السؤال، والنقد – الإيماني
حدّثني أحد الأصدقاء عن أوّل لقائه بزاهد طاعن في السن، مستغرق في حب الله سبحانه، لما رآه ذاك الزاهد سأله عن اسمه فأجاب، ثم قال له: “هل تعرف نفسك؟”، فما كان منه إلّا أن قال ودون تريّث، نعم. تبسَّم الزاهد وتمتم، لقد ادّعيت شيئًا عظيمًا.
ثم قال الزاهد ممازحًا: هل تعرف نفسك؟
لا يا صاحب السماحة، وأنّى لي أن أعرف نفسي.
فبادره بابتسامة أوسع وقال: عجيب، وكيف لا يعرف الإنسان نفسه؟!
الأمر طبيعي إلى هنا في هذا اللقاء أن يكون الشيخ الزاهد بسّامًا؛ إذ المروي أن المؤمن “بشّاش”، يمازح بقدر، ولا يلقى الناس بعبوس. لكن هل وظيفة المؤمن الحكيم أن يتعامل مع الناس في الأحجيات؟! هل وظيفته أن يشير للشيء وضدّه؟!
هنا تكمن المسألة. نعم، لو كان الذي يتحدّث شخصٌ عاديّ لمررنا على الموضوع مرور الكرام، أما أن يكون عارفًا، زاهدًا، فقيهًا، حكيمًا، فلا بدّ من التوقف قليلًا. في البعد الأول للمسألة علينا استحضار قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾[1]؛ إذ في الأمور الحسّاسة والأفكار المركزية لا يصح أن نعبُر عليها ومن حولها ونمر مرور الكرام. لا بدَّ من استحضار الأسلوب الذي يثير كامل الانتِبهاه عند المُخاطَب، بحيث نستنفر فيه السؤال النقدي الذي يحرِّك ذهنه وقلبه ووجدانه، بلطف ومحبة. ولا يعتقدنّ أحد أن الإجابة الناجزة والجاهزة في الأمور الأساسية هي المطلوبة، فما يأتي بالسهل يضيع بالسهل. إن المعاناة والقلق والإحساس العميق بالمسؤولية شرط لتحصيل المعارف الأساسية في حياة الإنسان. إن وظيفة السؤال هنا تشكّل مفتاح الكشف عن الحقائق وهي – أي الحقائق – تنبع من الذات، لكننا اعتدنا الغفلة، وأدمنّا الاسترخاء واللامبالاة، حتى كدنا نظن أن الكسل المعرفي هو توأم الإيمان – والعياذ بالله- ..
لا بدَّ للسؤال أن يستعرض سطح المتضادات بين الحقائق والأشياء، من مثل: الرحمن/ شديد العقاب- الشقي/ السعيد- الخير/ الشر- الجبر / التفويض- المعرفة/ الجهل… وغير ذلك.
ولا بدَّ أن نغوص عميقًا وبرفق مع السؤال لنكشف الحقيقة ووجوهها ومظاهرها المتنوعة المتعدّدة. لكنه ليس أي سؤال، بل هو ذاك السؤال الناقد، الجسور، الحريص، المنطلق من الذات نحو الذات، ليكتشف الذات، وليكتشف العالم باستنارة، وما يحفّ العالم والذات من حقائق قيومية. واستدراكًا، أراني مضطّرًا للقول: إن مقصدي هنا لا يرتبط باكتشاف المظهر، وعلاقات الكائن بالكائن، والجسم بالجسم، والجزئية بالأخرى، فهذا يعود شأنه لاختصاصات أخرى.
لكنني أقصد المبدأ والغاية من المعرفة، وهي وإن ابتدأت من حصيلة ما يطفو على السطح من وجود وعلاقاتها، لكنها تعود لتذهب بعيدًا في أصل ومقصد وجودها، ولهذا الشأن برزت سُفُن التدبّر، والتفكّر، والذكر، والتأمّل، وكلّها أمورٌ، رغم ما يبدو عليها من وجه تعبّدي – إيماني، لكنها في عمق دورها وتجلّياتها لا غنى لها أبدًا، عن النقد – الإيماني.. وليس النقد الإيماني، إلّا العقل والفهم والسؤال المسؤول.
وهنا وللمرة الثانية، أجدني مضطرًا للإشارة، أنه لا يصح لأحدٍ أن يظن أن النقد يساوي كشف السلبيات؛ فالنقد ليس نقضًا. إن النقد هو المراجعة المسؤولة وتقليب الوجوه في المسألة بغية الوصول إلى ما يرتقي بالمعرفة الإيمانية سُبُل التكامل، وسُبُل السلام.
عليه، هل يعرف المرء نفسه؟! … للحديث صلة.
[1] سورة النساء، الآية 63.