الحج وروح مكة
لطالما تعامل الناس في عالمنا الإسلاميّ مع موضوع الحج باعتباره شعيرة استثنائية يقصدها المرء في الأيام الأخيرة من عمره. إلى الحدّ الذي كان فيه كثيرون يستغربون أن يقصد الحج شابًا في مقتبل العمر. ولقد أعاد بعض الناس الأمر إلى قلة معرفة في الأمور الفقهية، وأن معيار الذهاب للحج ليس التقادم في العمر، بل الاستطاعة، سواء أكان المستطيع، القادر، شابًا أو شيخًا كبيرًا. وأعتقد أن الالتباس في هذا الشأن يعود لأمرين اثنين:
الأمر الأول: انصباغ البيئة الإسلامية بثقافة اللذة الدنيوية، وأن الحج هو للذين خرجوا عن قدرة استكمال حياتهم. وبالتالي، فإن حق الشباب هو الانغماس في متاع هذا العرض الزائل.
الأمر الثاني: وهو الأصل هنا، وهو الذي ننظر إليه بعين الريبة؛ إذ نعتقد أن إرادة الاستكبار الشيطاني وأعوانه من حكام المنطقة وأدعياء التنور والثقافة فيها عملوا عميقًا على فصل الدين عن شؤون الحياة العامة، وعن السياسة. ولأنهم يعرفون أن بعض الممارسات الدينية في الإسلام تحمل في مكامنها القدرة على الاستنهاض وبناء حياة مجتمعية وسياسية قائمة على القيم الدينية، من مثل: صلاة الجمعة والجماعة، والخمس والحج. فإنهم عملوا على حذف هذه العبادات أو تحويرها وتفريغها من مضمونها. ولعل نهضة الإمام الخميني (قده) التي هزّت العالم، لم يخشاها هؤلاء، فقط لأنها أقامت حكومة إسلامية، بل لأنها أيضًا بعثت الروح والقدرة مجدّداً في العبادات، والشعائر، والطقوس الإسلامية. فصار منبر الجمعة والجماعة منصّة وعي وبصيرة، وصار الخمس موردًا من موارد ترويج العلم ونشر المعارف والتطور، وصار الحج مؤتمرًا للمسلمين يعلنون فيه براءتهم من ظلمة الأرض ويسعون فيه لمحاربة التفرقة والاستبداد.
لقد أسّس الإمام الخميني (قده) للحج في زماننا المعاصر أبعادًا جديدة فتحت أمام أجيال الشباب في عالمنا الإسلامي الأبواب الواسعة في مجالات مثل:
أولًا: أن الحج ظرف زمني وجغرافي لتحصيل الهدى والتقوى، وهذا ما أشار إليه تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾[1].
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ﴾[2].
إن الحج إذًا منبع هدًى وتحصيل تقوى لأولي الألباب.
ثانيًا: إنه الفرصة التي على كل مسلم اغتنامها للتعاون على البر والتقوى.
﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[3].
ثالثًا: إن الله جعل البيت الحرام انطلاقة لقيام إسلامي ثوري ناهض يقصده المسلمون من أطراف الدنيا، ليشكّلوا من خلاله القوة الموحّدة الرادعة ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ﴾[4].
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[5].
إن الحج في مقاييس نهج الإمام الخميني (قده) هو تحصيل للهدى والتقوى، وهو تعاون على البر والتقوى، وهو قيام لله يقصده الناس من كل فج عميق..
من هنا، انقسم الناس إلى قسمين: إلى من يريد حفظ روح الحج، وإلى من أراد، برفضه لهذه المعاني والقيم، أن يقتل روح الحج.
وهؤلاء هم الذين ارتكبوا مجزرة مكة الأولى والثانية.
وهم الذين عملوا وما زالوا على شن الحروب على مستضعفي العالم الإسلامي من أحرار هذا العالم، وهم الذين يريدون أن يصدّوا الناس عن سبيل الله سبحانه.
إن المعركة اليوم هي معركة روح مكة التي يريد فريق أن يحفظها، ويريد فريق آخر أن يقضي عليها.
ومنها نرى تباشير الصبح الآتي…
[1] سورة آل عمران، الآية 96.
[2] سورة البقرة، الآية 197.
[3] سورة المائدة، الآية 2.
[4] سورة المائدة، الآية 97.
[5] سورة الحج، الآية 27.