القائمة الرئيسة

الصبر بين الابتلاء والجزاء

الصبر بين الابتلاء والجزاء

مقدمة

الصبر في المعجم اللغوي: صبر الشخص: رضي، تجلد، تحمل، احتمل، انتظر في هدوء واطمئنان دون شكوى ولم يتعجل، وصبر فلان عن الشيء: حبس نفسه ومنعها عنه، والصبر: عصارة شجر مر تستعمل في الطب واحدته صبرة وصبره الله: ربط الله على قلبه، من ألم أو بلوى، ويتحلى بالصبر: يتحلى بالجلد أي لا يظهر شكوى من ألم أو بلوى، الصبر: التجلد وحسن الاحتمال قال تعالى: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا[1]، والصبر على المكروه: احتمال دون جزع، قال تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ[2].  

مادة (صبر) في القرآن الكريم.

وقد وردت مادة (صبر) في القرآن الكريم في (103) موضع، وجاءت في (41) موضعًا بصيغة الاسم من ذلك قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ[3]، وجاءت في (62) موضعًا بصيغة الفعل من ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا[4]، وأكثر ما جاءت مادة صبر، بصيغة الفعل الماضي، كقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ[5]. كما وردت كلمة صبر ومشتقاتها في (45) سورة، وقد ورد ذكر الصبر في القرآن الكريم في (90) موضعًا منه كما ذكر الإمام أحمد بن حنبل[6].

(مقابل الصبر) هو الجزع وعدم الاحتمال.

ومن اللافت للانتباه أن المولى عز وجل قد أكّد في محكم آياته الكريمة على ابتلاء المؤمنين بامتحانات لهم ولمدى إيمانهم العميق وثباتهم على الحق، واعدًا إياهم بالبشرى لقاء صبرهم الجميل. قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[7].    

وعندما تقف عند تلك الآية الكريمة تجد المولى عز وجل يقرّر للمؤمنين أن الابتلاءات لا محالة في ستة أنواع وهى: [الخوف – الجوع – نقص من الأموال – نقص من الأنفس، ونقص من الثمرات].

ومن رحمة الله تعالى بالمؤمنين أن جعل الابتلاء بالخوف والجوع مسبوقًا بشيء من [أي بعض من]؛ إذ الخوف ألوان وأنواع والجوع كذلك، فالمؤمنون مصابون ببعض من هذا وذاك، وكذلك (في الأموال والأنفس والثمرات) مسبوقًا [بنقص من]، وهذا النقص يعني [ليس الكل]؛ بمعنى أن هذا الابتلاء مشفوع برحمة الله، والذي عاقبته [البشرى للصابرين]، وفي ذلك تخصيص لفئة صبرت وتجلدت وتحملت فكان جزاؤها عظيمًا عند ربها[8].

من أنواع الصبر

وقد أحصى بعض علماء المسلمين قرابة ستة عشر نوعًا من أنواع الصبر نذكر منها: الأمر به؛ كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ[9]، منه الصبر على الجهاد، والثناء على الصابرين؛ كقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[10].

معاني الصبر في القرآن الكريم.

ولقد وردت كلمة (الصبر) في القرآن الكريم بخمسة معان، وأكثر ورودها أن تكون بمعنى:

أ – الكف عن الجزع وتحمل المصائب.

 ب – الثبات.

 ج – الرضا[11].

د- الصوم.

 هـ – الجرأة.

أ- فالصبر بحبس النفس عن المكاره وعدم الجزع وهو أكثر معانيها ذكرًا، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ[12].   

ب- الصبر بمعنى الجرأة، قال تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ[13].

والآية تتعجب وتستنكر جرأة الكافرين.

ج- الصبر بمعنى الصوم، قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ[14]، وقد قال مجاهد: إن الصبر هنا بمعنى الصوم، ولذلك يسمى رمضان شهر الصبر[15].

د- الصبر بمعنى الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم له، ونجد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ[16].

ه – الصبر بمعنى الثبات كما في قوله تعالى: ﴿أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ[17].

وقد جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي (رض) يروي ما حدث في غزوة من غزوات النبي محمد (ص)؛ إذ التقى هو والمشركون فاقتتلوا ولما انتهت المعركة، وكان فيها رجل مسلم لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها، يضربها بسيفه، فقال أصحاب رسول الله (ص): “ما أجزأ هذا اليوم أحد كما أجزأ فلان”، فقال رسول الله (ص): “أما إنه من أهل النار”، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال فخرج معه كلما وقف، وقف معه، وإذا أسرع، أسرع معه، قال فجرح الرجل جرحًا شديدًا فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه، فقال رسول الله (ص) عند ذلك: “إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة”[18].

وقال ابن الجوزي في (كشف المشكل): (هذا رجل اسمه [قزمان] معدود في جملة المنافقين، وكان قد تخلف يوم أحد، فعيره النساء، فخرج لما أحفظنه (أغضبنه)، وقاتل مع المسلمين في هذه المعركة حتى جرح، مر به قتادة بن النعمان وقال له: هنيئًا لك الشهادة فقال الرجل: “إني والله ما قاتلت على دين”. ونخرج من هذه الرواية بأن الرجل من أهل النار لسببين: أولاها: إنه ما خرج ليقاتل أصلًا في سبيل نصرة دين الله، بل ابتغى الشهرة والدنيا، وثانيهما: إنه لم يصبر على جرحه، فقتل نفسه ومات منتحرًا، والمسلم المؤمن لا يكون مماته إلا لوجه الله، وليس لأي هدف آخر، إذ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[19].

ولا يتوقف صبر المؤمنين على القتال فحسب، بل صبروا في كل ميادين الخير راجين وجه الله تعالى، ففي مجال العلم يقف كل منصف موقف الدهشة والتقدير والاحترام لصبر العلماء المسلمين لما أنتجوه في كل فروع العلم والأدب والفن، من ابتكار وإبداع وتألق، وهذا الجهد العلمي الضخم والمتسع أفادت منه كل شعوب الأرض.

الابتلاء الإيماني.

وقد خلق الله تعالى الناس، ولم يتركهم دون امتحان أو بلاء، وما كانت الجنة إلا لمن ينجح في هذا الامتحان الرباني، ويصبر على البلاء في الشر، ويفتن في البلاء بالمال والجاه والسلطان والثراء والنعيم في الدنيا، فقد قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[20]، وقال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[21].      

وهنا البلاء امتحان للمؤمنين، وهذا البلاء لا يكون بالشر فقط، بل كذلك بالخير، والعبد إزاء ابتلائه بالخيرات والنعم إما أن يقابل ذلك بشكر مولاه فيكون له ثواب الشكر، وإما أن يقابل ذلك بالجحود والنكران، فيكون الجزاء النار وزوال النعمة، وكم من الناس من يدعي شكر الله على نعمه، أو يدعي الصبر على ضيق أحواله.

ولكن الله أعلم بالنيات؛ إذ يجب على المؤمن أن يترجم شكره وصبره إلى سلوك إيماني تدل حاله عليه في واقع حياته بين الناس، ونجد ثواب الشاكر لأنعم الله عليه، أو الصابر على البلاء في حديث المصطفى (ص): “عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له. أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صهيب”[22].

وقد يخيل للبعض أن درجة معاناة الغني الشاكر أسهل وأهون من معاناة الفقير الصابر، ولكن ذلك ليس صحيحًا، ففى كثير من الأحوال تكون معاناة الغني الشاكر أشد وطأة من معاناة الفقير الصابر لما يكتنف حياة الغني الشاكر من إغراءات المال وبطانة المنتفعين والمتملقين الذين يزينون له مكانه ومكانته، وجاهه وسلطانه، حتى إذا وقع في فخ الغرور والتعالي، انفض الناس من حوله.

ولهذا نجد الغني الشاكر يبذل كل طاقته ليسد منافذ الشيطان إلى قلبه، وهذا يتطلب منه عبئًا نفسيًّا عظيمًا، وفي هذا الصدد نجد ما وقع مثله مع بعض صحابة رسول الله (ص)، فيقول عبد الرحمن بن عوف في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه “ابتلينا مع رسول الله (ص) بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر”[23]، ولما كان الأنبياء صلوات الله عليهم وتسليماته، قد كلفوا بحمل أمانة النبوة بالتبليغ، والذي ووجه بأذى المدعوين في كل عصر، فقد كان أولئك الأنبياء أشد الناس بلاءً ما ورد من حديث سعد بن أبي وقاص “أشد الناس بلاء الأنبياء” [أخرجه الترمذي في جامعه[24]، وابن ماجه في سننه، وقال الترمذي حديث حسن صحيح ولا يخفى على أحد ما ابتليت به أمتنا الإسلامية من أنواع البلاء وصنوفه، وقد نالت هذه الابتلاءات منها نيلًا فادحًا، بعد أن وهن عزم أبناء الأمة وفتور همتها، وتخليها عن منهجها القرآني ودعوته إلى الصبر والثبات وحسن الظن بالله، فتأرجحت بين الصبر والجلد تارة، وبين الخواء الإيماني والجزع والوهن، وامتد بها الوهن والجزع زمنًا طال مدًا، وهو ما حذرنا منه نبي الأمة محمد (ص) في حديثه المروي عن ثوبان مولى رسول الله (ص) قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت”[25]. رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وقال الهيثمي في المجمع إسناد أحمد جيد[26].

والمتأمل يجد مضمون ذلك الحديث الشريف متحققًا بقوة في حياة أمتنا في وقتنا الراهن.

فإذا دققنا النظر في خريطة الأمة وفى صورتها تحت المجهر فسنجد أمة تخلت عن صبرها وعزيمتها؛ إذ لم تقابل نعم الله عليها من ثروات بالشكر، بل بالتبذير والإسراف والتبديد، ولم تقابل بلاء الله لها في المحن والشدائد بالصبر الجميل والثبات واليقين، بل بالخضوع والخنوع والاستسلام، ولم يعد أمام هذه الأمة من سبيل إلى النصر والعزة والكرامة إلا بتنفيذ أوامر الله تعالى بالصبر واليقين والثبات والتواصي بالحق والصبر شريطة أن يكون ذلك نابعًا من قلوب راجية عفو الله ومغفرته، قاصدة إعلاء كلمة التوحيد، والسير على المنهج القرآني القويم، حينئذ فقط يتحقق لها النصر ويكتب الخالق عز وجل لها الفوز بفسيح جناته.

* كاتب إسلامي ومفكر تربوي، مصر.

[1]  سورة البقرة، الآية 250.

[2]  سورة يوسف، الآية 18.

[3]  سورة البقرة، الآية 45.

[4]  سورة آل عمران، الآية 200.

[5]   سورة المؤمنون، الآية 111.

[6]  نقلًا عن محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين بن قيم الجوزية (1989)، عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، المدينة المنورة، مكتبة دار التراث، الطبعة 3،  الصفحة 71 بتصرّف.

[7] سورة البقرة، الآية 155.  

[8] من ملاحظاتنا لسلوك بعض البشر، وكذلك من سير الحكّام… نتأمل.        

[9]  سورة البقرة، الآية 153.

[10]  سور البقرة، الآية 177.

[11]  محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين بن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، بيروت، دار الكتاب العربي، 1996، الجزء2 ، الصفحات 151-155.

[12]  سورة الحج، الآية 35.

[13]  سورة البقرة، الآية 175.

[14]  سورة البقرة، الآية 45. 

[15]  من موقع إسلام ويب – https://www.islamweb.net/ar/article/215869

[16]  سورة الطور، الآية 48.

[17]  سورة ص، الآية 6.

[18]  صحيح البخاري، القاهرة، دار الريان للنشر، 1987، الجزء2، الصفحة 243.

[19]  سورة الأنعام، الآية 162.

[20]  سورة العنكبوت، الآيتان  2و3. 

[21]  سورة الأنبياء، الآية 35.

[22]  صحيح مسلم، من مكتبة نور الإلكترونية، الحديث رقم 259.

[23] سنن الترمذي، القاهرة، المكتبة السلفية، بدون سنة طبع، الجزء2، الصفحة 238.

[24] المصدر نفسه، الجزء2، الصفحة 265.

[25]  أبو داود، السنن، مكتبة نور الإلكترونية، حديث رقم 134.

[26]   ابن حجر الهيثمي، الأربعون العدلية، الأربعون حديثًا في العدل، القاهرة، مكتبة البالبي الحلبي، 1983، بتصرف.

الأستاذ محمد ناجي المنشاوي

الأستاذ محمد ناجي المنشاوي

باحث وأديب وناقد أدبي، موجه عام اللغة العربية في وزارة التربية والتعليم – مصر، له عدة مؤلفات منها: (الاستفراق – يوم العبد الرباني – دراسات نقدية لشعراء معاصرين).



المقالات المرتبطة

الحياد في لبنان بين الإيجابي والسلبي

تشهد البطريركية المارونية حركة زيارات كثيرة في الآونة الأخيرة بعد إطلاق البطريرك بشارة الراعي “نداء” لإعلان لبنان بلدًا حياديًّا>>>

قراءة في كتاب “نهاية حلم وهم الإله”

شهدت العقود الأخيرة نزعة نحو الإلحاد، وطبعت فيها العديد من الكتب الأجنبية المرتبطة بهذا الموضوع. وقد تصدّى بعض العرب لترجمة بعضها. ومن الكتب التي شاعت في هذا العقد الأخير كتاب (وهم الإله) لعالم الأحياء المُلحد ريتشارد دوكينز.

التحيُّز المِتافيزيقيّ في اللغة

اللغة حالة وجوديّة خالصة، وليس للعدم دخالة في تحديد ما تتقوّم به، بخلاف الماهيّة التي تُغاير الوجود وليست من سنخيّته.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<