قراءة في الظاهرة الدينية
تمثّل المناسبات الدينيّة عند الجماعات المنتمية قيمة عظيمة تنعكس تأثيراتها على السلوك الفردي والجماعي لأهل التدين والإيمان.. بل من الملحوظ أن بعض الأفراد ممن لا يلتزمون المسلك الديني بمعناه الخاص (التديّن) هم أيضًا يتفاعلون مع هذه المناسبات الخاصة، الأمر الذي يطرح التساؤل عن دلالة ورمزية هذه المناسبات. فهل هي أمورٌ شعائرية فولكلورية، أم أنّها تعبير ثقافي جمعي ليس إلا؟ هل هي تعبير عن إيمان عميق عند الناس يعبّرون عنه من خلال هذه المناسبات، أم أنه التزام عبادي وشرعي؟ تكثر التفاسير والتأويلات حول هذه الأمور، والملفت فيها هو إصرار المؤولين والمفسرين على اكتشاف السبب الواحد أو الأوحدي لهذه الظواهر. وهنا يكمن التفصيل الذي أثار وما زال يثير كل شياطين الخلاف والاختلاف. إلّا أننا نعتقد أن تعدد المظاهر ولو في أمر واحد إنما يعود لتعدّد في الأسباب ولو من جهة أو حيثية معينة.
فمثلًا حينما نتحدث عن مناسبة دينية تنطوي على توجيهات ذات طابع ديني وشرعي، فنحن أمام نظرة إيمانية بالدرجة الأولى إليها.
ولطالما كان أصل الصراع حول إقامة المناسبات والالتزامات الدينية عنيفًا ومؤسِّسًا في بداياته، إلى أن يتحول للتعبير عن هوية جماعة ما، سرعان ما ينتقل بعدها ليكون مخزونًا ثقافيًّا كامنًا في عمق وجدان شعب أو أمة، بل موطن أو قومية؟ وبعض هذه المناسبات يتحول إلى فولكلور عابر للمذاهب والأديان، بل للحالات الدينية أيضًا، وذلك مثل الاحتفاليات الخاصة بالميلاد الذي يعبِّر عن ولادة السيد المسيح وما يحفّه من تزيين شجرة الميلاد، والرجل المسن ذو اللحية البيضاء صاحب العربة السحرية، وكيس الهدايا (بابا نويل).
إذن، يتحول الأمر الالتزامي – الإيماني، عند البعض، إلى مسلك غير واعي يرتبط بالهوية العصبية غالبًا، ثم يميل ليكون فولكلورًا متعدّد الاتجاهات والدلالات. عليه، فلكل التزام مسلكي بالمناسبة الزمنية أو الشعيرة الدينية سبب مجتمعي أو ثقافي خاص. ولا يمكن – من باب الدقة – أن نخلط المسائل ببعضها وإلا وقعنا بالخلط بين الأمور والحقائق.
ولو أردنا نحوًا من الانتقال التطبيقي للمبحث وأخذنا نموذجًا على ذلك، إحياءات المسلمين الشيعة لشهر شعبان، لألفينا الأمر على الصورة التالية:
- أن شهر شعبان يمثّل في الوجدان الديني للشيعة قيمة من القيم التي يدخل من خلالها المعتقد – الملتزم إلى صوم شهر رمضان. وهو – شهر رمضان – المناسبة التي تمثّل ضيافة الله لعباده برزق الصلاح والإحسان. كما أنّ هذه الشهر (شعبان) يحمل بعد الزمن المرتبط برسول الله صلى الله عليه وآله، وهو لذلك يُسمّى بشهر رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله، فهناك توكيد على الصلة مع النبيّ كباب إلى الله.
- تقع في هذا الشهر مناسبات عزيزة منها على سبيل المثال: ولادة الإمام الحسين عليه السلام، ومن المعلوم كم للإمام الحسين عليه السلام من قيمة عالية في وجدان المسلم عامّة والشيعي على نحو الخصوص. من هنا يتذاكر المسلمون الشيعة أن ولادة الحسين كانت المناسبة لقبول توبة أحد الملائكة وهو “فطرس”. الأمر الذي يرمز بكثافة إلى عميق الرحمة الإلهية والشفاعة التي أولاها للمعصومين، مما يعمّق الصلة بين هذا الملتزم والمعصوم.
- إلى هنا نحن لا نرى في الالتزام المسلكي بهذه المناسبة إلا البعد الإيماني – الالتزامي، الصرف، لكن في هذا الشهر تكون ذكرى ولادة رجاء الخلاص، وذلك بذكرى ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ والإمام المهدي هو الرجل الذي اعتاد الشيعة أن يستقبلوا ولادته بفرح عظيم.
ومن المعلوم أن الغالب في المناسبات الشعائرية عند الشيعة الإمامية الحزن والألم والمأساة، إلّا أن الاستثناء الواضح عن هذا الألم إنما يتمثّل بذكرى ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي يعبِّر عن القدرة النفسية والروحية على تجاوز الوجع والابتلاء. فيعمّ الفرح المقرون والناتج عن رغبة الأمل، وأن تنفتح الحياة على نصرة الحق والمظلوم على الباطل والظالم. وهذه التعابير تصل لتشكّل الضفة الأخرى من الهوية التي تمثلها مناسبة ذكرى عاشوراء. فإذا كان الحزن هو عصب عاشوراء الحسّاس، فإن الفرح ورجاء الأمل هو العصب الآخر المتمثّل بولادة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في العناصر المكوِّنة للهوية الشيعية بإسلاميتها المرتبطة بالرسول محمّد صلى الله عليه وآله.
أمّا أهل الإيمان والالتزام الديني في إحياء المناسبة فإنهم يعايشونها بمستويين:
المستوى الأول: عبادي، يتمركز حول الخامس عشر من شهر شعبان، وذلك بالصوم المستحب المسبوق بإحياء ليلة هذا اليوم الضاجة بقراءة القرآن، وذكر الله وقراءة الأدعية الشريفة، إذ يعتقد الشيعة أن هذه الليلة تحمل عمقًا كبيرًا من روح العبادة والصلة بالباري سبحانه، وأن في إحيائها وصلًا مع التقدير الإلهي لمصير أمة المسلمين ورفع الضيم عن المستضعفين. من هنا، فإن المتهجّد يكثر من دعاء “اللهم عجل لوليك الفرج…”.
المستوى الثاني: عبادي – سياسي، وهو انتظار الفرج؛ وانتظار الفرج يعني الاستعداد النفسي والعملي للحظة إعلان بدء التحول الكوني بالخروج من الظلمات إلى النور بإذن الله للقائم المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله. الخروج لجمع الناس من أهل الإيمان والمستضعفين في الأرض للمطالبة بحقوقهم.
وتحشيد هذه المفاهيم الاعتقادية إنما يصيغ الشخصية الإيمانية باعتبارها الرسالي الذي لا يهدأ ولا ييأس، ولهذا عدّ هذا الانتظار حسب الروايات أفضل العبادة.
ولا يفوتنا هنا أن المراقبين لهذه الاعتقادات في الوقت الذي يضعون فيه أنفسهم بموقع المراقب للظاهرة، فإنهم ينزلقون نحو الخصوصية الاعتقادية متناسين الفارق بين الأمرين. إذ سواءً أكانت هذه العقيدة صحيحة أم باطلة، حسب نظرهم، فإنها عند أصحابها اعتقاد راسخ له تأثيره البالغ في السلوك العام. وما على المراقب إلا أن يلحظ هذا السلوك العام وتأثيرات العقيدة الخاصة به. إذ بحسب اعتقاد الشيعة إنما حفظ مسار الجماعة الإسلامية الشيعية هو رسوخهم في هذا المعتقد الذي لا يأس فيه ولا استكانة.
إن للمناسبات الدينية الأثر الواضح والكبير في كل هذا المسار الإنساني، وعلينا أن نعيه كحقيقة بيِّنة و… للحديث صلة.