دلالة الرؤية الكونيّة التوحيدية
ليس بذي بال أن نبحث عن أول انطلاق مصطلح ما، إلا بمقدار ما يفيدنا هذا البحث في تحديد المعنى المقصود من المصطلح.
لذا، فإن الرؤية الكونيّة وإن كان التعبير عنها أول ما جاء في أدبيات الفلسفة الألمانية، إلا أن المراد الذي تحمله بما يعنيه من إحساس بالعالم ومعرفته العميقة، بحيث تتحول هذه المعرفة إلى رؤية ننظر من خلالها للعالم والوجود والحقائق الكامنة فيهما، لينعكس ذلك في أفق القيم الأخلاقية التي نتبنّاها، وفي مدَيات المواقف الناظمة للحياة ومسارات التشريع والقوننة والسلوك، بل إنه ينعكس في قراءاتنا التحليليّة والتأويليّة للتاريخ والتراث، وطموحاتنا تجاه المستقبل، ورجاءاتنا من أي مصدر إلهاميّ، أو حيوية تغييريّة.
إنّ مصطلحًا يحمل كل هذه الدلالات سواءً عند أول انطلاقته أو عبر منعطفاته الزمنية والبحثية والتاريخية لهو جدير بأن ننظر إليه نظرة اهتمام وتقدير واحترام؛ بل قد نتلمّس بعضًا من القداسة في مضامين ما يحمله. فلو أخذنا مثالًا على ذلك تعبير “النظرة التوحيديّة” أو “الرؤية الكونيّة التوحيديّة” فإنها، وإن حملت مضامين مفهومية، وانطوت على قواعد وتحليلات نظرية وعملية بشرية؛ أي قائمة على مجهود معرفي بشري؛ لكنها تدور حول محور إيمانيّ مقدّس هو “التوحيد”. ولن أكترث هنا، كثيرًا، بالانقسام الذي افتعله بعض الوضعيين من تقسيم التوحيد إلى شخصيّ وربوبيّ؛ لأن الغاية من كليهما واحدة؛ وهي وجود قوة حقيقية وراء كل حقيقة ووجود؛ وهي قوة فعليّة قائمة بذاتها ويقوم غيرها بها، على أي نحو أردنا أن نفسِّر هذا القيام والقيومية. وهذه المحورية هي التي تستحق القداسة ومنها تتجلى وتتمظهر بقية الوجودات وصنوف الحياة بكل ما تزخر به من سنّتيّة وقيم وغير ذلك…
إن الرؤية الكونية التوحيدية، عندنا، لا تقوم على اعتبار أن الله سبحانه يعطِّل العالم، بل إنه التفسير السببي الأول والأخير لهذا العالم مصدرًا وغاية، وأنه الملهم لإرادة الاختيار الإنسانية نحو تقرير مصيرها، وأنه واضع السنن لكون عضوي في حركته وانتقالاته.
وهذا ما يفسّر، أولًا مصدر كل شيء، ثانيًا موقعنا من كل شيء، ثالثًا كيف يمكننا تغيير المحيط من حولنا.