نقد مفهوم الرؤية الكونية عند محمد عثمان الخشت

نقد مفهوم الرؤية الكونية عند محمد عثمان الخشت

الأستاذ محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الأديان والمذاهب المعاصرة في كلية الآداب في القاهرة. يُلقب باسم فيلسوف، ويعتبر من رواد فلسفة الدين في العالم العربي. بلغت مؤلفاته أكثر من 42كتابًا، و24 محقّقًا في التراث الإسلامي. دعا في إحدى مقالاته إلى ضرورة “تجديد الفكر عند المسلمين” عبر تغيير الرؤية الكونية لديهم، والذهاب باتجاه الرؤية الغربية، وهذا ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة لأسأله أليست المشكلة في هذه المقاربة التي أنتجت العديد من النظريات التي تقضي على الذاتية التي ينتمي إليها الفكر الإسلاميّ، وهنا أستحضر مثالًا، أليست وجودية سارتر المدرسية القاضية بأنه ليس وراء قرار الإنسان حسن وقبح وإنما يتولد الحسن والقبح مما يختاره هو نفسه وكذلك حال القبيح؟ وهذا من موجبات اختلال المجتمعات وفسادها وانحرافها. أليس معيار القوة لنيتشه، والذي استلهمه من قانون البقاء للأصلح من داروين قد تم توظيفه للحروب الكبرى؟

ولعلّ من الحكمة السؤال، هل علينا بكل بساطه أن نغيّر تفكيرنا لأنّ الدكتور لا يؤمن بالتفكير الأرسطي، والذي تنطبق عليه الكثير من قواعدنا الأخلاقية الإسلامية وهو الفصل الإبستمولوجي بين بديلين، دون التنبه إلى أنّ الفكر يتحرك انطلاقًا من رؤية كلية، نظّمت حركته؟ فلو عدنا إلى الفكر الإسلاميّ لرأينا أنّ الحكمة النظرية التي تتمثل في تشكيل الرؤية الأنطولوجية وفهم حقيقة الوجود وتمثلاته تنعكس على باقي الموضوعات العلمية وتحدّد بعض مديات بحثها وطبيعة محمولاتها، ففي الحكمة النظرية من الفلسفة الإلهية بالمعنى الأعم يتحدّد عندنا بأن الوجود لا يخلو إما أن يكون علة أو معلولًا، وأن المعلول إما جوهر أو عرض، وبأن علاقة الموجود في تكثّره عبر قانون يسمّى بالعلية، وبأن كل الموجودات الجوهرية فضلًا عن العرضية ترجع إلى ما هو بذاته، والذي يصدر عنه كل خير. أقول: إن هذه الرؤية الحكمية النظرية لها انعكاسات بنيويّة على طبيعة فهمنا لطبيعة العالم.

إن الانسان مودع فيه حيثية فطرية ذاتية ترشده إلى عمل الصلاح. كذلك في رؤيتنا الوجودية تلك القاضية بالعلية والمعلولية، نفهم واقع الارتباط بين الأشياء الطبيعية، ونستطيع بناء العلوم وضرب القواعد الكلية الاقتضائية..

هذه هي الفلسفة الإسلامية التي ارتكزت على الأدلة المستمدة من الوحي وهي الحقيقة؛ لأنها من معين الإسلام الصافي بعيدًا عن تدخل شبهات الغرب المريبة، وهذا نتاج العلماء عبر التاريخ والقرون، وهو موثق ومحفوظ ومقرون بالأدلة القاطعة في مدارس المسلمين. وهو يستند إلى معايير واضحة ومتراكمة عبر القرون، وبالتالي لدينا وحدة المعيار التي تتبعها بالضرورة ممارسات نقدية توحيدية تخرج بتصورات ثابتة عما هو صادق وما هو كاذب وما هو جميل وما هو قبيح. وهذا على عكس ما يدعو إليه الدكتور الخشت في كتابه “تجديد الخطاب الديني التقليدي”، حيث يرفض الخطاب الديني التقليدي، وهو يرى أن تجديد الخطاب الديني عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر ديني جديد. نلاحظ هنا تكرار لفظ “جديد” ومشتقاته كعنوان جاذب ومحبب للجماهير يهدف إلى إزاحة معتقد يؤمن به ملايين البشر. وهنا يبدأ التفكيك وإزاحة الشعوب عن أصالة عقائدها. وهو يعتمد في خطاباته تقنية لغوية مستوحاة من الفيلسوف فيتغنشتاين الذي طرح فكرة الألعاب اللغوية لتحرير البحث اللغوي.

ويدعو الدكتور الخشت، إلى العودة إلى “الإسلام النقي المنسي” قرآنًا وسنة صحيحة، لا الإسلام المزيف الذي نعيشه اليوم بسبب التيارات المتطرفة والجماعات الإرهابية ومجتمعات التخلف الحضاري، ويؤكد أنه لا يمكن هذا إلا بتخليص الإسلام من “الموروثات الاجتماعية”، و”قاع التراث”، و”الرؤية الأحادية للإسلام”.

 ويقول في كتابه: إن “النظرة إلى الإسلام من زاوية واحدة وضيقة تزيّف الإسلام، ولذا من الفروض الواجبة توجيه النقد الشامل لكل التيارات أحادية النظرة، سواء كانت إرهابية أو غير إرهابية”. إن هذه العبارات الملغزة والرموز والتعميمات والأحكام التي تتضمنها معظم النصوص في كتابات الخشت ينبثق عنها أحكامًا صارمة، تدفع القارىء لأخذ ما يشبهها، فيعتبره قد تخلى عن أصالة إسلامه واتجه إلى العلمانية، واستمع إلى خطاب الغرب بأذن واعية، وأنه اتخذ الحداثة بنيانًا وصرحًا لرؤيته الجديدة وتصوراته الخاصه بكل ما تحتويه من ميول ومذاهب وأهواء وحضارات.

نسأل في نهاية هذه المقالة، هل نحن بحاجة إلى تغيير رؤيتنا الكونية، واستبدالها بالرؤية الغربية؟ وهل المشكلة فيها؟ ولماذا كانت دافعة في الكثير من المراحل باتجاه التقدم والنمو؟ أليس الكثير من المسلمين في الغرب كانوا أصحاب نظريات علمية رياضية وطبيعية وفيزيائية وبيئية واجتماعية؟ أليس التطور التكنولوجي أمر يرتهن لظروف وعوامل سلطوية ومادية تجعل الإنتاج أمرًا ممكنًا وميسورًا، ولا دخل للعرق والدين والانتماء بالتفكّر والإنتاج العقليين؟

وبكلمة أقول: إنّ نسبة الإبداع العلمي إلى الرؤية الكونية هي نسبة بالعرَض، وليست بالذات، فجابر بن حيان، وابن سينا، وابن الهيثم ونصير الدين الطوسي وغيرهم الكثير من المؤمنين العرب وغير العرب كانوا من المساهمين في تطوّر عجلة العلم، وكذلك نرى في الحقبات التأريخية في أوروبا .

نعم قد يكون لبعض النصوص الدينية حاكمية على العقول فتعطّلها عن النظر أو الجرأة على البتّ أو التتبّع، لكنّ هذا ليس في الحقيقة من الدين في شيء، لأنّ وظيفة الدين تكمن في تحديد المعيار الموجب للتقرّب العبادي من خلال التشريعات السلوكية وتنظيم حياة الفرد والمجتمع، ولا دخالة للدين بتحديد النظريات العلمية، وإن وجدنا بعض النصوص فلا بدّ وأن يتمّ قراءتها في حضن الآلة العلمية ضمن المنهجية الصحيحة.



المقالات المرتبطة

رؤية بحثية قرآنية لفرعون موسى

مقدمة عندما يتحدث القرآن الكريم عن الأقوام السابقين، لا يذكر التفاصيل ولا الأسماء، فلا يذكر أسماء أهل الكهف، أو أسماء

مصطلحات عرفانية | الجزء الثامن

أناب – الإنابة في اللغة الرجوع. وفي اصطلاحات العرفاء لها مراتب بحسب مقامات السالكين؛ ففي البدايات هي الرجوع إلى الحق

حدود الفلسفة ولوامع العرفان (بين الفلسفة والعرفان)

الهدف من الفلسفة الإلهية، فيما يختص بالإنسان، هو جعله – من حيث النظام الفكري – عالمًا عقليًا مضاهيًا للعالم العيني. وأما الهدف من العرفان، فيما يتعلق بالإنسان، فهو وصول الإنسان بكل وجوده، إلى حقيقة الله، والفناء في الله،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<