ابن الطين ومنافذ المصير
مدخل
أنبأنا الله سبحانه في كتابه العزيز، من ضمن ما أنبأنا، عن جهد جسديّ بذله نوح لمّا أراد الوصول إلى مقرّ النجاة الإيمانيّ، وذلك عبر سنوات متادية من زرع النخيل والشجر الذي عاد ليصنع منه سفينة النجاة. وعن جهد وبذل تلقّاه ومن معه داخلها وهي تضطرب بأمواج متلاطمة من كلّ حدب وصوب، حتّى فتح الله سبحانه عليه ومن كان معه. كما حدّثنا عن مسير شاقّ واغتراب طويل وأعمال مضنية في حياة إبراهيم وموسى (عليهما السلام) كانت تتوّج عند كلّ منعطف برجاءات إيمانيّة ومعنويّة أفاض الله فيها عليهما بأوسع ممّا كانا يرجوان حتّى وصل إبراهيم للخليليّة وموسى ليكون الكليم. وهكذا حدّثنا البارئ سبحانه عن ابنة عمران حينما انتبذت من أهلها مكانًا قصيًّا، إذ استقرّت بحملها “كلمة من الله” تحت النخلة التي هزّتها بجهد المتعب، العطش، الجائع، طالبةً رزق ربّها الذي منَّ عليها برُطبٍ جنيًّا، فأكلت حتّى هدأ الجسد (الطين)، فاستقرّت النفس واستضاءت بنعمة اليقين، والثقة بحكم الله، لتحمل بعد ذلك ابنها آتيةً قومها بثبات العارف بالمصير وبالتحدّيات، مشيرةً لقومها ناحية نعمة ربّها الذي قال لهم: “إني عبد الله…”.
وفي مثل هذه الإنباءات الكريمة كان يحضر البدن، الجسد، الطين كعلّة مُعِدّة، إن لم نقل كشرط سببيّ، لاستنارة الروح بمعرفة يقينيّة للمصير. ولا عجب في ذلك، إذ ينقضي كلّ عجب حينما نعود لنصغي إلى إخبارات روائيّة وحديثيّة حول “خلق الإنسان” من طين خمَّره الله سبحانه أربعين صباحًا وليلةً ساكبًا فيه من ماء الحياة ليعود بعدها فينفخ فيه حياة الروح الإلهيّ. وليربط بذلك قداسة عالم الناسوت (الطين) بعالم اللاهوت الأقدس.
أمام هذا المستوى القرآنيّ والروائيّ العميق في مؤشرات وظيفة الطين (الجسد) وكرامته، وأنه مزرعة أعمال مصير الآخرة، كان لا بدّ أن نعود لنقرأ الجسد كرمز لعالم الناسوت، قراءةً تتفحّص من جهة الذهنيّة التي سكنت الجسد برهبانيّة كادت أن تقول إنّ مقتضى الزهد رفض الجسد، بل كادت أن تقول إنّ بين الجسد والروح تعاندًا وانفصالًا. من حقّنا هنا أن نصدم هذه الذهنيّة التي تعاطت مع البدن كثوب بالٍ وسخ بالسؤال عن دلالة احترام الإسلام له حتّى بعد موته تغسيلًا وتكفينًا، وصلاةً ودفنًا.. فضلًا عن ذاك الحشد الهائل من الوصايا والسنن التي حفّت حول تدبير البدن ورعايته. وكيف أنّ كلّ حركة أو عمل بدنيّ يرتبط بصورة معنويّة أو جزاء أخرويّ.
إنّ علينا المحاولة لتأسيس “إلهيّاتٍ معرفيّة” حول الجسد-الطين وعالم الناسوت المقدّس. وهي الزاوية التي منها نعيد قراءة “محوريّة الإنسان” في الدين، ذاك الإنسان بما هو تجلٍّ لعظمة مصدر الوجود ومنبعه سبحانه.
ومن هنا يبرز المعاد كحركة عود لاكتمالات تجلّي الحقيقة الإلهيّة في عالم إلهيّات الإنسان الأقدس. وإذا كان من ثمار نتوخّاها لمثل هذه الدراسة فهي التعرّف إلى البناء الإسلاميّ لأصالة الحياة الدنيا ككاشف عن عمل إحاطة عالم الآخرة فيها، وإنّ الواصل بين العالمين هو هذا المكتمل فيها والذي أسماه الله “الإنسان”. فهل بالإمكان أن نستثير منهجًا لقراءةٍ تبحث من جديد في أفق عالم الإنسان في الإسلام؟ هذا ما نرجوه…