إيران الاقتدار… ونهج العرفان الصوفي
داخل مدينة نائية من مدن إيران، وفي مجالس علم وزهد وعرفان صوفي تقوائي، نما وترعرع شابٌ على مدارج التكامل العلمي في دراساته الدينية، والتي جمع فيها دراسة العلوم الشرعية كالفقه والقانون الإسلامي، والعلوم العقلية من علم كلام وفلسفة، والعلوم الروحية التي تتمثّل بالعرفان الصوفي. وهذا العلم الأخير يذهب بعيداً في دراسة الطرق التي يجاهد فيها المرء نفسه ليهذّبها، ويفتح منها سبل العلاقة المعنوية مع الله سبحانه وتعالى، وهي المسمّاة عند أهل هذا الفن بالسير والسلوك. وجرت العادة في الحوزات العلمية عند الشيعة أن تقترن هذه المجاهدة العملية والسلوكية بدراسات معمّقة لمباحث غاية في التجريد والتعقيد، يُطلق عليها اسم «العرفان النظري»، الذي يتناول الرؤية الإيمانية للوجود، وكيف أن الوجود على كثرة الموجودات هو واحد في أصل حقيقته، كما يدرس أن ذات الحق هو الله الواحد الأحد الذي تجلّت أسماؤه وصفاته على الأكوان والعالم، ثم يدرس ماهية النفس الإنسانية باعتبارها أعظم تجلٍّ لله في خلقه، وما هي الفلسفة الباحثة في الذات الإنسانية بكمالاتها ومخزونها من الخير، ليرسم بعد ذلك رؤية تأسيسية لمسار الإنسان في الحياة الممتدة مما قبل الدنيا، إلى الدنيا وما بعدها. ويغلب على تحصيل هذا النحو من العلوم الدينية طابع التفرّغ الكامل، وبذل تمام الجهد فيه، مما يحجب بينه وبين التعرّف إلى نتاجات ثقافية وفكرية وعلمية خارج دائرة الدراسات الإسلامية، فضلاً عن دراسته للبحوث والقضايا السياسية والاستراتيجية.
إلا أن هذا الشاب، ورغم الجهد الذي بذله في تزكية النفس، ونيل الدرجات العلمية العليا التي وصل معها إلى نيل درجة الاجتهاد الفقهي والاجتهاد الفلسفي والعرفاني، ورغم القيود الجغرافية المقطوعة الصلة بكثير من امتدادات هذا العالم، انطلق بجهد شخصي، وبسبب رؤية اجتهادية دينية تكوّنت عنده، تفيد بأن الإسلام في فقهه التشريعي لم يأت ليقتصر على متعلّقات العبادة الفردية فقط، كالطهارة، والصلاة، والصوم وغيرها… بل إنه تشريع ربّاني يلحظ في أحكامه وتدبيراته وقوانينه شؤون المجتمع والسياسة ومقتضيات عمارة البلاد وصلاح العباد. وعليه، فلا يصحّ أن يقتصر الفقيه في دوره على تناقل ما طوته الكتب الدراسية من موضوعات فردية محدّدة، بل إن الحياة بكل تعقيداتها هي ساحة تستدعي الفقيه لفهم مواضيعها، والبحث في الشريعة بما يناسب تلك المواضيع من أحكام وتقنيات، إذ القاعدة الشرعية تنصّ على أنه «ما من واقعة إلا ولله فيها حكم». وهكذا تولّدت عند المجتهد الشاب نظرية الولاية الفقهية الموسّعة للفقيه، كما تولّدت نظرية فقه الزمان والمكان، التي تراعي مقتضيات التغيرات التي تطرأ بفعل تطور الزمان وتغير الجغرافيا.
وبنفس الروح التجديدية النابعة من نفس الرسالة الإسلامية ومنبعها الوحياني، نفض عن نفسه الركون إلى تلك السكونية الصوفية، وفهم أن الأمور إنما تؤخذ بغاياتها، وإلا تحوّلت إلى أصنام وشرنقات خانقة. فليس الهدف من تربية الذات إلا التخلّق بأخلاق الله، ومن أخلاقه «أن القوة لله جميعاً»، كما «أن العزة لله جميعاً». وعليه، فليس بعابد ولا زاهد من لا يتحدّى شياطين القوة في هذا العالم مِمَّن يريدون إذلال الخلائق، وإن الأمر حتى يتمّ يجب أن يثق الإنسان بربه وبنفسه ودينه. كما اعتبر أن الزهد ليس موقفاً سلبياً من الدنيا وثمارها ولذائذها، فهي أرض الله وخيراته. لكن الزهد أن لا يملك الإنسانَ شيءٌ أبداً. وهنا الاستقلالية التامة في بناء الذات. ثم اعتبر أن خدمة الله إنما تتجلى في خدمة الناس؛ إذ خدمة عباد الله والجهاد لتحقيق مصالحهم واستعادة حقوقهم أفضل الطاعات والعبادات، لذا أعلن هذا الشاب حركة من العرفان الصوفي تبدأ بالعلم والتعلّم، إلا أنها تستكمل ذاتها بتحقيق الغايات، وهي: التوحيد العملي، ونقل الناس من ظلمات الجهل والتبعية والذل إلى نور ربهم بالهداية واستعادة الثقة بالاقتدار على فعل المستحيل. وهكذا تحوّلت حياته من شاب اسمه «روح الله الموسوي الخميني»، إلى نهج فقهي – عرفاني اسمه «الثورة الإسلامية»، أو بتعبير آخر «نهج الإمام»، الذي طاب له ـــ رضوان الله عليه ـــ أن يسمّيه «الإسلام المحمدي الأصيل»، ويطيب لي أن أسمّيه «نهج الاقتدار».
منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة الإسلامية في إيران، ومنذ اليوم الأول لقيام الجمهورية الإسلامية فيها، برزت سمة نظام القيم الإسلامية في هذه الثورة، كما الدولة. وبدأت السطور الأولى فيها تُكتب على منوال إمامها ومرشدها وباعث الروح فيها. فهي إن كانت كما قيل دوماً ويقال دولة الولي الفقيه، إلا أن ولاية الفقيه تعني في معجم اصطلاحات الثورة الإسلامية أموراً، منها: الأمر الأول أن الولاية هي نفوذ السلطة في الحياة العامة، وكونها ولاية الفقيه فإن الفقيه هو ذاك الخبير في القانون، والعالِم بالفقه، وكلاهما (الفقه والقانون) ينبعان من حكم الله وإرادته. فولاية الفقيه هي ولاية الفقه حكماً. أما دور المجتهد الفقيه فهو المـُستأمَن على تبيان حكم الله وتدبير تنفيذه بما يتوافق مع احتياجات الناس وأعرافهم ومصالحهم. وأول الملزَمين بتنفيذ حكم الولي الفقيه إنما هو الولي الفقيه نفسه. وما التدبيرات المتاحة له إلا لطبع الفقه في مجاري تنفيذه بطابع إنساني، يُخفّف حدة القانون وصلابته، رغم استبطانه في كل إجراء وقضية. إن ولاية الفقيه تعني أنسنة التطبيقات الفقهية في الحياة العامة. وعليه، فصحيح أن إيران إسلامية، إلا أن تدبير الولي قضى كونها وفق النظام الجمهوري، وتجربتها في الحكم تقوم على قاعدة: سيادة الشعب الدينية، أو السيادة الشعبية الإسلامية.
الأمر الثاني: أن كل تصوف لا يبعث في الحياة روح الهداية والاقتدار، هو بمثابة عبادة صنم الهوى. التصوف الذي لا يحيي سكونية المذاهب والطوائف بالرحمة والتواصل والعزة هو شراك إبليس. التصوف الذي يركن للأوراق الصفراء وفكّ المصطلحات حُجُب بين المتعلم وبين معرفة حقائق الحياة، وكما قال الإمام (قده): «لا الفتوحات المكية فتحت عليَّ، ولا فصوص الحكم علّمني حكمة واحدة». والكتابان (الفتوحات المكية وفصوص الحكم) هما لرأس التصوف العرفاني محيي الدين بن عربي. والإمام، رغم كونه الأستاذ الأبرز فيهما، يعتبر أن من لا يثور بالروح العرفاني على صفحات الكتب لن يستثير معاني وأسرار حقائق تلك الكتب نفسها. إن العرفان الصوفي عند إمام الثورة وفي تعاليمها قاعدة انطلاق روحي لتثوير كل سكونية، بما فيها الشعائر الحسينية وأساليب ممارستها، وبما فيها المسجد، والحوزة، والجامعة، والعمل والإدارة والسلطة. إن كل تصوف لا يحمل القلم والسلاح، ولا ينهض بمهمة تحرير الإنسان والأوطان، ومجابهة الظلم ومقارعة الظالمين، هو بدعة رهبانية.
وهكذا انتقل بحث التصوف العرفاني على يدي الإمام (قده) وفي تجربة الثورة إلى مرحلة جديدة، يمكننا رسم بعض من معالمها، ومنها:
أ. التماهي بين الأبعاد النظرية والعملية في حركة العرفان الصوفي، ورفض الفصل بين هذين البعدين إلا في التقسيمات الفنية والتعليمية فقط. وبذلك يضفي هذا المنهج الجديد طابع العقلانية النظرية على روحانية التجربة السلوكية للعارف، كما تضفي الروحية العملية طابع المعنوية في المقولات النظرية للعرفان الفلسفي.
ب. توظيف نظام القيم العرفاني في بناء الشخصية الإيمانية، والعمل على تسييلها في الامتدادات المجتمعية والسياسية كافة، سواءً داخل المسجد أو في الإدارات، أو في السلطات السياسية، أو المؤسسات التعليمية كالحوزة والجامعة والمدرسة وغيرها… كما وتسييلها في بناء الروح القتالية للقوى المسلّحة من جيش وشرطة وحرس ثوري وقوات التعبئة الشعبية. ومن الملفت في نظام القيم هذا أنه واءم أيضاً بين بُعدَي العقلانية والروحية المتأتيين من روح العرفان الصوفي الذي بناه الإمام (قده) بنهج خاص، رفض أن يبقى في دائرة الفردية في الاهتمام العرفاني والصوفي، ووسّع مداه في ما يمكن تسميته بالعرفان الاجتماعي – السياسي، مما جعل لهذا النهج الموسَّع في العرفان شعبية واسعة في أوساط أهل التدين والالتزام الديني. كما أنه أتاح التخفيف كثيراً من غلواء التصوف التقليدي.
ج. إدخال نظام الفهم والمعرفة العرفانية إلى ثقافة الإسلام الثوري والحركي، ما أتاح بناء ما يشبه العقيدة الرسالية المقاومة لدى هذه الحركات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم «نهج الاقتدار» النابع من الروح المعنوية العاقلة المقاتلة.