” بالجزائر، وهي مدرسة ممتدة حتى اليوم[41].

وهكذا كان للأستاذ الإمام، كما يقول عباس محمود العقاد، تلاميذ في أرجاء العالم الإسلامي شرقًا وغربًا، أكثرهم من أصحاب الفكر المتدينين، الذين يقومون بواجبهم في كل بلد إسلامي كما قام به الإمام في وطنه مصر، فيكافحون الجمود من جهة، ويكافحون التفرنج الذميم من جهة أخرى[42]، محمد عبده إذن تنويري إسلامي.

وكما ترك محمد عبده تلاميذ منتشرون يتبنون أفكاره، ترك أيضًا “فرح أنطون” تلاميذ انتشروا في البلاد العربية، وإن ظلّوا قلة، لأنهم يتحدثون على أهمية العلمانية، بفصل الدين عن السياسة، منهم “زكي نجيب محمود”، وسلامة موسى”، و”حسن حنفي”، و”فرج فودة”، و”محمد أركون”، و”محمد أحمد خلف الله”، و”نصر حامد أبو زيد”، و”مراد وهبة” وغيرهم كثيرون[43].

أهم القضايا التي شغلت محمد عبده وفرح أنطون

من خلال الإطلاع في مؤلفات كل من محمد عبده وفرح أنطون، يتبين أنهما كانا مهمومين بقضايا اجتماعية وفكرية ودينية.

القضايا الفكرية والاجتماعية عند محمد عبده وفرح أنطون

أسهم محمد عبده بفترة من حياته في العمل السياسي المباشر، وكان له فيه بلاء، لكن إسهامه الأكبر كان في بث فكر سياسي إسلامي ديني تجديدي، وتجديد الخطاب الديني فقهيًّا بفتاويه، وبمراجعة كتابات الأستاذ الإمام في الموضوع، نفاجأ ليس فقط بغزارتها، ولكن أكثر من ذلك بالوضوح الفكري والمنهجي في تناولها، وتعتبر من أهم مضامين الإصلاح الديني الذي بشر به، ويرجع الشيخ محمد عبده سبب جمود الإسلام، إلى الاستبداد السياسي الذي يخاف خروج فكر واحد من حبس التقليد، فتنتشر عدواه، فينتبه غافل آخر ويتبعه ثالث، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين، إلى آخر ما يكون من حرية الفكر يعوذون بالله منها[44].

وكان يرى أن الإصلاح يبدأ في الفكر ومحاربة الجهل، والتخلف دون رفض أصل حضارتنا العربية وهو الإسلام، وأن تغيير المجتمع وإصلاحه يجب أن يكون تدريجيًّا، وعن طريق التعليم ومواجهة الجمود والتخلف[45].

كما رأى ضرورة إصلاح المناهج التعليمية، وقد لخص منهجه في الإصلاح الديني واللغوي، وكان لا يرى طريقًا للإصلاح الديني سوى بإصلاح الأزهر، وقال في ذلك جملته الشهيرة: إن بقاء الأزهر متداعيًا على حاله محال، فهو إما أن يعمر، أو أن يتم خرابه[46]. وقد وصف الأزهر بأوصاف قاسية، إذ كان يراه باعثًا على الجمود. ولم تتح لمحمد عبده فرصة إصلاح الأزهر إلا بعد أن تولى الخديوي عباس الثاني الحكم، حيث أصدر مرسومًا يقضي بإنشاء مجلس لإدارة الأزهر ويضم بين أعضائه محمد عبده، فجدّد الإمام بعض الأشياء في الأزهر، وحاول الإصلاح حتى رحل الخديوي واستقال معه محمد عبده[47]. وفي حالة فرح أنطون، فقد اختلفت الوسيلة، فقد أكّد مرارًا وكثيرًا على حقوق الأقليات، لا سيما المسيحية منها، وحقها في المواطنة الذي غيبته السلطات العثمانية، فهو من العلمانيين الذين يدعون إلى وحدة المجتمع الشرقي على أساس المواطنة، وليس على أساس الدين، لأنه عروبي الهوى، ومن الذين مهدوا لولادة فكرة القومية، هذا وقد آمن فرح أنطون بفكرة الوطن بديلًا عن الدين، خاصة أن المشكلة التي واجهها فرح أنطون والتي كانت أساس كل ما كتب وقدم من أفكار وآراء ومبادئ، هي مشكلة الأقليات الإثنية والدينية في الشرق العربي، تلك الأقليات التي كانت تحاول جاهدة الانتماء إلى كيان سياسي واحد، يجمعها مع الأكثرية الإسلامية على قدم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، بهدف مواجهة اجتياح الحضارة الغربية للشرق على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي والعسكري على السواء[48]… وكان يواجه المشكلة بشقيها الأساسيَيْن، فمن جهة كان يجب مقاومة الاستعمار الغربي وتدخله في شؤون الوطن العربي، وثانيهما رفض الجامعة الإسلامية القائمة على أساس الدين التي تحول دون انتماء جميع الأقليات الدينية، ورأى أنه لا يمكن الوقوف بوجه الغرب، إلا بالاتحاد والتضامن، حتى بدأ بنشر مجلة “الجامعة” منطلقًا من شعار: الله، الوطن، الاتحاد، والارتقاء[49].

(3)

المنطلقات الفكرية عند محمد عبده وفرح أنطون

تبدأ المنطلقات الفكرية عند محمد عبده وفرح أنطون، من نقاط تلاقي واختلاف، فالاثنان مثلًا يقدسان الأديان، ولكن كل واحد منهما يرى في الدين الإسلامي خصوصًا، نقطة الخلاف، ونحدد رؤية كل منهما كما يلي:

1 . رفض محمد عبده رفضًا قاطعًا كون الإسلام يريد إنشاء سلطة دينية في المجتمع، بأي شكل من الأشكال، فعند استعراض محمد عبده لأصول تعامل الإسلام مع العلم، أورد منها أصل قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، ويمتدحه بقوله: “لقد هدم الإسلام أي سلطة دينية ومحا أثرها، ولم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، على أن رسول الله كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمنًا ولا مسيطرًا، قال الله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾”[50].

إن الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه، سوى الله وحده، يرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام، على آخر، مهما انحطت منزلته فيه، إلا حق النصيحة والإرشاد[51]. ويستدل محمد عبده على ذلك بعدة مقتضيات شرعية، منها أن المسلمين يتناصحون، والأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار، ولا يجوز لها ولا لأحد منها أن يتجسس على عقيدة أحد. كما لا يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد، إلا عن كتاب الله وسنة رسوله (ص)، لأنه لا واسطة بين العبد وربه، وعلى كل مسلم أن يحصل من الوسائل ما يؤهله لهذا الفهم، ثم يختم قائلًا: “فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه”، ويستعرض محمد عبده رأي بعض الغربيين الذين يظنون بأن الحاكم في الإسلام أو السلطان هو مقرر الدين، وهو واضع أحكامه، وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف فيها بالإخضاع، وفي العقول بالإقناع، ويبنون على ذلك أن المسلم مستعبد لسلطانه بدينه، كما يعتقدون أن لا تسامح مع العلم في الإسلام، يقول في تفسيره لقوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[52]: “كان معهودًا عند بعض الملل، لا سيما النصارى، حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه، وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان وهو أصل الدين وجوهره، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالبيان والبرهان”[53]، وهكذا يتأسس نفي محمد عبده، لأي ثنائية في السلطة من منظور إسلامي، ما بين سلطة دنيوية أو سياسية وأخرى دينية أو روحية، من خلال إنكار وجود هذه الأخيرة بالمرة، حسب ما تقتضيه الأصول الإسلامية.

محمد عبده يرد بهذا من جهة على أي مطابقة بين الرؤية الإسلامية والرؤية المسيحية، التي كانت تقوم على مفهوم الدولة الدينية، ويرد من جهة أخرى على استبعاد الدين نهائيًّا من أسس الدولة المدنية ومقوماتها، ولذلك يؤكّد أن الحاكم مطالب بالعدل والالتزام بالكتاب والسنة، يقول: “لكن الإسلام دين وشرع، فقد وضع حدودًا ورسم حقوقًا، فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام، إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة”[54]، وفي مقارنة بالمسيحية يؤكد أنه لم يكن من أصول الإسلام أن يدع ما لقيصر لقيصر[55]، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ما له ويأخذ على يده في عمله، ثم عدّد تأثيرات الإسلام الإيجابية على الفرد وعلى الجماعة، وأكّد أنه مكّن للأمم التي دخلت فيه نظامًا امتازت به عن سواها، ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله كمالًا للشخص، وألفة في البيت، ونظامًا للملك.  

ولكن فرح أنطون يرى أن الدين، أي دين، هو مجموعة المبادئ الأخلاقية، التي تدعو إلى الفضائل والخير، وهذا ما تشترك به الأديان جميعًا، أما العرضي المؤقت، فهو مجموعة التشريعات والقوانين التي يجب أن تخضع لسنة التطور، لذلك نجده يدعو لتفسير عقلاني للنصوص الدينية غير خاضع لهيمنة رجال الدين وجعل العلم طريقًا لمعرفة الله[56].

لقد ابتعد فرح أنطون عن الخوض في المسائل الدينية، وحاول قدر الإمكان عدم الانزلاق في مسألة رفض الدين أو الدفاع عنه، كون الدين ليس بحاجة للدفاع، يقول أنطون: “نحن لم ندافع عن دين، ولا عن علم، وإنما ندافع عن مبدأ، أما الدين، فهو في غنى عن دفاعكم، والأديان هي سلم مدنية الشعوب وروح حياتها الأدبية، ولا تحتاج إلى دفاع لأن ذلك (أي الدفاع عنها) بمثابة دلالة ضعفها”[57].

وكذلك رد على الشيخ محمد عبده الذي دافع عن الدين الإسلامي وعقائده، بتفريقه أو تمييزه، بين الدين بكونه مجموعة المبادئ والقيم الروحية والفضائل السامية القائمة على الإيمان بالله، وبين تقاليد الدين، التي يسهر على تطبيقها رجال الدين.

كان أنطون يرى أن المبادئ الدينية منزهة عن كل شائبة، فهي تهدف إلى إنهاض الشعوب ورفع مستواها الحضاري والفكري والأخلاقي، وهي أساس الأخلاق والفضائل، والنتيجة منها فضيلة لا رذيلة، وهي فعل الخير والتقوى، وليس القتال والفساد بين العقائد والأحزاب لإصلاح شأن البشر، أما من يُسيء إلى الدين بأقوال وأكاذيب وأباطيل، كرجال الدين، الذين لديهم مصلحة، أو لا يفهمون، فتقوم بتعطيل قوى الإنسان، فالأديان تواجه خطر زحف مجتمع الشرق نحو الغرب ومجتمعهم، وبذلك يجب التآخي والتعاضد ورفض الخصومة بين الأديان، فهما شقيقان. ومن منافع الأديان يصبح العقل ضروريًّا للحفاظ على مبادئ الدين وخلاص المجتمع[58].

2 . الحاكم – كما يرى محمد عبده – في الإسلام حاكم مدني، انطلاقًا من أصل انتفاء وجود سلطة دينية في الإسلام، ويصوغ محمد عبده أصلًا ثانيًا بكون السلطة في الإسلام سلطة مدنية، ويستدل على هذا الأصل، بأن الحاكم عند المسلمين ليس معصومًا، ولا يتلقى الوحي، وليس من حقِّه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، ولا يخصه الدين في فهم القرآن الكريم والعلم بالأحكام الدينية بأي امتياز، ولا يرتفع به إلى منزلة خاصة، وللناس تقويمه إذا اعوج، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالأمة أو من يمثلها، هي من ينصبه، وهي صاحب الحق في السيطرة عليه، أي هي مصدر السلطات، وهي التي تخلعه متى رأت المصلحة في ذلك. ثم ينتهي إلى الخلاصة الواضحة: فهو حاكم مدني من جميع الوجوه[59]، وبذلك نزعت أي قداسة عن أي حاكم بشري، ويظهر بوضوح من نصوص واستدلالات الأستاذ الإمام، أن هذا التنظير لمدنية الحاكم، ينطلق من أصل إخضاعه لسلطة الأمة، وسد كل أبواب الاستبداد والاستفراد بالسلطة.

في المقابل، يؤمن فرح أنطون بالعقل، حيث ينطلق في بحثه من مسألة العقل، فالعقل في هذا الزمان(في زمنه) لا يعرف حدًّا لبحثه، ومتى وضع له حد، فإن ذلك بمثابة خنقه وقتله، فالعقل هو وسيلة يمكن بواسطتها للإنسان الوصول إلى الحقيقة وهو إمكانية بشرية لا يمكن إيقافها عند حد دون ممارستها الكاملة[60].

ولا يعني إيمان فرح أنطون هنا بالعقل وحقائقه، الدعوة إلى نفي الأديان ومُعارضتها، لأن العقل والدين يهدفان إلى الغرض نفسه، وهو إصلاح الشعوب وتوجيهها نحو الوئام والفضيلة والتقدم[61]، إلّا أن الدين – عند أنطون – متى ما انتقل إلى حيّز الممارسة، تتعرض مبادئه إلى مزالق تُخرجه عن خطه السويّ، لأن المُمارسة الدينية ذات بعد روحي فرداني، أو يرتبط بتحقيق مصالح الجماعة المُنتمية إليه، أو بمصلحة الجماعة المُتصدرة للدعوة إلى ممارسة السياسية باسم الدين، وهذا يعني اختلاف المصالح والأهواء بين دُعاة دمج الدين بالسياسة، وكل منهم يروم القيادة، وفق فهمه للدين أو المذهب الذي ينتمي إليه، وحينذاك سيكون الدين عرضة لأوحال السياسة، لا سيما حينما يتخذ منه البعض ستارًا لتحقيق أغراضهم.

وهنا يأتي تنصيب العقل رقيبًا على تلك الممارسة، ورادعًا للأخطاء، وهنا يجب الاهتداء بنور العقل للتسامح وتبني الموقف العقلاني الذي يُعيد للإنسان رُشده، لأن الله ميَّز الإنسان عن باقي الكائنات الحية بالعقل. والتسامح بلغة العقل التي ينبغي أن تسود بين المُتدينين[62].

ثم يأتي الشك عند فرح أنطون، لأنه من ثمار العقل، فالشك طريق لتحقيق التسامح قبل أن يكون طريقًا في الشك المنهجي، وفقًا للمبدأ الديكارتي[63] بتأكيده على قاعدته الأولى في الشك القائلة: “لا أُسلم بشيء على أنه حق ما لم يتبين لي أنه كذلك، أو”مسح الطاولة” وبناء المعرفة من البداية، منذ أن كان العقل “صفحة بيضاء” بلغة جون لوك”[64].

إن لغة العقليين والتجريبيين، على ما بينهما من اختلاف في اتخاذ طريق الوصول إلى الحقيقة، سواء أكانت عن طريق العقل أم عن طريق التجربة، إلّا أن ما يميزهما هو أنهما فلسفتان شكيتان[65]، يدعوننا إلى إعادة تقييم كل معارفنا القديمة والشك بقيمتها المعرفية والعلمية، لأنه مع الشك (كما يرى فرح أنطون) صار التسامح ضروريًّا، لكشف الحقائق وصحتها، القائمة على البرهان العقلي “الاستدلال”، أو على المشاهدة والتجربة “الاستقراء”..

مما سبق، كما يرى فرح أنطون، تأتي أهمية العقل الذي نستطيع من خلاله التوصل إلى الحقائق، لأن التحديث لا يكون فقط بالممارسة التأويلية للنصوص الدينية، ولكن يكمن في الممارسة العقلانية الذي يساعد في نقد المجتمع ومحاولة تغييره تغييرًا جذريًّا بما يتناسب والثورات العلمية والسياسية التي حصلت في أوروبا.

وفي المقابل، يرفض محمد عبده خلط الحكم من منظور الإسلام بالحكم الثيوقراطي[66]، أو السلطان الإلهي، حيث نجد أن الطاعة للحاكم، ليست بمقتضى مدني (البيعة وما تقتضيه من عدل وحماية للأوطان)، بل بمقتضى الإيمان، وبمقتضى الانفراد بتلقي الشريعة عن الله، لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر ظهرا، هما دين وشرع، هكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى، ولا تزال تدعي الحق في هذه السلطة إلى اليوم.

 3 . يرى محمد عبده أن الوظائف الدينية ليست سلطات تمارس على الناس، إذا كان الإسلام قد هدم أي سلطة دينية، ورفض الاعتراف بها للسلطة السياسية العليا، فإنه قد نزعها عن أي مؤسسة تمارس سلطة من السلطات في مجتمع المسلمين، فقد تساءل محمد عبده، في ظل التصور الذي عرضه عن مهام القاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام، ويجيب بأن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة كلف بها أحد منهم، فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه أو ينازعه في طريقة نظره[67].

وعندما يسمّي محمد عبده هذه المهام بالوظائف الدينية، فلكي ينزع عنها طابع السلطة المتسلطة على الناس باسم الدين، وهو ما قرره من قبل، أن الإسلام أتى بهدمه، ثم لكي يقرر بعد ذلك مدنية تلك الوظائف، يقول: “وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقًا للحاكم الأعلى، وهو الخليفة أو السلطان، ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب وبالسياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام، بعد الحكم ورفع المظالم إن أمكن[68]، وهكذا يبين ما معنى مدنية السلطة السياسية، التي على الرغم من إشرافها على الوظائف الدينية، إلا أنها إنما تقوم بتدبير تلك الوظائف، لتؤدي مهامها بنجاح وانتظام، وهي لا تؤدي عملًا دينيًّا، ولا يحق لها التدخل في مضامين عمل الوظائف الدينية[69].

في المقابل يطرح أنطون مسألة العلم، من وجهتين متكاملتين هما: وجهة تنظيم المجتمع، ووجهة العمران والتقدم، وقد رفض فرح أنطون المبادئ المادية، وأكّد أن الدين هو دين الفضيلة ورفض اضطهاد الأديان ومعتقداتها، وقد أكّد أن لكل من الدين والعلم جانبه وعالمه، فعالم الدين هو الروح وتجلياتها، وعالم العلم هو الطبيعة وتجلياتها، فآلية العلم هي العقل، لأنه مبني على المشاهدة والتجربة أو الاستدلال، لأنه مرتبط بالطبيعة محاولًا فهمها والسيطرة عليها بلغة فرنسيس بيكون[70].

أما الدين، فآليته القلب أو الروح، لأنه مرتبط بالعاطفة والسماح والفضيلة. وكلاهما نافعان وضروريان للإنسانية[71].

أما عن التربية فيقول فرح أنطون: “أبواب الإصلاح في الشرق ثلاث: التربية، والبيئة، والتربية البدنية والدينية”[72]. فالتربية على الفضيلة هو أساس التربية الدينية، والاهتمام بالصحة والعافية، هما أساس التربية البدنية، وهاتان مقولتان كانتا الأس الذي بنى عليه هربرت سبنسر رؤيته لفلسفة التربية[73]. والأهم في رؤيته لأثر البيئة في التربية، هو أن الإنسان ابن بيئته، كما يُقال، فإذا كانت البيئة التي يعيش فيها بيئة يحكمها التعصب، ويُسيَرها رجال الدين، وهم المشرفون على تربية النشء، فإن مصير هذا النشء الانحراف والتطرف لا محالة.

يرى فرح أنطون ضرورة فصل الدين عن الدولة، وأن هذا المبدأ، هو السبيل الوحيد إلى تحقيقها، في المشاركة ببناء الحضارة العربية وانتمائهم إلى الأمة العربية، وهناك خمسة أمور رئيسة طرحها فرح أنطون، تدعو إلى الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية، وهي تتلخص في إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد خدمة لمستقبل الإنسانية، وتحقيق هذا الأمر يقتضي الفصل بين الدين والدولة، كما يقتضي الفصل بين مُعطيات العلم ومُعطيات الدين، ولا يعني هذا إنكار أو نقض وجود بعض نقاط للتلاقي بين الدين والدولة، أو بين الدين والسياسة، ولكن التلاقي في بعض الأمور، لا يعني بأي حال التطابق في المهام، وفي اتباع الطريق ذاته للوصول إلى الفضيلة أو إلى الحقيقة، لأن الغرض الذي جاءت من أجله الأديان، يختلف عن غرض الحكومات، فغرض الدين السير، وفق مُتطلبات المثال ببُعده المطلق، أما غرض الدولة “الحكومة” فهو التعامل السير وفق مُتطلبات الواقع ببُده المُتغير، كما أكّد أنطون على الرغبة في المساواة بين أبناء الأمة مساواة مطلقة، وعدم النظر لعقائدهم ومذاهبهم ليكونوا أمة واحدة، فليس من شؤون السلطة الدينية التدخل في الأمور الدنيوية، لأن الدين يدخل دائرة القلب، أما تنظيم المجتمع والسيادة، فهو من شؤون الساسة الذي لا يُشترط بهم معرفة أمر الدين بأبعاده الشرعية، إنما المطلوب منهم معرفة فقه السياسة وفلسفة السلطة، وفق مقدرة العقل البشري الذي يتعامل مع السياسة بوصفها فن الممكن[74].

ويؤكد أنطون كثيرًا على أن ضعف الأمة واستمرار الضعف فيها سيظل إلى ما شاء الله، ما دام الدمج مستمرًا بين السلطة المدنية والدينية، وإذا وقعت الأمة بيد رجال الدين، فستبقى ضعيفة وغارقة بالجهل والعجز[75]، كما يرى استحالة الوحدة الدينية، وهذا أمر غاية في الأهمية، وهو من أكبر وأكثر الأسباب التي دعت إلى الفتن والاضطرابات في الإسلام والمسيحية، ولا يمكن أن تتوحد المجتمعات لاختلاف عقائدها ودياناتها والطوائف، فكل المجتمعات تختلف دياناتهم، ولا سبيل إلى صهرها في مذهب واحد، وإلى هذا تُنسب كل الحوادث الدموية، التي حدثت فيما بين الديانات، وهذا ما حصل في التاريخ في أماكن مختلفة، ولكن النتيجة السيئة كانت واحدة، وهي انقسام المجتمع الواحد وحروب دينية طائفية، ومشارفة هذا المجتمع أو ذاك على الانهيار دون أن تتم الوحدة الدينية فعلًا[76]، أي يرى فرح أنطون أن أي حكم ديني يكون حكمًا استبداديًّا باسم الوصاية الإلهية، مثلما قال عبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده نفسه، وإن كان قد تحفظ عليه… وبناء على ذلك، يستنتج أنطون أنه: “لا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل، إلا بفصل السلطة المدنية عن الدينية، ولا سلامة للدول، ولا عز ولا تقدم في الخارج، إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية”، “فشر الظلم ظلم رجال الدين””[77].

وهذا هو الفارق بين محمد عبده وفرح أنطون، الدين هو الأساس عند محمد عبده، والوطن هو الأساس عند فرح أنطون، ثم يتفقان على باقي التفاصيل، مثل إحياء العقل واتخاذ سبيل العلم، والاستفادة من الحضارة الغربية، بقدر ما يتناسب مع الإسلام، كما يرى محمد عبده، ولكن فرح أنطون يريد ثمر كل الحضارة الغربية بما فيها من علمانية فصل الدين عن السياسة.

 

التطورات على القناعات الفكرية

بعد أن عرضنا المنطلقات الفكرية لكل من الشيخ الإمام محمد عبده والأستاذ المفكر فرح أنطون، نجد أنهما يتفقان حول ضرورة إحياء العقل والعلم، وأنه لا كهنوت ديني في السياسة، ولكنهما يختلفان في الوسيلة حول تحقيق هدف إحياء العقل، وحتمية النهضة لمواجهة الاستعمار والجهل والفرقة الدينية.

يرى محمد عبده أن الإسلام يحترم العلم والعقل ويدعم حرية البحث العلمي، يقول في ردوده على مجلة “الجامعة” والتي نشرها فرح أنطون ملحقة بكتابه “ابن رشد وفلسفته”، وبعد أن سرد قائمة بالعلماء غير المسلمين، الذين عاشوا في كنف الحكام المسلمين وقائمة بعلماء المسلمين: “أظن أنه يسهل بعد سرد ما عددناه أن يعرف قرّاء الجامعة، أن الإسلام كان يوسع صدره للغريب، كما يوسعه للقريب، بميزان واحد، وهو ميزان احترام العلماء للعلم، ويسهل علىّ أن ألتمس العذر للجامعة”[78]، بأنها عندما كتبت ما كتبت تمثلت لها بعض الحوادث، قيل إنها حدثت للدين، وما حدثت له، بل كان سبب حدوثها، إما سياسة خرقاء، أو جهالة عمياء أو تأريث بعض السفهاء[79]، فهو هنا ينفي أن يكون الإسلام هو السبب في أي عمليات اضطهاد لغير المسلمين أو لعلماء المسلمين، على أساس ديني ولكنها جميعًا حدثت لأسباب سياسية أو بسبب الجهل، فيقول في “كتاب ابن رشد وفلسفته”: وأول أصل قام عليه الدين المسيحي وأقوى عماد له هو خوارق العادات[80]، ويوضح موقفه من الفصل بين الدين والدولة، معبّرًا عن رفضه لهذا الفصل وأن تكون السلطة المدنية متغلبة على الدينية، يقول الشيخ محمد عبده في ردوده على فرح أنطون: “كيف يتسنى للسلطة المدنية، أن تتغلب على السلطة الدينية وتقف بها عند حدها، والسلطة الدينية إنما تستمد حكمها من الله ثم تمد نفوذها بتلك القوة إلى أعماق قلوب الناس، وتديرها كيف تشاء، نعم إن هذا الفصل يسهّل التسامح، لو كانت الأبدان التي يحكمها الملك، يمكنها أن تأتي أعمالها على حدة مستقلة عن الأرواح التي تحيا بها، والأرواح كذلك تأتي أعمالها بدون الأبدان التي تحمل قواها”، ويقول عن أصول الإسلام إنها دعوتين، “دعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وتوحيده، ودعوة إلى التصديق برسالة محمد (ص)، أما الدعوة الأولى، فالإسلام يعتمد فيها على العقل، وأما الدعوة الثانية، فهو يعتمد فيها على القرآن الكريم، الذي هو معجزة الإسلام وخارق العادة فيه”.

ولكن فرح أنطون لم يتراجع عن فكرة فصل الدين عن الدولة، ولا عن حتمية الأخذ بالعلمانية كما يفهمها الغرب الأوروبي، فلم تتطور قناعاته الفكرية حتى وفاته، وهذا ما يتبين في المناظرة التي جرت بين الرجلين أحدهما كهل هو محمد عبده، والآخر شاب هو فرح أنطون.

(4)

المناظرة والجدل الفكري بين محمد عبده وفرح أنطون 

لم تكن المناظرة التي حدثت بين الإمام محمد عبده والشاب المفكر فرح أنطون، مناظرة شخصية وجهًا لوجه في وجود جمهور أو في عدم وجوده، بل كانت مناظرة فكرية ثقافية على صفحات مجلة “الجامعة”، التي أسّسها فرح أنطون في الإسكندرية.

سبب وفكرة وأبعاد المناظرة

كان السبب الأول للمناظرة هو رؤية محمد عبده الذي عاش معظم عمره يدافع ويناضل من أجل تقدم الأمة الإسلامية بأسرها من جمود التقليد، ودعا وساهم في نشر الإصلاح الديني والتربوي، وعمل على إصلاح القضاء ودار الإفتاء، وكله داخل الإطار الإسلامي العام والشامل، وفي تلك الأثناء وجد هو وتلاميذه مقالًا لفرح أنطون في “مجلة الجامعة” حول تاريخ ابن رشد وفلسفته، ورأى الإمام محمد عبده أن في المقال تطاولًا على الإسلام، من هنا بدأت المناظرة تأخذ فكرتها.

إن فكره المناظرة في حقيقتها فكرة علمية، ودينية، واجتماعية، وسياسية، تسعى لتعميق الفكر العربي في فترة الاحتلال الأوروبي لبلاد المسلمين، وسبيل التصدي للاحتلال الغربي، والاستبداد الحكومي المتغطي بالدين في وقت واحد.

أما أبعاد المناظرة فتكمن في أربعة أبعاد:

1 . جاءت هذه المناظرة وحرّكت جوًّا حيويًّا من النقاش الفكري والنقدي، وتحولت إلى حدث فكري بات يؤرخ له، ليس في المجال المصري فحسب، وإنما في المجال العربي الحديث والمعاصر، هذا الحدث ظلّ حاضرًا ويجري تذكّره بصور مختلفة على امتداد المنطقة العربية شرقًا وغربًا، تأكيدًا لأهميته وحيويته ليس لزمنه فحسب وإنما لزمننا كذلك، وحيوية هذه المناظرة حصلت نتيجة تفاعل عناصر مشتركة، لها علاقة بعامل الأشخاص من جهة، وبعامل المكان من جهة ثانية، وبعامل الزمان من جهة ثالثة[81].

فمن جهة الأشخاص جاء اشتراك الشيخ محمد عبده في هذه المناظرة، فأكسبها زخمًا فكريًّا كبيرًا، وأضفى عليها أهمية عالية، وجدية فائقة، وذلك لطبيعة الجانب الاعتباري لشخصية الشيخ عبده، كونه مفتيًا للديار المصرية آنذاك، والرجل الإصلاحي الأشهر في عصره، إلى جانب وزنه الفكري المميز[82].

ومن جهة المكان، فقد حصلت هذه المناظرة في مصر، وبين مدينتين شهيرتين هما القاهرة والإسكندرية، فالشيخ محمد عبده كان مقيمًا في القاهرة، وفرح أنطون كان مقيمًا في الإسكندرية آنذاك، فحيوية بلد عريق ونشط مثل مصر، وحيوية مدينتين مثل القاهرة والإسكندرية، أكسبت هذه المناظرة حيوية وتألقًا وذاكرة، ولو حصلت هذه المناظرة في مكان آخر غير مصر لكانت لها وضعية مختلفة، فالمكان عامل مؤثر دائمًا من الجهتين قوة وضعفًا، ظهورًا وخفاء.

ومن جهة الزمان، فهذه المناظرة حصلت في زمان يعد من أخصب الأزمنة الفكرية التي مرت على مصر في تاريخها الحديث والمعاصر، فهو الزمان الذي يجري تذكره عند الأدباء والمؤرخين والمفكرين والنقاد بوصفه زمنًا اتسم بالحيوية والنشاط والتنوع والانفتاح، فالحدث الذي يتصل بهذا الحال من الأزمنة يتأثر بحيويته وذاكرته.

2 . أنها تعدّ أول مناظرة حول فكرة التسامح في المجال العربي الحديث، فلها من هذه الجهة وضعية خاصة ومميزة، هي وضعية المحاولات التي تحتفظ بحق السبق، وتنال منزلة المرتبة الأولى.

كما أنها المناظرة التي لفتت الانتباه إلى فكرة التسامح في ساحة الفكر العربي والإسلامي، وجعلت هذه الفكرة في دائرة التذكر، وأرّخت لحدث بات يرجع له ويستند إليه في الحديث عن هذه الفكرة، وبفضلها أصبح يعرف في تاريخ الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر وجود مناظرة حول فكرة التسامح.

  1. في هذه المناظرة، قدم الشيخ عبده جهدًا تأسيسيًّا مهمًّا ولامعًا لفكرة التسامح في الإسلام، جهدًا أثبت وبرهن على أن فكرة التسامح ليست فكرة غائبة أو طارئة أو بعيدة ولا حتى ثانوية أو هامشية في الإسلام، وإنما هي من صميمه وتتصل بطبيعته وأصوله، وتسري في روحه، ومن ثم فهي فكرة ظاهرة ومتولدة وليست بحاجة إلى استظهار من خفاء، واكتشاف من عدم، وأهمية هذا الجهد يكمن في أن الشيخ عبده قد وضع أصولًا للتسامح في الإسلام، وأصبح لدينا ما يمكن تسميته أصول التسامح في الإسلام، وهذه أول محاولة في تاريخ الفكر الإسلامي القديم والحديث والمعاصر يتم فيها اكتشاف وتأسيس أصول التسامح في الإسلام.
  2. إن هذه المناظرة التي حصلت في مطلع القرن العشرين، ويمكن أن يؤرخ لها على أنها أولى مناظرات القرن في المجال العربي[83].

النقاط الرئيسية في المناظرة

إن أبرز النقاط في المناظرة هو الدين والعلم والعقل، فمن خلالها دارت المناظرة، عنيفة في شدّتها العلمية، ولكنها متسامحة في رؤيتها الشخصية، كل من الإمام والأستاذ لبعضهما البعض وهو ما نراه فيما يلي:

بدأت هذه المناظرة عام 1902، كان عمر محمد عبده ثلاثة وخمسين عامًا، وعمر فرح أنطون ثمانية وعشرين عامًا، جرت المناظرة في جو من الحوار الحر، بدأت بعد أن نشر فرح أنطون بحثًا في مجلّة “الجامعة”، حول “تاريخ ابن رشد وفلسفته”، أثار ما اعتُبر تطاولًا على الإسلام حفيظة الشيخ محمد رشيد رضا، فحرّض الشيخ محمد عبده على الردِّ عليه، وانتهى الجدال بينهما إلى ظهور كتابين هما: “ابن رشد وفلسفته” لفرح أنطون، و”الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية”، للشيخ محمد عبده.

يقول فرح أنطون: “إنه يجب أن يكون هناك توافق بين الدين والفلسفة، وأن العلم يجب أن يوضع في دائرة “العقل”، لأن قواعده مبنية على المشاهدة والتجربة والامتحان، وأما الدين فيجب أن يوضع في دائرة “القلب”، لأن قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتاب من غير فحص في أصولها”[84].

وكان السؤال الذي طرح نفسه عليهما، هو أيّهما كان أكثر تسامحًا الدين الإسلامي أم الدين المسيحي؟ يرى فرح أنطون أن الدين المسيحي كان أكثر تسامحًا من الدين الإسلامي لأن علماء مسيحيين كثيرين، أمثال رينان وروسو وفولتير وديدرو، تحاملوا بأقوالهم على المسيحية، ولم يتم التعرّض لهم، في حين أن ابن رشد أهين وأُقصي، رغم أنه لم ينكر شيئًا من أصول الدين، إنما نظر بعقله، وشرح فلسفة أرسطو فقامت قيامتهم عليه، ويواجه الشيخ محمد عبده هذه التبريئات بسلسلة من الشواهد، عن اضطهاد المسيحية ليس للمسلمين واليهود والعلماء وحسب، إنما للمسيحيين أنفسهم، ويورد عددًا من الوقائع التي تدعم رأيه، ليخلص إلى أن الدين الإسلامي كان أكثر تسامحًا، فالإسلام يكفّر من ينحرف بأفكاره عن أصول الدين، لكنه لا يلجأ إلى حرقهم.

ولم يقف فرح أنطون موقف المشكك من الديانتين، بل موقف المنتقد لرجال الدين الذين يتاجرون بالدين ويستغلونه من أجل الفرقة والتنابذ، مُكررًا دعوته إلى حق الفرد بأن يؤمن بدينه أو أن لا يؤمن بأي دين، داعيًا إلى الفصل بين السلطتين المدنيّة والدينية، وإطلاق الفكر الإنساني من كل قيد، والمساواة بين أبناء الأمة الواحدة بقطع النظر عن دينهم أو معتقدهم، وإبعاد السلطة الدينية عن التدخل في الشؤون الدينية، مُشددًا على استحالة الوحدة الدينية.

ولكن الشيخ محمد عبده يواجه هذه الاتهامات، بسلسلة من الشواهد، عن اضطهاد المسيحية، ليس للمسلمين واليهود والعلماء وحسب، إنما أيضًا للمسيحيين أنفسهم، ويورد عددًا من الوقائع التي تدعم رأيه، ليخلص إلى أن الدين الإسلامي كان أكثر تسامحًا، فالإسلام يكفّر من ينحرف بأفكاره عن أصول الدين، لكنه لا يلجأ إلى حرقهم.

ولكن فرح أنطون رأى أن مدنيات الأمم لا تتوقف على الدين، بل على العلم وأنّ الأمم الوثنية كاليابان، إذا سلكتْ سبيل العلم والنواميس الطبيعية ارتقتْ مدنيتها على كل مدنية، حتى مدنية الذين يعملون بقواعد الإنجيل والقرآن حرفــًا ومعنى دون أنْ يشتغلوا بالعلم، لأنّ الدين شيء والعلم شيء آخر، فكيف إذن يصح القول: إنّ الإنسانية ستعود كلها إلى القرآن في المستقبل كما يقول الأستاذ محمد عبده؟ وأنها ستعود كلها إلى الإنجيل كما يقول رؤساء الدين المسيحي؟ كلا ثم كلا، إنّ الإنسانية طـُـبعتْ على التنوع والاختلاف. ولا بدّ من هذا التباين في المعتقدات، ويواصل فرح أنطون حديثه النقدي، فيقول: “وهل يحسب الأستاذ الإمام أنّ الثورة الفرنسية حدثتْ من نفسها، كلا، لأنه يعلم أنّ كتابات فولتير وروسو هي التي أضرمتْ نارها، فهل كان يمكن أنْ يقوم عند العرب رجل كفولتير؟ وهل ظهر لدى العرب ملك عظيم في القرن 13م مثل فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا؟ الذي كان محبًّا للفلسفة كارهـًا لرجال الدين لأنهم يُقاومون مشروعاته الإصلاحية، وكان السند الكبير لمترجمي ابن رشد في أوروبا، ولم يمنعه ذلك من الاشتراك في الحملة الصليبية السادسة على المشرق، وهذا دليل على أنّ تلك الحروب كانت سياسية ولم يكن لها من الدين إلّا ظاهره، وعندما وصل إلى أورشليم دخل إلى كنيسة القبر المقدّس ليهزأ بالديانة المسيحية، لذا هاجمه أعداؤه من الأكليروس المسيحي ونقلوا عنه: إنّ العالم مخدوع بالكهنوت الديني اليهودي/المسيحي/ الإسلامي”[85].

ولكن محمد عبده ظل حريصًا مؤيّدًا لفكرته الداعية لجعل الإسلام أصل وأساس النهضة، فقط تحتاج الأمة لمن ينقي تراثها الفكري والفقهي والعقلي، فهو يرفض الفصل بين الدين والسلطة، وهو مبدأ مهم عند أنطون، لأن الملك الحاكم برأيه، كما يرى محمد عبده، لا يمكنه أن يتجرّد من دينه مع وجود الفصل بين السلطتين، فالأجسام التي يديرها الحاكم، هي الأجسام نفسها التي تسكنها الأرواح التي يديرها رجال الدين، ويردّ فرح أنطون على ذلك بقوله: إن الحاكم وُجد ليكون خادمًا للأمة، وهو ملزم التقيد بالقوانين والتشريعات الوضعية والدستورية لا غير[86].

مواطن الاتفاق والخلاف في المناظرة

اتفق العالمان محمد عبده وفرح أنطون على أن العالم العربي في أزمة حقيقية، وأن الاحتلال الأوروبي للبلاد العربية كان نتيجة للضعف الإسلامي فكرًا وعملًا، كما اتفقا على ضرورة التصدي للاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، وعلى توحيد الصف العربي بكل طوائفه وأديانه ومذاهبه المتعددة، واتفقا على أهمية العلم وإحياء العقل العربي.

ولكنهما اختلفا حول كيفية توحيد الصف وتحقيق الوحدة، فبينما محمد عبده يرى ضرورة أن يكون الإسلام هو المسار الطبيعي للنهضة، يرى فرح أنطون أن القومية والمواطنة هما أساس النهضة، وفي الوقت الذي يرى محمد عبده أهمية العلم ولكن في إطار الدين، كان فرح أنطون يرى ضرورة الفصل التام بين العلم والدين، وأن يسود العلم، ويبقى الدين علاقة روحية بين أي إنسان وخالقه دون التدخل في شأنه، كما كتبنا في هذا البحث.

وباختصار نجد أن كل من محمد عبده اتفقا في الهدف واختلفا في الوسيلة.

الخاتمة

جاء الراحلان الإمام محمد عبده والأستاذ فرح أنطون في عصر كانت الدول العربية تواجه استعمارًا أوروبيًّا غربيًّا وهجمة منظمة شديدة القسوة، وحاولت الدول أن تنهض في مواجهة الاستعمار، فرأت أنها تواجه مشكلة الإصلاح السياسي والديني والتربوي لكي تتمكن من دحر الاحتلال، ولقد حدثت صدمة حضارية عبّر عنها الإمام محمد عبده بقوله في رحلته إلى فرنسا، التي انبهر بما رآه من نهضة وتنمية وحضارة، فقال جملته الشهيرة: “وجدت هنا إسلامًا ولم أجد مسلمين، وفي ديار الإسلام وجدت المسلمين ولم أجد الإسلام”[87]، ويضيف وجدت المبادئ والقيم والمثل العليا، وكلها صفات يطالبنا بها الإسلام، ووجدت أمانة وإتقانًا وإخلاصًا، وكلها سمات يحثنا عليها ديننا، وبذلك فهم مسلمون بلا إسلام.

كان محمد عبده موقنًا بأن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الفهم الخاطئ له، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت في الوجود واكتسبت قداسة طمست حقيقة الإسلام التي تدعو للبناء والرقي المادي والروحي، باتساع المكان والزمان ووفق متطلبات كل عصر.

ووافق فرح أنطون على طرح الإمام محمد عبده وعلى ضرورة إحياء العقل، ولكنه رفض أن يكون الدين هو أساس الدولة، مع بقاء احترامه للأديان كضمير للشعوب، فطالب بإبعاد الدين نهائيًّا عن التشريعات والقوانين، وأن يكون الوطن بديلًا للدين.

ورغم الاختلاف بين المدرستين، ظل الاحترام سائدًا، لأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وأن يكون الالتزام بالمنهج العلمي عند البحث والمحاورة هو الأصل، وأن العلم يتوافق مع الدين، والعقل يتوافق مع النقل.

إنّ ما جد في العالم من تطورات على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، يحمل معه تحديات كثيرة لعالمنا الإسلامي، فلا بدّ أن يستعدّ المسلمون لمواجهتها وبذل الجهد للتغلب عليها.

ونؤكِّد أنّ كل التحديات التي تحيط بعالمنا الإسلامي، ليست تحديات تواجه الإسلام بوصفه الدين الخاتم الذي تستطيع شريعته أن تواجه كل الظروف والمتغيرات في كل زمان ومكان لما تمتاز به من المرونة والاعتدال، فالتحديات القائمة واللاحقة هي في حقيقة الأمر تحديات للمسلمين، وليست تحديات للإسلام ذاته.

إنّها تحديات تواجه عقول المسلمين وقدرتهم على استيعاب تطورات العصر، والوعي بالزمن، والوعي بالتطور التاريخي. وما أحوج المسلمين لذلك التنوع الفكري والحضاري، القائم على حرية الرأي وحق الاختلاف، ولا بدّ من الاستفادة بالميراث الإسلامي القائم على العلم والمنطق، والتسامح، وحرية الإرادة.

كما يمكن الاستفادة من المناظرة العلمية، التي حدثت منذ أكثر من قرن من الزمان بين عالمين مثقفين، هما: الإمام الشيخ محمد عبده، والمفكر الأستاذ فرح أنطون.

[1]  محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، القاهرة، دار الفضيلة للنشر والتوزيع، الطبعة 2، 2006، الجزء1، الصفحة 43، والمسجد الأحمدي نسبة إلى ضريح ومسجد السيد أحمد البدوي.

[2]  سامي خشبه، مفكرون من مصر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، الصفحة 65.

[3]  مارون عيسى الخوري، في اليقظة العربية: الخطاب السوسيوسياسي عند فرح أنطون، بيروت-لبنان، دار جرس برس، الصفحة 130.

[4]   مارون عيسى الخوري، في اليقظة العربية: الخطاب السوسيوسياسي عند فرح أنطون،  مصدر سابق، الصفحة 134.

[5]   المصدر نفسه، الصفحة 187.

[6] د. علي المرهج، فرح أنطون نهضة مدنية عربية لم تكتمل، صحيفة المثقف الإلكترونية،   http://ns1.almothaqaf.com

 [7]المصدر نفسه.

[8]  عباس محمود العقاد، عبقري الإصلاح محمد عبده، القاهرة، دار نهضة مصر للنشر، 1963، الصفحة 175.

[9] عباس العقاد، عبقري الإصلاح محمد عبده، مصدر سابق، الصفحة 134.

[10] د. علي المرهج، فرح أنطون نهضة مدنية عربية لم تكتمل، مصدر سابق.

 [11]  مارون عيسى الخوري، في اليقظة العربية: الخطاب السوسيوسياسي عند فرح أنطون، مصدر سابق، الصفحة 77.

[12] أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، مصدر سابق، الصفحة 59.

[13]  علي المرهج، فرح أنطون نهضة مدنية عربية لم تكتمل، مصدر سابق.  

 [14] برهان غليون، الوعي الذاتي، الدار البيضاء، منشورات عيون، 1987، الصفحة 39.

[15] محمد عمارة، مقدمة للأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، القاهرة، دار الشروق، 1993، الصفحة 36. وأيضا عثمان أمين، رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1955، بتصرف.

[16] محمد عمارة، مقدمة للأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، مصدر سابق، الصفحة 167.

[17] عباس محمود العقاد، عبقري الإصلاح محمد عبده، مصدر سابق، ببعض تصرف، الصفحة 141. 

[18] محمد عمارة، مقدمة للأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، مصدر سابق، الصفحة 143.

[19] فرح أنطون، الدين والعلم والمال، القاهرة، مكتبة الأسرة، 1999، الصفحة 98.

[20]المصدر نفسه، الصفحة 88.

[21] محمد عمارة، مقدمة للأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، مصدر سابق، الصفحة 58.

[22] المصدر نفسه، الصفحة 77.  

[23] فرح أنطون، الدين والعلم والمال، مصدر سابق، الصفحة 68.

[24]  علي المرهج، فرح أنطون نهضة مدنية عربية لم تكتمل، مصدر سابق.   

 [25] عباس محمود العقاد، عبقري الإصلاح محمد عبده، مصدر سابق، الصفحة 156.

[26] مارون عيسى الخوري، الخطاب السوسيوسياسي عند فرح أنطون، مصدر سابق، الصفحة 95. 

[27]المصدر نفسه، الصفحة 87. وقد تكررت عباراته أيضًا في كتاب “الدين والعلم والمال”، مصدر سابق.

 [28] كتاب “نهج البلاغة” للإمام علي، شرح الإمام محمد عبده، بيروت، دار العلم للملايين، 1991.

[29]  محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، القاهرة، مكتبة الأسرة، 2000، الصفحة 67 ببعض تصرف.

[30] محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، مصدر سابق، الصفحة 77.

[31] محمد عمارة، الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، الجزء الخاص: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، الرد على أرنست رينان، الصفحة 79.

[32] محمد عمارة، الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، مصدر سابق، الصفحة 80.

[33]  المصدر نفسه، الصفحة 44.

[34] فرح أنطون، الدين والعلم والمال، مصدر سابق، الصفحة 81.

[35] فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، بيروت، دار الفارابي للنشر، 2007، الصفحة 86.

[36] المصدر نفسه، الصفحة 63.

[37]  محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، مصدر سابق، الصفحة 66.

[38] المصدر نفسه، الصفحة 69.

[39]   فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، مصدر سابق، الصفحة 83.

[40] علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، تطوان، دار الطباعة المغربية، 1948، الصفحة 133.  

[41] علي أبو الخير، ثورة العقيدة وفلسفة العقل: دراسة في فكر حسن حنفي، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2007، الصفحة 169.

[42] عباس محمود العقاد، عبقري الإصلاح محمد عبده، مصدر سابق، الصفحة 175.

[43] علي أبو الخير، ثورة العقيدة وفلسفة العقل، مصدر سابق، الصفحة 188.

[44] عباس محمود العقاد، عبقري الإصلاح محمد عبده، مصدر سابق، الصفحة 134.

[45] المصدر نفسه، الصفحة 146.

[46] عبد الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات، 1985، الجزء4، الصفحة 489.

[47] المصدر نفسه، الجزء4، الصفحة 467.

  [48]مارون عيسى الخوري، الخطاب السوسيوسياسي عند فرح أنطون، مصدر سابق، الصفحة 54.

[49] فرح أنطون، الدين والعلم والمال، مصدر سابق، الصفحة 76.

[50] محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 304، والآيتان 21و22 من سورة الغاشية.

[51] المصدر نفسه، الجزء 4، الصفحة 234.

[52] سورة البقرة، الآية 256.

[53] محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، مصدر سابق، الجزء 4، الصفحة 704.

56 المصدر نفسه، الجزء 4، الصفحة 543.

[55] يشير إلى قول السيد المسيح (ع): “أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، كما جاء في إنجيل مرقص 12|17.

[56] فرح أنطون، الدين والعلم والمال، مصدر سابق، الصفحة 68.

[57] فرح أنطون، الدين والعلم والمال، مصدر سابق، الصفحة 78.

[58]  المصدر نفسه، الصفحة 91.

[59]  محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحتان 307 ـ 308.

[60] فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، مصدر سابق، الصفحة 315.

[61] فرح أنطون، الدين والعلم والمال، مصدر سابق، الصفحة 54.

[62]  المصدر نفسه، الصفحة 59.

[63] فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، مصدر سابق، الصفحة 278

[64] المصدر نفسه، الصفحة 291. وجون لوك: مفكر وكاتب وسياسي بريطاني(1932 – 1704).

[65] الشك المنهجي أو الديكارتي، نسبة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، راجع موسوعة “قصة الحضارة”، ويل ديورانت، ترجمة محمد بدران، المجلد 12، عصر العقل، القاهرة، مكتبة الأسرة، 1999، الصفحة 216  بتصرف.

[66] الثيوقراطية مصطلح لاتيني يعني الدولة الدينية، يراجع  قاموس المورد البعلبكي، بيروت، لبنان، 2002، الصفحة 87.

[67] محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 250.

[68] المصدر نفسه، الجزء 3، الصفحة 401.

[69]  برهان غليون، الوعي الذاتي، مصدر سابق، الصفحة 98.

[70] فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، مصدر سابق، الصفحة 298.

[71] فرح أنطون، الدين والعلم والمال، مصدر سابق، الصفحة 66.

[72] سمير أبو حمدان، فرح أنطون وصعود الخطاب العلماني، بيروت، الشركة العالمية للكتاب، 1992، الصفحة 43.

[73]  المصدر نفسه، الصفحة 45.

[74] مجلة الجامعة، من وثائق دار الكتب المصرية، من شبكة المعلومات الدولية أو الإنترنت، بتصرف.

[75] المصدر نفسه.

[76] فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، مصدر سابق، الصفحة 147.

[77] المصدر نفسه، الصفحة 78.

[78] ردود محمد عبده في مجلة الجامعة، مصدر سابق. وأيضًا ابن رشد وفلسفته، مصدر سابق، ببعض تصرف

[79] ردود محمد عبده في مجلة الجامعة، المصدر نفسه.

[80] محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، مصدر سابق، الصفحة 39. وكذلك مجلة الجامعة، مصدر سابق، وابن رشد وفلسفته، مصدر سابق.

[81] زكي الميلاد، معركة التسامح وتأسيس أصول التسامح في الإسلام، مقال منشور في جريدة اليوم، موقع www.alyaum.com/articles/1060111 – ببعض تصرف.

[82] زكي الميلاد، معركة التسامح وتأسيس أصول التسامح في الإسلام، مصدر سابق.

[83] زكي الميلاد، معركة التسامح وتأسيس أصول التسامح في الإسلام، مصدر سابق.

[84] اعتمدنا في المناظرة على عدة كتب منها كتاب فرح أنطون نفسه، ابن رشد وفلسفته، ومجلة الجامعة، وهي كلها مصادر سابقة.

[85] طلعت رضوان، درس الحوار بين فرح أنطون ومحمد عبده، موقع:

 http://www.wataninet.com/2017/01

[86]  ميشال جحا، فرح أنطون، لندن، دار رياض الريس للنشر، 1998،  من موقع:

 https://alghad.com/،  و موقع ehttps://www.albayan.a، بتصرف من بعض الصفحات.

[87] محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 243.

مريم عيسى عبد الله

مريم عيسى عبد الله

باحثة من قطر



المقالات المرتبطة

الفكر العربي الحديث والمعاصر | التراث وماهيته عند حسين مروة

قبل الدخول إلى المنهج وآلية اشتغاله عند الدكتور حسين مروة، سنتوقف عند التراث وآلية التعامل معه، فكلّ عمل منهجي يقتضي

العلمانيـة في الخطاب الإسلامي

ليس محددًا بدقة متى دخلت عبارة العلمانية إلى اللغة العربية، ولكن بدأ تداولها ما بعد عشرينات القرن العشرين بعدما كان

فلسفة “الفقيه الأعلى” دراسة في ماهية العارف الواصل عند محمود حيدر

الحديث عن “الذاتي والموضوعي في التجربة الصوفية” يشكل محطة معرفية وإشكالية في مباحث الإلهيات المعاصرة. ولعل أول ما يتبادر إلى التصور في هذا المجال

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<