شهادة في سبيل الله
ليست الشهادة مجرّد مفهوم يبتكره العقل ويصوغه البيان، كما يحلو للبعض أن يمارسه في هذا الإطار الضيق.
إن الشهادة فعل إيماني نابع من إيمان عقيدي؛ أما كونه إيمان عقيدي فلأن الشهادة تنبع من رؤية ووجدان ينظر للحياة على أنها استمرارية لا تنقطع مع انقطاع الصلة بالحياة الدنيا. إنها نحو من الخلود، فما وُجد لا يُعدم، والمعدوم لا ينوجد أبدًا. إن الحياة، حسب الرؤية، صنو موتٍ، كلاهما خلقٌ من خلق الله، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[1]. فالحياة خلق من الله سبحانه كما الموت، ومن المعلوم أن الحياة في ولادة الدنيا تتشكّل فيها الصور للأفراد والصفات والميزات، وكذلك الموت نحوٌ من ولادة للخصائص يتوارثها المرء من دنياه. فإذا ما اقترب من مصدر وجوده وعمل على التوجه إليه أولاه رب الوجود خاصّية الشهود على الموجودا فأُسمى بذلك شهيدًا، ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾[2]، وهي ميزة وإن حضرت في الحياة الدنيا، إلّا أن اكتمالاتها تكون في يوم الشهود، في الآخر من يوم المبعث والقيام بين يدي الله سبحانه حينما يتحول أهل الإيمان الشهودي إلى حجج شاهدة على الناس، وعلى رأس الجميع، الأكمل من الناس وهو النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم. لذا، فللشهادة مصدرٌ إيماني – عقيدي واضح يختزن كل صور الرؤية والوعي لطبيعة الوجود والحياة ومسارات الخيارات فيها، مما أعطى موضوعة الشهادة كما الموت والحياة غائية الابتلاء. والابتلاء نازلةٌ من النوازل الإلهية التي ترتسم على شكل سنن تؤسس لما هو كائن وما يمكن أن تكون عليه مصائر الفعل الإنساني، بل الشخص الإنساني.
وبما أنه ابتلاء، فهو مقصد فعل ومهبط نعمة. نعمٌة لا تصيب إلّا من قصدها عن روح ووعي إيماني وجهد وجهاد عملاني فاعل.
فالشهادة بمعنى القتل في سبيل الله سبحانه، وإن كانت نعمةٌ من الله سبحانه، إلّا أن درب سلوك هذه النعمة مشروط بالجهاد، بل ببذل الجهد في الجهاد؛ إذ الجهاد بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، كما يعبِّر أمير المؤمنين وأمير الشهداء الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
ففعل الجهاد يستنزل النعمة، والشهادة هي عين النعمة الإلهية.
يبقى هنا أن نشير إلى بعض الأمور:
الأمر الأوّل: ليس كل من لبس ثوب الجهاد كان مجاهدًا في بطن الغيب، كما وليس كل من قتل هو شهيد. إذ بدون ذاك القرب المعنوي والرؤيوي من الله لا الجهاد جهاد، ولا الشهادة شهادة.
إذن، تنضيج الرؤية العقائدية والعمق الروحي هما مطلوبان حتمًا في منطق الشهادة لله سبحانه. وهذا ما يطلق عليه اسم الجهاد الأكبر، وهو أمرٌ لازم للجهاد الأصغر.
الأمر الثاني: لا يمكن لأحدٍ في هذه الدنيا أن يحكم على مقتول في سبيل الله بمصيره الذي سيؤول إليه، لأن الأمر بيد الله أوّلًا وآخرًا. وبالتالي ما علينا إلّا حسن الظاهر الأخلاقي والعقيدي تجاه أيِّ من المقتولين – فعلًا – في درب وسبيل الله الذي هو درب المستضعفين في الأرض.
وهنا في هذا الباب، لا بد من إشغال البصيرة في تبيان معنى “القتال في سبيل الله”، وما الذي، ومن الذي يصدق عليه هذا المعنى.
الأمر الثالث: هو في مراعاة أمر شديد الحساسية، وهو يرتبط بمن يلتحق بمرتبة أو بمعنى الشهداء، من أمثال: من مات على وضوء فهو كالمتشخط بدمه، المقتول ظلمًا، الكاد على عياله، موت المنتظرين للفرج، من مات وهو في طريق السعي لنيل الشهادة… وغير ذلك. إن هؤلاء ليسوا شهداء بالمعنى الشرعي للكلمة، إنما هم ممن تنزلهم الرحمة الإلهية منزلة الشهداء، والله أعلم.
[1] سورة الملك، الآية 2.
[2] سورة البقرة، الآية 143.