الإيمان وتجدّد الثقافة والهويّة
إنّ مسألة الإيمان، وبرغم كل المحاولات التي سعت لجعلها مجرّد حالة نفسية فردانية تربط الفرد بما هو فرد بربّه، هي في واقعها الحياتي ومدار تأثيراتها مسألة ترتبط بالحياة العامّة للإنسانية إلى درجة أمكن فيها أن نقسّم الناس على أساس معيار الإيمان إلى من آمن، ومن كفر، ومن نافق، ومن طغى، ومن أسلم وغير ذلك… وهذا التقسيم لا يمكن اعتماده أو الالتفات إليه ما لم يكن الإيمان في تحديده مستندًا إلى واقع حقيقي، موضوعي، بحيث ننسب هذه الحالة الروحية التي تصيب الإنسان إلى أمر ما، فنكون أمام نسبة تربط بين طرفين هما: روح الإنسان والموضوع، أو الواقع الذي ترتبط به هذه الروح.
أما الروح فهي الأمر المشترك بين الناس، والذي يخضع للتنشئة والتربية والتصفية والتجلية وغير ذلك؛ وطبعًا إنما أقصد بالروح هنا النفس، لذا فقد تكون النفس في شطط وشيطنة، وقد تكون رحمانية تقرب من مقصودها قاب قوسين أو أدنى، وقد تكون ربَّة التمرّد على كل شيء، أو مؤدِّبة كل شيء. إن النفس بهذا المعنى، هي هوية الفرد من الناس. أما الموضوع أو الواقع الذي تقصده وتستهدفه فقد يكون الذات عينها، فتدخل في حلقة مقفلة، وقد تكون جهة غيبية هي الشيطان، فتتخذ من عدوّها خصمًا لها لتقع على الدوام في تيهٍ ومجهولٍ خانق كمن يصَّعَّد في السماء، وقد يكون هذا الواقع هو الحاضر دومًا في السماء والأرض، وفي الغيب والشهادة فتنفتح على انشراح الوجود كله، لتتماهى مع الكون والحياة بامتداداتها الأرضية والأخروية.
هذا، وإن العلاقة التي تُبنى على معيار الإيمان هي ليست جامدة أو بلا منعطفات ومنحنيات من التبدّل والتغيّر والتطور، بل كل ذلك يحصل وبحركية خلّاقة. لكن علينا هنا أن نعي أن الإيمان بهذين الطرفين سيبقى في حالة الفردانية ما لم نلحظ فيه القسم الثالث وهو النسبة، والتي هي المسمّاة بالإيمان؛ إذ الطرف الأول مؤمن، والطرف الثاني الموضوع أو الحقيقة أو الواقع، أما النسبة فهي التي تربط المؤمن بما يؤمن به وهي الإيمان. إن هذه النسبة قد تكشف عن نفسها بالمعتقدات أو الطقوسيات أو السلوكيات أو الأفكار، وهي ما يطيب للبعض أن يسميه ثقافة. ونحن وإن كنا نعتقد أن للدين أو العقيدة والطقوسيات علاقة بالثقافة، إلّا أنّ الثقافة أمرٌ ناتج عن علاقة بين أمرين هما: الزمن والمعتقد من جهة، والزمان والمكان من جهة أخرى. فحينما يخنق الزمكان الدين والمعتقد نكون مع الثقافة العلمانية، وهذا الحاصل مع عديدٍ من الشخصيات والمؤسّسات التي تسمُ نفسها باسم الإسلاموية. أما إذا فتك المعتقد بالزمكان فإنه يحوِّل الأمر إلى تطرّف وغلو ديني يخنق أصحابه وينفيهم عن دائرة محضر الرحمة والحياة. أما الوفاق الديني والتاريخ (الزمان)، والجغرافيا (المكان)، فإنه الوضع الذي سيسمح بثقافة اعتقادية معاصرة رغم أصالتها، وحركية رغم ثوابتها، ومتجدّدة في وحدة هويتها ومقالها ووجدانها.
إنّها العقلانية الاجتهادية التي ندعو إليها والتي نعمل على صوغها في مشروع إلهيات المعرفة.
تقديم الثقافة العلمانية والتطرف من خلال هكذا مقاربة لهو أمر ملفت ، خاصة أن هكذا سياق يجعل ارتباط التحديات مقابل التكفيريين وتجاه الغرب المستكبر في آن واحد أمرا جليا ومنطقيا ، إذ فهمنا من سماحتكم ان للخصوصيات الزمانية والجغرافية مدخلية محورية في تشكل الثقافات المختلفة…
تبقى ملاحظة شكلية، إذ لعل سبق القلم خط كلمة ‘خصما’ مع أن السياق يشير الى ان المراد هو انهم اتخذوا الشيطان خليلا… والله العالم…
تتحفوننا سماحة الشيخ بمقالاتكم
تقبل الله منكم الاعمال