الحمد وابتداع الخلق: الدرس السادس
تابع سماحة الشيخ شفيق جرادي سلسلة الدروس المتعلقة بالحمد وابتداع الخلق، حيث أكمل شرحه في الدرس السادس من هذه السلسلة للدعاء الأول من الصحيفة السجادية والذي يتمحور حول تحميد الله عز وجل.
وقد استكمل سماحته في الدرس السادس الحديث حول مسألة حب العبد لربه، وحب الباري عز وجل لعبده.
وفي خلاصة هذا الدرس نذكر النقاط التالية:
- من الأمور التي تحقق مصداقًا لهذا الحب، وحقيقة لهذا الحب هو أن يخلوا القلب من غير الله عز وجل. أي بمقدار ما تخلو قلوبنا وتفرغ عن غير الله، وعن الارتباط بغير الله عز وجل، بمقدار ما تتأكد الصلة بيننا وبين الباري سبحانه وتعالى، إلى درجة أنه في بعض الروايات: أن الله لا يحب أن يرى في قلب عبده شريك له، أو أنه مرتبط بشيء غير الباري عز وجل، بحيث إن الله تعالى يريد أن يصطفي عباده لنفسه، وأن يكونوا خالصين له سبحانه وتعالى، وهذا لا يعني أن لا يحبوا أحدًا، لكن مرة يكون حب الغير بعيدًا عن مسألة الارتباط بالباري سبحانه وتعالى، ومرة يكون حب الغير حبًّا لله. أحبُّ الناس حبًّا لله، أحبّ هذا الوجود حبًّا لله، وهناك فارق واضح بين الأمرين.
إذًا، الأصل في هذا الرباط الذي ينبغي أن يكون بين الإنسان وبين الله عز وجل هو أن يكون القلب بالكامل بين يدي الله، وأن يكون القلب بالكامل لله سبحانه وتعالى.
- هذا الهدف كيف يتحقق؟ وهل هو قابل لأن يتحقق؟ هل أستطيع أن أعيش في هذه الحياة من دون أن يكون عندي أي رباط مع أي شيء مما يحيط بي؟ ليس المقصود هنا بأن لا يكون لنا أي علاقة مع المحيط بنا، ليس هذا المقصود، لكن المقصود أن لا تشغلك نفسك عن أن ترتبط بربك، عن أن تحب الباري سبحانه وتعالى. هذا هدف عظيم والناس فيه على مستويات متعددة ومتفاوتة.
- وهذا الأصل ممكن، لكن كيف؟ هنا لدينا جهتين: جهة الإنسان بما هو عبد لله، وجهة الله سبحانه وتعالى. هناك أمر مطلوب من الإنسان نفسه. أصل حب الباري ينبغي لي ولك أن نزرعه في أنفسنا. هذا الحب أصلًا موجود بعقولنا بذواتنا وأرواحنا، وأصلًا يجب أن يكون موجودًا. منك أنت كإنسان مطلوب شيء أساسي، هو تأكيد هذا الحب لله عز وجل.
- في البدايات لا بد للإنسان أن يجاهد نفسه لتحصيل مثل هذا الحب، وبالمناسبة الحب خصلة أخلاقية مثل أي خصلة أخلاقية أخرى، ولها سبل كثير، فكل أمر عبادي أخلص فيه للباري عز وجل ينشيء زيادة في حب الله سبحانه وتعالى.
- كل شيء يحيط بك وليّن قلبك فهذا يساعد كثيرًا في ترسيخ حب الله في النفوس. ولترسيخ هذا الحب وليأخذ مداه بشكل واسع نحن بحاجة إلى تدخل من الله ولطف منه عز وجل.
- كل أمر يبدأ بك وبأن تسعى إليه، لكن يجب أن تضع في بالك أن الموفقية من الله سبحانه وتعالى.
- من الأمور التي يجب أن ندعو بها: “أن يقطع بيننا وبين الأسباب، وأن يخرج من نفوسنا الأغيار…”.
بهذا الصدد، من الأمور التي وردت في بعض الروايات والأدعية منها على سبيل المثال، قولنا لله عز وجل: “أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك.. حتى لم يحبّوا سواك…”.
- وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، وهي من الروايات التي يُتوقف عندها، وإذا أمكن تسجيلها وحفظها لأهميتها. يقول عليه السلام: “حب الله إذا اضاء على سر عبد أخلاه من كل شاغل وكل ذكر سوى الله، والمحب أخلص الناس سراً لله، وأصدقهم قولاً وأوفاهم عهداً، وأزكاهم عملاً وأصفاهم ذكراً وأعبدهم نفساً، تتباهى الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته وبه يعمر الله بلاده وبكرامته يكرم الله عباده ويعطيهم إذا سألوه بحقه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، ولو علم الخلق ما محله عند الله ومنزلته لديه ما تقربوا إلى الله إلا بتراب قدميه”.
- حب الله إذا أضاء على سر عبد. هنا نأخذ فقط زاوية صغيرة لنتكلم عن شيء حساس جدذًا فيما يتم الحديث حوله بموضوع السير والسلوك .
في السير والسلوك يقولون: لدينا ثلاث خطوات ومراحل أساسية:
المرحلة الأولى: يسمونها التخلية؛ أي إذا كان في قلبك أية ضغائن ومشاكل وأزمات ومعاصي وغيرها نخلهم ونظف قلبك، بحيث أن لا يبقى في قلبك هذه المعصية، أو هذا الأمر الذي يبعدك عن الباري عز وجل.
المرحلة الثانية: التحلية: وهي أن يبحث عن كل فضيلة موجودة في هذا الدين وذكرها هذا الدين بالأخلاقيات والأمور الحساسة، وأن تتحلى بها. والذي يريد أن يتعرف بماذا يتحلى عليه أن يذهب ويقرأ دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين عليه السلام، وموحود في الصحيفة السجادية.
- هذا القلب عندما يصبح به هذه التحلية؛ أي يتحلى بمكارم الأخلاق، فما يفعله القلب وصاحبه هو أنهم يسلمون أمورهم لله. هم لا يعودوا يتدخلون، وأن حدودهم إلى هنا، وما استطيع ان أعمله عملته، بعد ذلك يصبح عمل الله.
المرحلة الثالثة: التجلية: أي أن القلب يصبح نظيفًا طاهرًا نقيًّا، قابلًا لفيض النور من الله سبحانه وتعالى. هذا هو التجلي، أنار سر عبده، أضاء على سر عبده. هذا النور إذا تغلغل إلى الداخل يحرق ما تبقى من معاصي وما تبقى من ارتباطات.
- أخلاه عن كل شاغل؛ أي صار سر هذا العبد خالص تمامًا لله عز وجل، وصار بيد الله، صار موردًا للفيض الإلهي على الخلائق.
- والمحب أخلص الناس سرَّا: هو أكثر الناس لديهم إخلاص وخلوص كامل.. في سرهم خالصين للباري، وليس فقط في أعمالهم، حتى داخلهم هو خالص لله عز وجل.
- وأصدقهم قولًا: فورًا يظهر على لسانه وبيانه وعلى كلامه وعلى مراده، بحيث إن ما يقوله ينسجم مع ما يظهره.
- وأوفاهم عهدًا، إذا قال لك شيئًا واتفق معك على شيء فهذا يثبت، وأكثر العهود التي ينبغي أن يثبت عليها هو عهده مع الباري عز وجل. ألست بربكم؟ قالوا بلى.
- وأزكاهم علمًا: العلم هنا العلم المزكّى…، هناك تقسيمات للعلوم، لكن العلم بالقياس القرآني علمين: إما علم لمجرد العلم، أو علم مزكّى؛ أي العلم الذي نتج عن إيمان ويتزايد بالإيمان، ولا ينطق إلا على سبيل الهدى.
- هؤلاء المخلصين والمحبين لله هم أزكى الناس علمًا وأصفاهم عهدًا وأعبدهم نفسًا..
- أعبدهم نفسًا، فمن هو العبد؟ العبد هو أن لا يملك لنفسه شيئًا.. سلم أموره كلها لمولاه.
- من هو العبد العبد؟ هو أعبدهم نفسًا سلّم أمره ونفسه للباري سبحانه وتعالى، نفسه بالكامل صارت عند الله. هذا بالصفات..
- لكن ما هو موقع المحبين وما هي كرامتهم على مستوى الوجود؟ تقول الرواية: تتباهى به الملائكة عند مناجاته… إذا جلس هذا العبد وناجى ربه تكون كل الملائكة تنظر له، ليس هذا وحسب، بل تتباهى أنها تراه، وتتباهى أنها تسمعه.
وتفتخر برؤيته؛ هذا موقعه في الموجود.
- ما هي الميزات التي أعطاه إياها الباري عز وجل؟ فلنحاول أن نراها بمقياس الإمام الحجة ومن مع الإمام الحجة في غيبته (عج) سواء الأبدال أو الخلّان أو الأوتاد وغيرهم. يقول عليه السلام: وبه يعمر الله بلاده وبكرامته يكرّم الله عباده؛ أي إذا كان في هذه الأرض عمران فبكرامة هؤلاء الخلص.. وبكرامته، يكرّم الله عباده.. أنه إذا الله عز وجل لا زال سامحًا بكرامة معينة لأهل الأرض فبكرامة هذا الولي الخالص في حبه لله سبحانه وتعالى..
- يعطيهم إذا سألوه بحقه ويدفع عنهم البلاء برحمته. بعد هذه الإحالة للعبد المحب. عندما يصبح فيض أنوار الهداية على قلب هذا العبد يصبح مورد من موارد فيض الله. واحدة من موارد رحمة فيض الله هذا العبد المؤمن برحمته، ولأن الله يرحمه يرحم الآخرين..
- فلو علم الخلق، ما محله عند الله ومنزلته لديه ما تقرّبوا إلى الله إلا بتراب قدميه… لذلك نصلي ونصوم ونتوسل إلى الله بصلاتنا وبصيامنا، لكن لا أحد يعتب علينا عندما نقول إلا أننا نتوسل إلى الله بتراب أقدام محمد وآل محمد (ص)، وبتراب مقدم الإمام الحجة عج.. هم محل صلتنا بالباري سبحانه وتعالى.
- إذًا، هذه المحبة هي رزق من الله ولها مستوى من الكرامات.
- نختم في قول الإمام السجّاد عليه السلام في مناجاة العارفين: “…وَما اَطْيَبَ طَعْمَ حُبِّكَ، وَما اَعْذَبَ شِرْبَ قُرْبِكَ…”.