الفلسفة والكلام في مدرسة الحكمة المتعالية – دراسة في آراء الفيض الكاشاني الفلسفية والكلامية

الفلسفة والكلام في مدرسة الحكمة المتعالية – دراسة في آراء الفيض الكاشاني الفلسفية والكلامية

عاش الفيض الكاشاني في مرحلة سطوع الدولة الصفوية في إيران حدود القرن العاشر الهجري. وعلى الرغم من الحروب التي دارت بين الصفويين ومجاوريه إلا أنّ المدن الداخلية حظيت بأجواء من الأمن والدعة أتاحت لها إقبالًا وافرًا على العلم والتعليم بإشراف مباشر من الدولة وتشجيع هجرة العلماء إليها. هكذا حفلت أصفهان – العاصمة آنذاك – بجهابذة الفكر؛ كالشيخ البهائي، والداماد والمير الفندرسكي، فتشكلت حلقة أصفهان؛ المدرسة التي حضر عليها ملا صدرا، وأعقبه تلميذه الفيض الكاشاني.

         كان للفيض إسهامه الخاص في حلقة أصفهان الفلسفية، حيث عمل على استلهام روحها وإعادة تشكيل وتنظيم الفكر الصدرائي في أهم أبعاده وتشعباته، ولا يمكن فهم أهمية هذا الدور ما لم ندرك الخط البياني التصاعدي لحركة الفكر آنذاك، وسعة الأفق الثقافي الذي احتكم عليه.

         وعمومًا، فقد شهدت المسيرة الفلسفية التي طواها الفكر البشري وضعيات استثنائية على مستوى الإنتاج الفكري والكفاءة الفائقة التي تميّز بها روادها في صياغتهم للعلوم والمعارف على أسس مفهومية مبتكرة، وطرق وأساليب منهجية لم تكن منظورةً في السياق الثقافي السائد آنذاك.

         وتميزت تلك الاندفاعات الفكرية بالعمق والجدة والتوسع في المعارف والغزارة في الإنتاج بحيث صعب على اللاحقين استيعاب تلك الجهود الرائدة وإعادة جمعها وتنظيمها معرفيًا بما يسمح لها بالانضواء في نسيج الفكر المتداول والمعمول به، فضلًا عن استثمارها نظريًا في السياق الحضاري، هذا الأمر انعكس سلبًا على مجمل المسيرة الفكرية الإنسانية. نجد ذلك بوضوح فيما آل إليه النتاج الفلسفي لشيخ الإشراق، حيث لم يتوفّر له من التلامذة والأتباع القدر الكافي لمتابعة نشاطه متابعة الجمع والإحصاء والحفظ والصقل والتقييم، فبقيت جهوده أقرب إلى طي الكتما منها إلى الإفصاح والبيان.

         وخلافًا لذلك، فقد تهيّأ للنهضة الصدرائية الناشطة على يدي صدر المتألهين الشيرازي من يعيد رسم خارطتها البيانية في أدق تفاصيلها ويعمل على تنظيمها وبيانها وضخها في مفاصل الجسم الثقافي العام، وذلك من خلال التميز والإبداع الذي اتسم به الفيض؛ التلميذ الوفي للحكمة المتعالية، والذي عرف بسعة اطلاعه على الثقافات السابقة وتعقبها، وتنوع قراءاته للثقافات الإسلامية على اختلاف مشاربها، وباعه الطويل في عرض المسائل وتشريحها بالتحقيق والتدقيق والتمحيص، وعمق التبادل الثقافي والفكري الذي اشتغل عليه وانعكس في مؤلفاته من فلسفة، وأخلاق، وعرفان، وفقه، وحديث، وتفسير.. مع تميزه بمعالجة موضوعاته بطريقة مبتكرة نظرًا لما يتمتّع به قلمه من قدرة بيانيّة فائقة على سبر أغوار البحث بعيدًا عن الإسهاب والتقصير، مع غنى وتنوّع في الاستدلال، ومباشرة الهدف بعيدًا عن الجدل، وجامعية الطرح مع كمال الاختصار، كل ذلك بأبين لفظ وأمتن معنى. هكذا ينقل لنا الفيض تجربته الثريّة وثمرة خوضه في غمار الفكر، لنستنطق معه روح الحكمة التي تمخضت عنها أصفهان من خلال آرائه التي شملت فلسفة الأخلاق، وعلم الجمال، والكلام، وأبحاثه في قضايا التوحيد، والعدالة، ومسألة الجبر والتفويض، والأمر بين أمرين، والنبوة، واللطف، والإمامة، والمهدوية، والمعاد الجسماني، وغيرها، متمسكًا في ذلك كله بالقرآن الكريم وأحاديث الرسول وأهل بيته الكرام (عليهم أفضل السلام).

         والفيض إذ يعمد إلى استلهام روح النهضة الثقافية والمعرفية التي شهدها عصره، يحدوه في ذلك رغبةً شديدةً في تحصيل العلم الحقيقي، وتهذيب الحكمة وتنظيمها، وإيجاد أواصر القربى بين العقل والشرع، فيعيد إنتاج ذروة الفكر الإسلامي في أعمق اجلياته نضوجًا، وذلك في حياة ملا صدرا وبعده، ويتميز بوفائه وإخلاصه لأفكار أستاذه من جهة العرض والشرح والتقريب، إلا أنّ هذه الجهود اللاحقة لم تحظ بالعناية التي تستحق إلى يومنا هذا؛ فبقيت كثير من مؤلّفاته مطموسةً على شكل مخطوطات في زوايا المكاتب بعيدًا عن متناول الأيدي، أو وجدت طريقها – في أفضل الأحوال – إلى الطباعة المبتذلة، دون أن تحظى بالتحقيق اللائق بها أو تخضع للدراسة والبحث العلمي.

         ونظرًا لاهتمام دار المعارف الحكمية بالعمل علة نشر الدراسات الصدرائية آخذًا بعين الاعتبار إبراز أبعاد الثقافة الإسلامية المتمثلة بالأعمال البحثية الهادفة والدراسات الجادة التي تناولت الفكر الإسلامي على تنوعه وغناه بطريقة منهجية معاصرة، تأتي هذه الدراسة في سياق الآنف لتقدّم لنا فكر الفيض الكاشاني وآراءه بصورة ممنهجة، ولتسهم في تسييل الفكر الإسلامي وتفعيل الثقافة الإسلامية ما أمكن إلى ذلك سبيلًا. نسأل الله أن تقع هذه الدراسة في الموقع المأمول لها، والله من وراء القصد.

تحميل المقدمة

تحميل الفهرس


المقالات المرتبطة

جعفر أيُّها الصِّدّيق

لمؤلف : … كمال السيد
الناشر : … مؤسسة انصاريان
صف الحروف : … افتخاري
المطبعة : … الصدر ـ قم
الطبعة الأولى: … 1417 هـ ـ 1997 م
عدد الصفحات:159

أربع مقالات

صدر عن دار المعارف الحكمية كتاب •أربع مقالات• لمؤلّفه الشيخ الدكتور حسن رحيم بور (أزغدي). ? يلقي هذا الكتاب الضوء

مقولات في فلسفة الدين على ضوء إلهيات المعرفة

تاريخ النشر: 2015
عدد الصفحات: 438
الطبعة الأولى
ISBN:978-614-440-040-1

تعليق واحد

أكتب تعليقًا
  1. كمال عزالدين
    كمال عزالدين 5 أكتوبر, 2018, 23:43

    إن ما تقومن به شيء جميل والله من واراء القصد إنشاء الله! ولكن أخي العزيز إعلم أن الخوض في هذا لا يشيد بنائه إلا

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

<