by الأستاذ علي يوسف | نوفمبر 28, 2016 1:32 م
من النمو إلى التنمية
“التنمية”، لغةً، مصدر للفعل المزيد “نمَّى” من الفعل الثلاثي “نما” الذي مصدره “النمو”. ما يعني أنّ مفهوم التنمية على علاقة بمفهوم النمو، وأنّ الكلام على التنمية يفترض الكلام على النمو.
الفعل نما، ينمو، نموًا فهو نام فعل لازم، ما يعني أنّ النمو عملية ذاتية تلقائيّة تحكمها طبيعة الموضوع النامي من جهة، والشروط التي تفرضها هذه الطبيعة على عملية النمو من جهة ثانية، والنمو بهذا المعنى ينطبق على المخلوقات الحية دون غيرها، أمّا الفعل نمَّى، ينمِّي تنمية وإنماءً فهو متعدٍّ، والتعدية تتناول الموضوع النامي بفعل من خارجه. ما يعني أنّ التنمية هي عملية تدخل واعٍ وهادف في عملية النمو. ولكن هذا التدخل يبقى محكومًا بمعرفة طبيعة الموضوع النامي وبالشروط الذاتية لنموّه، أي السنن الحاكمة على هذه العملية، من جهة، وبالخضوع لهذه الشروط من جهة ثانية، ومن ثَمَّ العمل على تأمين مثل هذه الشروط بما يحقق القصد من التدخل أي تسريع عملية النمو، أو تبطيئها أو تغيير اتجاهاتها.
إذا كان النمو ينطبق على المخلوقات الحية دون غيرها، فإنّ التنمية تنطبق على المخلوقات الحية وعلى غيرها من الموضوعات القابلة لتدخل الإنسان في تنميتها.
مفهوم التنمية في الاصطلاح المعاصر
اتخذ مفهوم التنمية في الاستعمال المعاصر أهمية كبيرة وأصبح من الموضوعات التي تدور حولها الكثير من الأبحاث. ويعود الأمر، في ذلك، إلى انقسام العالم بين عالم “متقدم” وعالم “متخلف”. وغني عن البيان أنّ هذا الانقسام يعود بدوره إلى أنّ أممًا وشعوبًا أنجزت ثوراتها الصناعيّة المختلفة وأنجزت عمليات “تحديث” شاملة على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والإداريّة… بينما ما زالت شعوب وأمم كثيرة بعيدة عن تحقيق مثل هذه الإنجازات.
في ظل هذه الإنجازات أصبح الكلام على التنمية يعني الكلام على عمليات التدخل الواعي والهادف من قبل المعنيين بالأمر لتسريع عمليات النمو في ما يعرف بالبلدان المتخلفة بحيث تنجز عملية التحديث التي أنجزتها البلدان المتقدمة، وحول عمليات التدخل هذه تتمحور أبحاث مختلف العلماء، والسياسيين والاقتصاديين وتتخذ هذه الأبحاث اتجاهات مختلفة ومتباينة تبعًا لاختلاف مواقع الباحثين ورؤاهم واهتماماتهم. وعلى كثرة الاختلاف والتباين في التفاصيل فإنّه يمكن تصنيف هذه الاتجاهات في تيارين عريضين:
الأول هو الذي يأخذ منظروه بالرؤية الرأسمالية القائمة على المنافسة الحرة بين شركات الانتاج والتسويق والتمويل، لا في داخل اجتماع سياسي بعينه فحسب، وإنّما على مستوى العالم أيضًا، لا سيّما بعد ثورة المواصلات والاتصالات التي حوّلت العالم، كما يقولون، إلى قرية صغيرة، وحيث بات من الضروري ترك الحرية لتدفق المعلومات ورؤوس الأموال، واليد العاملة والخبرات الفنية من وإلى أي بلد في العالم دون أيّة قيود أو شروط تفرضها هذه الدولة أو تلك، وترك أمر تنظيم المنافسة للسوق حيث يتكفل قانون العرض والطلب بإدارة نتائج التنافس وتحديد أسعار السلع بما فيها “سلعة العمل” أي الأجور، من دون أي تدخل من قبل الدولة في هذا الشأن.
في ما يعود لمسألة التنمية في بلدان العالم المتخلف يطرح أنصار هذا الاتجاه نظرية “التكيف” التي تقوم على انخراط البلدان المتخلفة في الاتجاهات السائدة على صعيد عالمي، ومحاولة الاستفادة منها لإنجاز عملية التنمية أو التحديث، ويبررون ذلك بالقول إن التدفق الحر للرأسمال العالمي، لا سيّما رأس المال في العالم المتقدم وتوظيفه في استثمارات مختلفة في بلدان العالم المتخلف يؤدي إلى نوع من التحديث: تحديث اليد العاملة الرخيصة في هذه البلدان، وتحديث التنظيم والإدارة في تلك الاستثمارات، وإشاعة هذا التحديث في الاستثمارات والمؤسسات المحلية لتكون قادرة على الدخول في المنافسة… هذا بالإضافة إلى التخفيف من حدة البطالة وزيادة الدخل الوطني أو القومي وارتفاع مستوى المعيشة.
تبعًا لهذا الاتجاه، يكون على دول العالم الثالث أن تحدِّث قوانينها وتدابيرها الاقتصاديّة والسياسيّة بحيث لا تكتفي بتسهيل حركة رؤوس الأموال والاستثمارات بل تعمل على تشجيعها من خلال السياسات الضريبيّة وسياسات الخصخصة وتدابير أخرى.
وبعكس ما يمكن أن يكون متوقعًا، فإنّ الرؤية الماركسية، التقليديّة على الأقلّ تدخل في هذا التيار. هذه الرؤية التي يختصرها البيان الشيوعي المنشور عام 1848م. تقول بأنّ الرأسمالية، بامتداداتها الكولونيالية تقضي على التخلف في البلدان التي تحتلها وتستتبعها لأنّها تنشئ فيها أنظمة اقتصادية، وسياسيّة، وثقافيّة رأسمالية فتجعلها بذلك تتجاوز أنظمتها وبناها المتخلفة… وسوف تستمر هذه النظرة الماركسية حتى قيام حركات التحرر الوطني في مواجهة المحاور الكولونيالية.
مهما يكن من أمر، فإنّ أنصار هذا التيار يرون أنّ عملية “التكيف” التي ينبغي أن تقوم بها البلدان المتخلفة تفضي إلى “تبعية” متبادلة بين المركز (بلدان العالم المتقدم) والأطراف (بلدان العالم المتخلف). وهذه التبعية المتبادلة تفضي إلى تكامل وثيق بين الاقتصاديات العالمية، كما تفضي شيئًا فشيئًا إلى تخفيف الفروق بين المركز والأطراف بصورة مطردة بحيث ينتهي الأمر إلى إزالتها ولو على مدى زمني طويل.
التيار الثاني:
تقوم رؤية التيار الثاني على فكرة أو نظرية “فك الارتباط” بين “المركز والأطراف”. وفك الارتباط يعني إعطاء الأولوية، من قبل “الأطراف” لمقتضيات تنمية وطنية شاملة: اقتصادية، واجتماعية وثقافيّة، وإخضاع العلاقات الخارجية لمقتضيات هذه الخطة.
في تسويغ هذه الرؤية يثير أنصار هذا الاتجاه ما عانته، وما زالت تعانيه بلدان الأطراف من جراء التوسع الرأسمالي في مراحل الكولونالية (الاستعمار المباشر) والامبرياليّة (الاستعمار المقنَّع) والعولمة… ويفضحون خدعة الأرقام في ما يسمّى زيادة الدخل الوطني العام، وزيادة الدخل الفردي… وكل النتائج التي يرتبها أنصار الاتجاه الأول على ما سمّوه “التكيف” و”التبعية المتبادلة”. ويفضحون كذلك خدعة “التبعية المتبادلة” ويظهرون أنّها تبعية “الأطراف” لـ “المركز” وليست أيّ شيء آخر، لأنّ عدم التكافؤ يجعل عملية “التبعية المتبادلة” مستحيلة، ويحولها إلى عملية تبعية يمارس فيها المتبوع على التابع أقسى أنواع السيطرة الفظة، وإن اجتهد لتقنيعها بالاتفاقات والمعاهدات التي يفرضها، ومن هذا المنظور الواقعي تصبح استراتيجيّة “التكيف” و”التبعية المتبادلة” نوعًا من التلطيف اللفظي لتلك “التبعية” الفظة.
إلى ذلك فإنّ دول “المركز” إذ تطلب من دول “الأطراف” فتح حدودها أمام السلع ورؤوس الأموال واليد العاملة والمعلومات والأفكار، فإنّها لا تمارس مثل هذه السياسات على نفسها، وتعمل بعكس ما تنصح به، فهي إذ تغلق حدودها أمام السلع ورؤوس الأموال واليد العاملة إلا بشروط تضعها وتنفذها بحزم، فإنّها تضغط بكل ما تملك من وسائل الإكراه لتسهيل حركة السلع ورؤوس الأموال الخاصة بها. ولذلك فإنّ الأوساط الرأسمالية العملاقة ومعها دولها إضافة إلى مؤسسات مالية دولية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي) تعارض اتجاه فك الارتباط بالمعنى المشار إليه، ويضغطون مجتمعين على دول الأطراف التي تأخذ جديًا بهذا الاتجاه للتخلي عن سياساتها، وما يمارس على إيران وفنزويلا والبلدان المشابهة خير دليل ومصداق.
قبل أن ننهي الكلام تجدر الإشارة إلى ملاحظتين:
الأولى: مفادها أنّ الماركسيين، في هذه المرحلة، ينقسمون إلى من يأخذ بالاتجاه الأول وذلك في عملية تكيف مع الأوضاع المستجدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن يأخذ بالاتجاه الثاني ولكن يشترطون أن تتم عملية فك الارتباط بقيادة الطبقة العاملة لتحالف قوى وطنية.
الثانية: مفادها اتفاق الاتجاهين أو التيارين اللذين تحدثنا عنهما على اعتبار معيار التقدم والتخلف، وبالتالي معيار التنمية هو التقدم في الإنتاج، مقيسًا بمعدل دخل الفرد ومستوى استهلاكه للسلع المنتجة وذلك بصورة مجردة عن الواقع الملموس. إذ يقيسون دخل الفرد بتقسيم الدخل الوطني على عدد المواطنين، وكذلك استهلاك السلع دونما نظر إلى التفاوت بين الفئات الاجتماعية المتخلفة في نصيب كلّ منها من هذا الدخل.
صحيح أنّ انصار الاتجاه الثاني يتحدثون عن تنمية شاملة ولكن المعيار الأساس لقياس هذه التنمية يبقى ما أشرنا إليه بوصفه الحصيلة الملموسة والقابلة للقياس لكل جوانب التنية الأخرى: العلمية والتكنولوجية والتعلمية، والتنظيمية والسياسية والإنتاجية… إلخ.
* * * * * *
هل يمكن بلورة اتجاه إسلامي للتنمية؟
لم يرد مثل هذا اللفظ لا في القرآن ولا في السنّة الشريفة. ولكن بالعودة إليهما نلاحظ ما يلي:
– التركيز على ما يمكن أن نسميه تنمية الإنسان عبر تربية إيمانية وسلوكية باتجاه إيصاله إلى الاستجابة، عن قناعة ذاتية، لما أمر الله به، والانتهاء عمّا نهى عنه، ومساعدته على الترقي في هذا الاتجاه وصولًا إلى التقوى، بحيث يحكّم هذه الأوامر والنواهي في كلّ سلوكاته تجاه نفسه وأسرته، ومحيطه الاجتماعي والطبيعي بدافع البحث عن رضا الله وتجنب سخطه وغضبه.
– نظرًا لتعدد مفردات هذه السلوكات العبادية، والأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية والتنظيمية، يمكن وصف هذه التنمية بأنّها تنمية شاملة مدخلها وأداتها التربية الشاملة للإنسان بما هو فرد وتزكيته بالمعنى المشار إليه. “لا يغيّر الله ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم” هي السنة الحاكمة على التغيير في كل مجالاته واتجاهاته الإيجابية ومنها التنمية على مختلف الصعد الفردية والاجتماعية وفي كل مجالاتها.
– إذا كانت مفردات ومجالات هذه التنمية متنوعة جدًا، فإنّها تتفاعل وتتداخل وتتوحّد في شخصية الفرد فلا يمكن تجزيئها على المستوى العملي بنفس الصورة التي يتمّ بها تصنيفها على المستوى المفهومي أو النظري.
– على الرغم من اهتمام الإسلام بتحقيق الوفرة والاكتفاء وتحقيق الازدهار والتقدم للفرد وللمجتمع، فإنّه لا يرى في هذه الوفرة المعيار الأساس لقياس التقدم والتخلف وبالتالي التنمية. إنّه يعطي لمفردات التقدم الأخرى الدينية والأخلاقيّة والتنظيميّة والاجتماعية والسياسيّة دورها إلى جانب الوفرة الاقتصاديّة أو الاكتفاء الاقتصادي على الأقل. ولكنه يبقى المعيار المهيمن أو الرئيس هو مدى وجود التقوى بالمعنى المشار إليه، لدى الأفراد ولدى المجتمع بفئاته ومؤسساته وسلطاته… ويعتبر أنّ تحقق هذا المعيار يشكل الشرط الضروري والمقدمة التي لا غنى عنها لأحداث التنمية والتقدم في جميع المجالات وفي المفردات الخاصة بكل مجال. وهذا ما يجعل أي تنمية أو تقدم وفي أي مجال أو مفردة، من دون الاستناد إلى هذا المعيار، عرضة لمخاطر التراجع والارتكاس إن عاجلًا وإن آجلًا.
– في ما يعود إلى العلاقات بين الاجتماعات السياسية المختلفة: الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، فإنّ الإسلام يخضعها لمبدأ، أو سنّة التعارف (مشروعيّة تبادل السلع والمعلومات والأفكار ورؤوس الأموال واليد العاملة) ولكن ضمن حدود التكافؤ وعدم طغيان طرف على آخر، وإكراهه بالقوة أو بأي وسائل أخرى على القبول بما لا يريد القبول به. بما يعني أنّ الحق والعدل ينبغي أن يبقيا مهيمنين وحاكمين على عملية التعارف. وفي سبيل تحقيق هاتين القيمتين تكون عمليات الدفع أحيانًا ضرورية لرفع ظلم الظالم، ولكن بمعايير القيمتين وليس بالخروج عليهما: وفقه المعاملات الاقتصادية داخل الاجتماع السياسي الواحد، وفقه العلاقات الاقتصادية والسياسية فصّل في هذه المواضيع. ولكن في ظروف سابقة على ظروف الهيمنة الرأسمالية. ما يستدعي استكمال وتطوير هذه الأبحاث لا للتكيّف مع متطلبات هذا التطور، وإنّما للتعاطي معه من موقع إسلامي.
– لما كانت التنمية، في ما أشرنا إليه، تدخل خارجي، واعٍ وهادف في عملية نمو، ولما كان هذا التدخل مشروطًا بالخضوع للسنن الحاكمة على موضوع النمو، ولما كان النمو في بلدان الأطراف محكومًا بالوضع الواقعي لهذه البلدان وبالخصوصيات الملازمة لهذا الوضع، فإنّ أيّ تنمية تفرض من الخارج ولأهداف خارجية (التنمية الحاصلة بفعل الهيمنة الكولونيالية، أو الإمبريالية أو العولمية) لا تفضي إلى تنمية فعلية لبلد الأطراف بل إلى تنمية بلد المركز، وتشوّه النموّ الطبيعي لبلد الأطراف.
– من الواضح أنّ الاتجاه الإسلامي للتنمية، في ما يمكن استنتاجه من سنّة التعارف وسائر الرؤى الإسلامية يتفق جزئيًا مع الاتجاه القائل برفض “التكيف” و”التبعية المتبادلة” لصالح القول بفك الارتباط ووضع استراتيجية وطنية شاملة، وإخضاع العلاقات الخارجية لمقتضيات هذه الاستراتيجيّة، ولكنه يختلف معها من حيث نظرته العامة للتنمية ولمداخلها ولمعاييرها التي أسلفنا الكلام عليها.
– من هذه الزاوية يبدو أنّ دراسة التجربة التنموية في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة هامة في هذا المجال لأنّها قامت على أساس فك الارتباط مع محاور المركز، باتّجاه إقامة علاقات متكافئة وليس باتجاه العزلة، وانتهاج استراتيجية نهوض وطنية شاملة ومستقلة، وأخضعت سياساتها الخارجية لمقتضيات هذه الاستراتيجية، والتزمت في كل ذلك بالموازين الإسلاميّة، ما يجعل من هذه التجربة مصداقًا عمليًا لرؤية إسلامية للنهوض أو التنمية، وفي الوقت نفسه مصدرًا واقعيًا لتأصيل هذه الرؤية، وبلورة اتجاه إسلامي للنهوض في ظروف العالم المعاصر الشديدة التعقيد.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/8410/%d9%86%d8%ad%d9%88-%d8%a8%d9%84%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d8%aa%d8%ac%d8%a7%d9%87-%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a-%d9%84%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.