حكمة الإشراق
يعيد معهد المعارف الحكمية طباعة كتاب”حكمة الإشراق” للفيلسوف المتأله السهروردي، وهذا الأمر يعدّ تحدياً حقيقياً، فالكتاب حُقِّق مرتين. التحقيق الأول قام به الفيلسوف الفرنسي “هنري كوربان”، وصدر عن مؤسسة مطالعات وتحقيقات في طهران، والثاني قام به”جون والبريدج” و”حسين ضيائي” وصدر عن “Brigham young University press”” في الولايات المتحدة الأميركية.
والتحقيقان استقبلا بطريقة احتفالية، وشغلا الباحثين بالشأن الفلسفي، وهذا الأمر يجعل الإقدام على تقديم طبعة جديدة لهذا الكتاب مسؤولية ومخاطرة علمية، لأن القارىء سيستجلب معه عند القراءة تلك الأجواء، وسيحكم عليه من خلال مسبقات، حملت في طياتها عناصر الإطراء والتمجيد.
من هنا، يمكننا القول إن المعهد، يُقْدِمُ على مغامرة علمية في هذا العمل، وهذه المغامرة بحاجة إلى مشروعية، فهل يستطيع المعهد والباحثة أن يقدّم السهروردي؟ وما هو الإطار الذي سيضعه فيه؟ فنحن اعتدنا أن نؤطّر الفلسفة، أن ننسبها، فنرحل بالفيلسوف إلى عوالم الآخر، لنجد له موطناً نعزله فيه.
سؤالٌ سألناه، وأخذنا نبحث عن إجابة، سرعان ما انقشع المشهد عن صورة جديدة. صحيح أن المشتغلة على الكتاب “إنعام حيدورة” قد انطلقت من الموجود، استفادت منه، وتعقلته، اقتبست، أخذت، ولكنّها بحثت عن صورة “السهروردي” فوجدته متعبِّداً، يتلو الدعاء، يحبك الفلسفة التي أصبحت حكمة بخيوط الشهود والمنطق، ليقيم منها صرحاً من الأفكار تربط بين أطرافها آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
فالباحثة إنعام حيدورة في اشتغالها على الكتاب وتقديمها له، لم تبحث للفيلسوف عن أصل تنسبه إليه، كما جرت العادة في ذلك، فهي قدّمته باعتباره ممثلاً لتيار فكري في الحضارة الإسلامية، وليس كما نسب حيناً إلى نزعة فارسية،-تريد إحياء التراث الفلسفي القديم-، وحيناً آخر إلى نزعة أفلاطونية، و… وفي كلّ مرة لعب المقصد والهدف لعبته، أراد أن يعيد إنتاج إعدامه.
ولكننا هنا في هذا الكتاب، رأينا الباحثة تموضع السهروردي في موضعه. فهو دون شكّ تأثّر، أخذ، ولكنه سوّغ وقدم فلسفة منتمية إلى بيئة إسلامية، تنطلق من رؤية ملتزمة بالنظرة الكونية للإسلام، لذلك نراه يتحدّث عن الإطار التوحيدي للحكماء المشرقيين، وكأنه يريد أن يقول لنا إن التوحيد هو الأصل، الذي تبنى على أساسه معارفنا الإسلامية. وهذه الرؤية تثبت أن التوحيد هو الأصل هو منبع الإشراق، وكلّ إشراك كان إضافة إنسانية.
انطلقت الباحثة في تقديمها للسهروردي من خلفية، ترى أن الفلسفة الإسلامية لها خصوصيتها، تُعْرَف ُمن خلال طرحها لقضاياها، ومن خلال التزامها بالنظرة الكونية التي تقوم على التوحيد. صحيح أن هذه الحضارة تستفيد واستفادت من الآخر، ولكنّها لم تبق أسيرة له، فهي لم تعتمد استنساخ المقولات، لم تقل ما قاله الآخرون دون رؤية أو تبصر، فهذه الفلسفة على تنوع اتجهاتها ومذاهبها، كانت تحمل نظرة الإسلام ورؤيته لله والكون والإنسان، لذلك نراها تنشغل في إظهار المتطابق والمتماثل بينها وبين النص القرآني.
فالإسلام في تجلِّيه الأمثل، لا يمكن عزله عن الحضارة الإنسانية، بل يمكن القول إن الإسلام هو التجلي الأتم لحضارة إنسانية تقوم على التوحيد انطلقت مع آدم عليه السلام، وأنزلت بالتدريج على البشرية، حتى وصلت إلى تمامها مع النبوة الخاتمة لنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبالتالي فكل حضارة إنسانية دعت بمحتواها وتعاليمها إلى التوحيد واحترام الإنسان ككائن مكلف بالخلافة، هي جزء من حضارة الإسلام، ومظهر من مظاهره التكاملية التي وصلت إلى تمامها مع الدعوة الإسلامية.
هذا لا يعني، أن الباحثة حاولت أن تبث بالكتاب أفكار خاصة، ولكنها موضعته في الإطار الذي ينتمي إليه، فهي قدّمت بلغة علمية رصينة، عرضت الآراء بموضوعية، تبنّت نظرة محددة، ولكنها أبقت النص على حرفيته دون التدخل به، حتى الأخطاء التي اكتشفتها، أشارت إليها، وصوّبتها في الهامش. فهي تركت السهروردي في نهاية الأمر يتكلم بلغته كما أرادها.
من هنا، سنرى هذا الكتاب كتاباً يعرض فلسفة السهروردي دون أحمال النسابة وعلماء الغور في الأصول، فهو في نهاية الأمر كتاب ساهم في الحضارة الإسلامية، قدّم صورة جديدة، مزج الألوان لانتاج أفق جديد، قد نتفق معه أو نرفضه، فهذا خيار القارىء، ولكنّه يبقى جزءًا مكوِّنًا في حقل تداولي انبنى على أسس الإسلام ونظرته الكونية.
أحمد ماجد