الصوم والإصلاح
نحن اليوم على أعتاب شهر رمضان المبارك، والمسلمون مجمعون على اعتباره شهر الله، وربيع القرآن، والأهم أنه شهر التقوى. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾1.
صحيح أن هذا الشهر فُرض فيه الصوم بالامتناع عن كل ما يمتّ إلى الحياة الدنيا من زُخرف ومُتعة شهوة الطعام والشراب والحياة الجنسية، حتى المشروعة منها، إلّا أن الأصح أيضاً أن رواية النبي حول الصوم، تعتبر أن على المرء إذا صام، أن يصوم سمعه وبصره وحواسه وجوانحه كما جوارحه عن كل أذية. وكل ذلك ليحقق التقوى. هذه التقوى التي يعتبرها الأخلاقيون وعلماء المسلمين أنها (المـِنعة النفسية عن الانزلاق بالحرام)، شرط تحقّقها أن يستشعر المرء رقابة الله عليه.
إلا أنها، هي عينها – أي التقوى – فعلٌ يُمارس، ولو بشق تمرة؛ أي ببذل صَدقة، ولو بمقدار إطعام شق تمرة. فلِمن تُقدَّم تلك التمرة؟ من هم أهل الاستحقاق؟! المـُتخمون الذين يبيتون على انفجار فاحش من الأكل والشراب واللذائذ، بعد أول سماع لصوت المؤذن عند المغرب؟! أم لأولئك الذين لا يطمحون التوفر عند إفطارهم إلى ما يتجاوز ولو بعضًا يسيرًا من كفاف العيش؟!
أن تصوم، يعني أن تتحفّز لأمر له ما بعده. فَهِمْنَا أنّ مما بعده الدعاء طلباً لعتق الرقاب من النار، إلا أننا نسينا أن سبيل ذلك أن تُطعِمَ محتاجاً، أو تُدخلَ السرور إلى قلب أبٍ وأمٍّ لا حول لهم ولا قوة في الرزق، إلّا طلب الإغاثة من الله.
أن تأكل في النهار أو تشرب؛ يعني أنك قد أفطرت، هذا صحيح. لكن ماذا يعني أن تسرق بنفوذك الراحة من نفوس الفقراء، وأن تسلب لقمة عيشهم بفسادك؟ أليسَ هذا من المفطرات؟! بلى وحق تقوى الله سبحانه، وحق محمد، وحق شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس. حينما يجوع الفقير ويعرى لن يعترف بقرآن، ولا بليلة قدر، ولا…
إذن، أليسَ من هداية الناس أن تجاهد من أجلهم، وتجوع ليأكلوا، وتعطش ليشربوا؟ هكذا عبَّر القرآن الكريم عن مشهدية حدثٍ وقع مع أهل بيت النبوّة: علي وفاطمة والحسن والحسين، لثلاثة أيام ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾2. جاعت أسرة الهداية النبوية، لأن رقابة الله عليهم اقتضت أن يُطعموا طعامهم الذي أعدّوه لإفطارهم لصنوف من أهل الحاجة والفقر. أمّا نحن، فليس المطلوب سوى أن نشارك أهل الاحتياج ما نملك أو بعضاً مما نملك.
لا صوم من دون تقوى، ولا تقوى من دون إغاثة الملهوف، وسدِّ احتياجات المحتاج. هذا سبيل رسول الله محمد، وكل من سبقه من الأنبياء. والثمن كان ولو ببذل الروح والمهج، فأين صومنا؟! لا أقصد الدعوة لتشكيل لجنة أو جمعية خيرية، بل أريد القول: إن قيم الفكر الإسلامي القائمة على التقوى، لا تتحقّق إلا بالاندفاعة القصوى في رعاية الناس وخدمتهم، وأي ناس؟! إنهم حفاة الأرض، ساكنو البيوت المتداعية، والوجع المشحون باليأس أو ما يشبه اليأس.
لا صوم بدون إيثار وتضحية وبذل، ولا إسلام بدون صلاح وإصلاح. ألَمْ يستشهد الإمام الحسين بن علي وهو يقول: «إنما خرجت لطلب الإصلاح؟»؛ وهل الإصلاح سوى محاربة الظلم والفساد؟ من كان منا يريد الصوم دون أن يلتفت نحو الجهاد المقدّس في مواجهة الفساد والإفساد، بكل مستوياته، فليعلم أن صومه عين الإفطار العمدي الذي يحتاج إلى تدارك كبير.
اليوم، وكأنّي بأمير المؤمنين يخاطبنا: أقفلوا دكاكين زعاماتكم، ودهاليزكم الحزبية، وأفواهكم الشرهة الكاذبة… وافتحوا قلوبكم ومدخراتكم وأموالكم التي اكتنزتموها… أقفلوا كل مكركم وخبث سلاطينكم؛ فقد جاء شهر الله سبحانه؛ شهر الفقير في فقره، والضعيف في ضعفه… وتعالوا لنصوم؛ أي لنخدم عيال الله. ففي الحديث: «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله».
*المدير العام لمعهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
المراجع:
1- سورة البقرة، الآية 183
2- سورة الإنسان، الآية 8