إشكالية العصبية، والنص الدينيّ
هل يمكن لأي قراءة أن تكتشف العلاقة الموضوعية بين النص الدينيّ والعصبية؟
إنه لمن المثير للجدل هذا الالتباس الحاد الذي نجده مع النصوص الدينية التي ترغِّب بالعفو ومعونة الآخر، وأهمية الخلائق والإنسان على نحو خاص، ثم الوجه الحاد في تعاطي الجماعات الدينية مع أديانها ومعتقداتها بحدة من الهوية وعصبية في الانتماء، بحيث يتعاملون مع الخلائق على أساس مركزية المؤمن بالديانة الخاصة التي يؤمنون بها، وبرفض كل ما هو خارجها، وفي أفصل الأحوال فإن الجماعة الدينية تُصنِّف الآخر في خيريته أو شرّيته بمقدار مشابهته لسلوكياتها، وبمقدار مودّته التاريخية معها.
فلأي سبب تعود هذه العصبية؟!
هل هي وليدة النص نفسه برغم ما يضج به النص من تحفيز على المحبة والرحمة والود والإحسان؟
أم أنه يعود لأسبقية تربوية نابعة من البيئة الثقافية والمجتمعية التي تنتمي إليها جماعات التدين؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا يشي بعدم كفاءة النص على إحداث التغيير الجذري في الحياة المجتمعية للإنسان؟
مثلًا، عندما نعتبر أن المتدين الذي يعيش في الجبال الجرداء أو الصحراء القاحلة، يمتاز بالعنف والمزاج الحاد، وبالتالي هو أقرب للحياة العنفية من ذاك الذي يقطن الساحل والمناطق السهلية، ألا نكون بهذا المعنى قد اعترفنا بأثر البيئة الحاكم على التعاليم والمقرّرات؟
لكن ينبغي أن لا يفوتنا هنا القول بأن هذا الوضع كما أنه يصح على الجماعات الدينية، فإنه يصح على غيرها أيضًا، مما يعني أن ننقل الإشكالية من العلاقة بين النص الديني والجماعة إلى دائرة العلاقة بين المعتقدات الدينية أو السياسية أو الأيديولوجية من جهة، والجماعات المنتمية من جهة أخرى.
لذا، لا يصح على الإطلاق الانجراف مع الحملات التي لا تتوانى عن اتهام الدين بالقصور أو التقصير في تربية جماعاتها على الاستقامة والسلوك الحضاري – الإنساني، بل هذه الأحادية في النظر للدين من قبل تلك المجموعات المتحاملة على الدين إنما يُثبت أمرًا واحدًا وهو مقدار تحاملها العصبوي الإقصائي على الدين، وهي روحية تحولت إلى منهجية في النظر إلى كل ما ينتمي للماورائي الديني أو الميتافيزيقي، بحيث بتنا نقرأ ونسمع لتيارات الإلحاد الفلسفي أو العلمي أو السياسي تحت عناوين من ساتر المعرفة والعلم والعلمانية أو الليبرالية.
من هنا، يحق لأي أحد أن ينظر إلى تلك الحملات والجهات التي تقف وراءها نظرة المُتّهم والرافض لأصل مقصدها فضلًا عن منطقها.
وبتقديري الأوّلي، فإن المعني ببحث هذه الإشكالية هم طرفان:
الطرف الأوّل: الباحثون في الحقول الاجتماعية، المنطلقون من خلفية رصدية محايدة، ولو بمستوى من الحيادية؛ وعلى هؤلاء أن يقدّموا المعطيات الأوّلية بين يدي المنظّرين في حقوق المعارف الإنسانية والاجتماعية. ونحن موافقون على أصل الاختلاف التأويلي بين أصحاب هذه الاتجاهات شرط أن لا نملي على أي جهة منهم ما ينبغي وما لا ينبغي الوصول إليه مسبقًا من أحكام.
الطرف الثاني: وهو المختص بالبحث الديني من أهل الاختصاص في هذا الدين أو ذاك، الذين عليهم أن يدرسوا المسألة بمستويين:
المستوى الأوّل: توليف الاختلاف الظاهر من النصوص، بحيث يعيدون جهات متعدّدة إلى الجهة المركزية لينشئوا بعدها نسيج العلاقة في منظومة قيم هذا الدين.
على سبيل المثال، حينما نرى في الإسلام نصوصًا تتحدّث عن الرحمة والعفو والمغفرة والإحسان، ثم نرى نصوصًا تتحدّث عن الجهاد والقصاص واستعمال القوة، علينا أن ندرس النص في مفاضلته بين هذين النوعين من القيم، ما الذي يقدمه وما الذي يؤخره. فإذا ثبت أن الرحمة هي الأصل والعقاب هو التالي، فينبغي ترسيخ منهجية تعتمد على ذلك، ثم علينا أن نرى هل وُفِّق النص في إيجاد تناغم خلّاق بين القيم الأساسية والقيم التالية أو المتفرعة أم لا؟ وكيف أرسى هذا التناغم والوفاق؟
المستوى الثاني: هل النص قدَّم نفسه كبديل عن الاختيار البشري؟ بمعنى هل اعتبر النص أن تأثيره التغييري يحصل عند الجماعة الإنسانية من دون دورهم الإرادي أم أن أثره يظهر بعد هذا الخيار الإرادي؟ مثلًا، حينما جاء الإسلام إلى مجتمع جاهلي، هل مجرّد نزول الآيات كان كافيًا لإحداث التغيير في المجتمع وتحويله إلى مجتمع إنساني – ديني، أم أن هذا كان يحتاج لرسول قائد، وجماعة مدبِّرة، وجيش منظّم، ونظام فاعل يراعي الأعراف والواقع، بل كان يحتاج إلى أحداث وسياسات وانقياد من قبل أناس احترموا وقدّسوا ما نزل إليهم؟
ثم النص، هل اعترف بكل هؤلاء حينما قال: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[1]، أم أنه تصدّى لفرض التأثير وحده؟ إذا اعتبر النص أنه وحده وبدون فعل الجماعة وإرادتها هو من يُحدث التغيير، ثم إن هذا التغيير لم يحصل رغم وجود النص. فإن من حقنا القول: إن النص لم ينجح. أمّا إنّ النص لم يتصدَّ لذلك، بل أحال الأمر للإرادات الصادقة في الإيمان به، فإن لحديثنا عن النص وجوهٌ أخرى!!
وللحديث صلة.
[1] سورة الرعد، الآية 11.