أدب المقاتل في التراث الإسلاميّ الكلاسيكيّ

أدب المقاتل في التراث الإسلاميّ الكلاسيكيّ
يُشكِّلُ هذا النصّ مراجعة سريعة لدراسة غربيّة أعدّها الباحث الألماني سيبستيان غونتر (يرأسُ حاليًّا كرسي الدراسات الإسلاميّة في جامعة غوتنغن في ألمانيا) ونُشِرت في مجلّة الأدب العربيّ سنة 1994 في لَيدِن في هولندا.[1] كلّ الإحالات الواردة بين قوسين تعود إلى الصفحات الأصليّة كما تظهر في النسخة الإنكليزيّة.
تقع أهميّة هذه المقالة في أنّها تقدّم – بالأسماء والأرقام والتواريخ – معلومات وافية عن تطوّر نوع محدّد من الكتابة التاريخيّة، وتبيّن أنّ مجموعةً من المؤلّفين، جلّهم من الشيعة الإماميّة، كان له الفضل الأكبر في جمع الأخبار المتعلّقة بهذا النوع، ومن ثمَّ روايتِها ونقلها، وصولًا إلى تدوينها وترتيبها في مصنّفات مختّصة بأخبار المقاتل رأسًا.[2]
* * * * *
مدخل
يسعى الباحث في هذا العمل إلى تحديد مميّزات النوع الأدبيّ الذي يُمكن إطلاق تسمية «أدب المقاتل» عليه لتمييزه عن سائر الأنواع الكتابيّة في الأدب العربيّ، لا سيّما التاريخيّة منها، أو تلك التي تدخل في إطار التراجم والسِيَر (ككتب الفضائل والمناقب والمثالب وغيرها). كما يهدف إلى وضع تأطير تاريخيّ يبيّنُ تطوّر مادّة هذه الكتب وأنماط كتابتها وكيفيّة انتقالها إلى أنواع أخرى لاحقة عليها.
وينبّه غونتر قارئه سريعًا إلى أنّ ازدهار هذه الكتب التي تحكي سيرة شخصيّة بارزة بالنظر إلى خبر مقتله تحديدًا (غالبًا في صدام مع السلطان)، وما ارتبط به (معلومات أنسابيّة، مراثٍ شعريّة، ظروف تاريخيّة، نتائج وتبعات، علاقة المقتل بالصراع الفِرَقيّ، وغير ذلك الكثير)، ينبّه إلى أنّه كان بالدرجة الأولى نتيجة جهود مجموعة من المؤلّفين والمحدّثين الإماميّين  (صفحة 192).
يُرجِعُ الباحث زمنَ ظهور أوّل عمل كامل يُمكن الاطمئنان إلى تسميته بـ«المقتل» إلى النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ/الثامن الميلاديّ (صفحة 194). غير أنّه يلاحظ وجود مؤشّرات تعود إلى نهاية القرن الأوّل الهجريّ من شأنها أن تحملنا على الاعتقاد بأنّ الاهتمام بأخبار نكبة بعض الشخصيّات ومقتلها، خصوصًا تلك التي ارتبطت بالحركات العلويّة، يرجع إلى أواخر القرن الأوّل الهجريّ/السابع الميلادي. وتتأكّد أهميّة هذه الملاحظة بالنظر إلى مكانة هذه الأخبار في ما يسمّيه الكاتب «تشكّل الوعي الذاتيّ» للحركة الشيعيّة عمومًا، لا سيّما بعد واقعة كربلاء. على أنّ هذا لا يعني انعدام هذا الاهتمام في أوساط أخرى لم ترغب في أن يتمّ عدّها شيعيّةً خالصةً بالمعنى السياسيّ أو الفِرقيّ، ولكنّها لم تغادر أصلًا إسلاميًّا معمولًا به يتمثّل بمحبّة أسرة الرسول وذرّيّته والاكتراث لأحوالهم والتأثّر لما جرى عليهم (صفحة 195).
وفي هذا الإطار يُقسِّم غونتر المحاور التي يدور عليها النوع الأدبي الخاصّ بـ«المقتل» وفق ما يلي:
  1. مقاتل أفراد أسرة الرسول
    • مقتل الحسين – بوصفه الموضوع الأبرز في كتب المقاتل، لا سيّما عند الشيعة.
    • أعمال أخرى منها مقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومقتل الحسن بن عليّ بن أبي طالب.
  2. المقاتل الأخرى التي يمكن تقسيمها أيضًا إلى
    • أخبار المقاتل العامّة المتّصلة بـعصر ما قبل الإسلام أو فترة حياة النبي محمّد، كمقتل عدي بن زيد وعبد الله بن سهل.
    • كتب مقاتل عصر الخلفاء الراشدين ممّن لم يتّصل بالحركة العلويّة مباشرة، كمقتل الخليفة عمر بن الخطّاب، أو مقتل محمّد بن أبي بكر.
    • كتب مقاتل العصر الأمويّ، كمقتل حجر بن عدي.
مصادر كتب المقاتل
يقوم منهج غونتر في الأساس على تتبّع المصادر التي ذكرت أخبار مقاتل الشخصيّات الآنفة الذكر، والتركيز على أسانيدها ومقاطعة البيانات التي توفّرها مع معلومات أخرى يُمكن استقاؤها من كتب التراجم وكتب الرجال. ويسمح التحليل السنديّ – غير المعزول عن دراسة مضامين الأخبار – بتحديد الرواة الذين اهتمّوا برواية هذا النوع من الأخبار التاريخيّة، وتحديد الأماكن التي ازدهرت فيها عمليّة تناقل هذه المقاتل، وهو ما يُظهر تاليًا أطوار هذا النوع ومراحل اكتمال مادّته والمحطّات التي تنقّل بينها.
بدايةً، عن مكان ظهور هذه الأعمال، يبيّن غونتر أنّ أربعة أنواعٍ من المصادر الكلاسيكيّة اشتملت على هذا الضرب من الأخبار التاريخيّة، وهي:
  1. كلّ ما كُتِب أصلًا تحت عنوان «المقتل» كالكتب الآنفة الذكر، وما سواها من كتب الأخبارٍ الشيعيّةٍ الأخرى التي عُنيت بموضوعة المقتل. ويشير في هذا الصدد إلى كتاب أخبار فخّ وخبر يحيى بن عبد الله الذي وضعه أحمد بن سهل الرازي (المتوفى في الربع الأوّل من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي).[3]
  2. كتب التواريخ العامّة وكتب الأنساب ولا سيّما ما عُني منها بأنساب العلويّين (ككتاب أنساب الطالبيّين).
  3. كتب الرجال.
  4. وأخيرًا، وبدرجة أقلّ الأعمال الأدبيّة العامّة.
 
إشكاليّة أصالة المقاتل وتوثيقها
يلفت الكاتب إلى إنّ كتب المقاتل، شأنها في ذلك شأن كثير من أعمال التراث العربيّ، قد ضاع أغلبها، ولم يصل إلينا منها سوى القليل. وكما سلف القول، فإنّ أغلب هذه الكتب – بالصيغة التي وصلت إلينا، كاملةً أو مجتزأة، مستقلّة أو في ضميمة كتب أخرى – يعود إلى القرنين الثاني والثالث الهجريين. وبالتالي، فإنّه ثمّة مسافة زمنيّة تفصل بين وقوع «المقتل-الحدث» وبين تأليفه في كتاب يحمل عنوان هذا المقتل.
والمتابع لشؤون الدراسات الإسلاميّة، يُدرك بسرعة أنّ غرض الكاتب هنا الإشارة إلى الإشكاليّة التي لا تزال موضع دراسة بين الباحثين إلى هذا اليوم، والتي تتعلّق بموثوقيّة النقل الشفاهيّ للخبر بين الرواة والمحدّثين ووصوله أخيرًا إلى زمن التدوين الكتابيّ، وهو الشكل النهائيّ الذي نتعامل معه.
ولهذا الغرض، يميّز الباحث – في مقدّمة منهجيّة لا مجال لذكرها هنا (الصفحات 197-199) – بين أساليب تأليفيّة مختلفة يُمكن أن تشرح تطوّر «أخبار المقاتل» من الزمن الشفهيّ (مع الرواة أو الشهود) إلى الزمن الكتابيّ المنضبط والمقيّد بأخبر مقتلةٍ بعينها. وإذا كان يُطلَق على كلّ هذه الأشكال اسم «الكتاب» تجاوزًا – إشارةً إلى أيّ شيء مكتوب –  فإنّها في الواقع أقرب إلى أن تكون أقرب إلى واحدةٍ من صيغ ثلاث:
  1. أوّلًا، ما يُسمّيه الكاتب، تبعًا لتاريخ طويل من الدراسات الغربيّة، بكتب المذاكرة أو التذكرة (في الدراسات الغربيّة المعنيّة يُستعمل اللفظ اليوناني: hypomnêmata)، والذي يشير إلى ما يختطّه المؤلّف لنفسه كوسيلة مساعدة للتذكّر تحوي ملاحظاته الخاصّ وأسانيده التي اعتمدها، والتي يعود إليها كلّما أراد أن يُحدّث، مشافهةً، بالأخبار التي كان حاضرًا فيها أو رواها عمّن شهدها.
  2. ثانيًا، التآليف (بالألمانيّة: Verfasserwerke، بالإنكليزيّة: Literary Compositions)، وهي النسخة الأكثر تنظيمًا من سابقتها، أي يُلحظ فيها ترتيب المادّة ومحاولة استيفاءها كاملةً. وقد تروى هذه الأعمال عبر تلامذة يتحمّلون الرواية عن المؤلّف.
  3. ثالثًا، الكتب المحرّرة (باليونانيّة: syngrammata)، وهي التي صارت مقيّدةً بموضوع محدّد والتي يجمع فيها المؤلّف أخباره وأسانيده وينظّمها ويبوّبها ويضع لها مقدّمة وما سوى ذلك ممّا له دور في جعل العمل كتابًا مستقلًّا. وقد انتشرت هذه الكتب مع القرن الثالث الهجريّ وصارت المعتمد في تحمّل العلم وروايته.
مؤلّفو المقاتل
وباستقصاء المصادر المـُشار إليها أعلاه، وتتبّع أسانيدها ورجالها، خلُص الباحث إلى لائحة أساسيّة تشتمل على الأقلّ على 32 راويةً من القرون الأربعة الأولى اعتنوا بهذا النوع الأدبي؛ تسعةَ عشر منهم ارتبط اسمه بعمل يتناول مقتل الحسين بن علي؛ تسعة بمقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب؛ خمسة بمقتل عثمان بن عفّان؛ ثلاثة بمقتل الحسن بن علي، اثنان بمقتل حجر بن عدي، وواحد بمقتل محمّد بن أبي بكر (صفحة 199). ولعلّ أهمّ هؤلاء:
  1. الأصبغ بن نباتة (من خواص أمير المؤمنين علي).
  2. ابن أبي رافع (ت. تقريبًا 100 هـ/718 م.).
  3. جابر بن يزيد بن الحارث الجعفيّ (ت. 128 هـ/745 أو 746 م.).
  4. لوط بن يحيى الأزدي، أبو مخنف (ت. 157 هـ/775 م.) ولعلّه الأشهر من بين جميع الرواة، إذ يرتبط به 13 كتابًا يحمل عنوان «المقتل» صراحةً (صفحة 201). ويلفت غونتر في هذا الصدد إلى أنّ أبا مخنف هو الوحيد من بين مؤلّفي المقاتل ممّن اهتم برواية أخبار مقتل غير العلويّين، وهو ما تشهد عليه رواياته في تاريخ الطبري التي تتبّع الباحث أسانيدها ورجالها بدقّة (الصفحة 203).
  5. مجموعة من المؤرّخين الذين ألّفوا كتبهم أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث، منهم الواقدي وهشام الكلبي ونصر بن مزاحم المنقري وعليّ بن محمّد المدائني وغيرهم ممّن وقعوا في أسانيد أخبار المقاتل أو ألّفوا في الموضوع كتبًا مستقلّة.
  6. وثمّة كاتب يُمكن إفراد روايته، المفقودة، جانبًا، إذ إنّه يظهر أنّه لم يجرِ فيها مجرى روايات المقاتل الشيعيّة السابقة، وهو محمّد بن عبد الله الكرخيّ الذي وُصِف بأنّه من غُلاة الشيعة. وقد عاصر كلًّا من الإمامين الجواد والهادي، غير أنّه نُسِبَ إلى الخطّابيّة (جماعة أبي الخطّاب، محمّد بن أبي زينب الأسديّ). وقد كان مقتل أبي الخطّاب موضوعًا لكتاب الكرخيّ هذا الذي وضعه بعنوان «مقتل أبي الخطاب»، وقد ضاع وفُقِد أثره.
  7. ابتداءً من منتصف القرن الثالث الهجريّ، وصولًا إلى منتصف القرن الرابع، يلحظ الباحث ازدياد عدد المؤلّفين في كتب المقاتل، وتركّزهم في الحاضنة الإماميّة. كما يلحظ انتقال الكتب من الكوفة والبصرة وبغداد حيث كانت تُروى سابقًا، لتصل إلى المراكز الشيعيّة في قم وأصفهان. يُضاف إلى ذلك، أنّها صارت أشدّ اهتمامًا بمقتلَي الحسين وأبيه عليّ بن أبي طالب. غير أنّ الأهم هو ما يلاحظه المؤلّف من تطوّر شكل التأليف في هذا النوع، وهو ما يتوازى مع التطوّر العام للكتابات العربيّة واطّرادها في ذلك الزمن. ومن ذلك تجميع المقاتل الفرديّة (مقتل فرد بعينه) في مؤلّفات أكبر، أغلبها شيعيّة، عُنِيت بمقاتل أبناء أبي طالب. ويذكر غونتر جملةً من هذه المؤلّفات، منها (صفحة 204):
    • كتاب أسماء من قتل من الطالبيين، للمدائنيّ المتقدّم الذكر.
    • كتاب من قتل من آل محمّد، لإبراهيم بن محمّد الثقفيّ (ت. 238 هـ/896 م).
    • كتاب مقاتل الطالبيين لمحمّد بن عليّ بن حمزة العلويّ (ت. 287 ه/900 م.).
    • كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني (ت. 356 ه/967 م).
 
مقاتل أبي الفرج الأصفهانيّ
 يحتلّ هذا الكتاب/المقتل موقعًا خاصًّا في دراسة غونتر،[4] إذ يرى فيه التطوّر الأكمل لهذا النوع باشتماله على زهاء 300 ترجمة من تراجم الطالبيّين ممّن قُتِل منذ عهد الرسول إلى سنة تأليف الكتاب في 313 ه/928 م. كما أنّ الأصفهانيّ يتّبع منهجًا خاصًّا في بيان هذه التراجم (المرتّبة زمنيًّا)، فهو يعرض أوّلًا نبذة عن الطالبيِّ الذي يُترجم له، ومن ثمّ يورد خبر المقتل نفسه وما يتعلّق به من أحداث، وقد يورد في النهاية بعض المراثي الشعريّة التي قيلت بعد موته.
وبناءً على التحليل السنديّ، يتّضح أنّ الأصفهاني استقى أخبار كتابه هذا من 53 راويةً أخذ عنهم من دون واسطة، جلّهم من بغداد والكوفة. وأمّا تحليل المضمون، فيوضح أنّه استند إلى جملة من الكتابات السابقة التي توفّرت لديه هو نفسه، أو تحمّلها بواسطة ناقل أو أكثر. ولعلّ أبرز هذه المصادر المباشرة التي يعدّها غونتر (صفحة 206):
  1. كتاب مَن شهد مع أمير المؤمنين علي، وهو من تأليف شيخ الأصفهاني أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني (يروي عنه في 120 موردًا).
  2. كتاب مَن قُتل من الطالبيّين، لأحمد بن الحارث الخرّاز (29 موردًا)، وقد كانت نسخة من الكتاب بحوزة الأصفهانيّ ونقل عنها مباشرةً.
وتنتهي مجموعة كبيرة من روايات الأصفهاني إلى رواةٍ متقدّمين، أهمّهم:
  1. عمر بن أبي شبّة (311 موردًا).
  2. يحيى بن الحسن العلوي العقيقي (94 موردًا).
  3. أبو مخنف (57 موردًا).
  4. المدائنيّ المتقدّم الذكر (50 موردًا).
ولبيان موقع هذا الكتاب بالنسبة إلى ما تَقدَّم عليه من سائر كتب المقاتل، فإنّ غونتر يُعيد التذكير بالأنماط التأليفيّة التي كانت سائدةً إلى زمن الأصفهانيّ (المـُذاكرات hypomnêmata – التآليف Verfasserwekeالكتب المحرّرة Syngramma)، فيرى أنّ أبا الفرج حرّر كتابًا كامل الأوصاف في موضوع المقاتل مستندًا إلى مادّة تاريخيّة كانت في مطاوي المُذاكرات أو المجموعات التأليفيّة التي تفتقر إلى التنظيم والدقّة. ويستعير غونتر من دراسات أخرى القولَ إنّ عمل أبي الفرج في مقاتل الطالبيين مشابه إلى حدٍّ بعيد عمل ابن هشام في أخبار السيرة النبويّة المرويّة عن ابن إسحاق، وعمل الطبري في المادّة التاريخيّة الضخمة التي كانت قد اجتمعت لديه، وعمله هو (أي الأصفهانيّ) في تجميع أخبار الشعراء والمغنّين في كتاب الأغاني (الصفحة 207).
ويبدو أنّ «أدب المقاتل» لم يتطوّر بعد تلك المرحلة التي بلغ بها أرقى مصافيه مع أبي الفرج، إذ يُلاحظ غونتر أنّ كلّ ما تلا مقاتل الطالبيّين لم يعُد ذا اهتمامٍ تأريخيّ بقدر ما صار جزءًا من التكوين العقائديّ الفرقيّ، خصوصًا عند الشيعة الإماميّة الذين انحصر عندهم الاهتمام في ما بعد بمقتل الحسين في كربلاء خاصّةً. وقد صارت مجموعة الأخبار التاريخيّة المعبّر عنها هنا بـ«المقاتل» المادّة الأساس التي تنطلق منها أعمال أدبيّة [سرديّة] أخرى تستخدم في مختلف أشكال إحياء ذكرى عاشوراء إلى يومنا هذا (صفحة 208).
 
خلاصة: التطوّر التاريخيّ لأدب المقاتل
يقترح غونتر تسلسلًا تاريخيًّا من أربع مراحل تعرض سير أدب المقاتل وأطواره (صفحة 209):
  1. المرحلة ما قبل الكتابيّة: وتشتمل على جمع أخبار مقتل شخصيّة معيّنة (مع عناية خاصّةٍ بالعلويّين) ونقلها، بشكل أساسيّ، شفاهيًّا من راوٍ إلى آخر.
  2. ابتداءً من القرن الثاني الهجريّ/الثامن الميلاديّ، بدأ بعض مؤرّخي الشيعة، واستنادًا إلى الأخبار المتفرّقة، بتأليف «مقاتل» منفردة تخصّ إحدى الشخصيّات وتروي حادثة موتها (غالبًا في صراعها مع السلطة الحاكمة كما سلف القول). وتفتقر هذه التآليف إلى معايير مشتركة أو إلى خصائص كتابيّة محدّدة، بل جاءت متفرّقة ومختلفة الترتيب والتأليف. وقد شكّلت مادّة المقاتل جزءًا من المادّة التاريخيّة العربيّة التي انتقلت من مرحلة الشفاهة إلى مرحلة الكتابة في فترات مبكّرة (في شكل مذاكرات hypomnêmata أو مجموعات تأليفيّة Verfasserweke)
  3. مع حلول القرن الرابع الهجريّ/العاشر الميلاديّ، ومع تطوّر الكتابة وانتشارها في الفترات القريبة التي سبقت هذا العهد، تمّ تضمين مادّة المقاتل في مجموعات تأريخيّة أكبر (كتب الأنساب، كتب التاريخ العام، كتب الرجال، وما شابه ذلك). وقد بلغت هذه المرحلة التي ازدهرت فيها كتابات المقاتل أوجها مع مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني.
  4. انطلاقًا من منتصف القرن نفسه، وبعد كتاب الأصفهاني، بدأ نجم كتب المقاتل بالأفول، وتحوّل الاهتمام من التأريخ إلى التأصيل العقائديّ المستند إلى الحدث التاريخيّ.
* * * * *
تعقيب
إلى الجانب العرض التاريخيّ الدقيق الذي يمكن استخلاصه من هذا البحث، فإنّه يُمكن الاستفادة من النتائج التي يعرض لها غونتر لمحاولة الإجابة عن إشكاليّة التوثيق التاريخيّ لبعض أخبار المقاتل التي دخلت في التكوين العقائديّ والاجتماعيّ لبعض الجماعات، والتي تعدّى أمرُ إحيائها الحيّز التاريخيّ، أي مجرّد الاطّلاع على مجرى الحدث ووقائعه. ولعلّ المثال الأبرز هو إحياء مراسم عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام. والتوثيق التاريخيّ لهذه الأخبار يعني، بالتحديد، تعيين الزمن الذي ابتدأ فيه جمع الأخبار المتعلّقة بذلك «المقتل» والاهتمام بتناقلها بين الرواة.
وبناءً للخلاصة أعلاه، فإنّ خبر مقتل الحسين في كربلاء، إلى جانب مقاتل أخرى، حظيَ باهتمام لافت عند بعض المتقدّمين من الرواة. ويُفيد التقسيم الذي يقدّمه البحث حول أنماط التأليف (المـُذاكرات hypomnêmata – التآليف Verfasserwekeالكتب المحرّرة Syngramma) في تكوين صورة عن طبيعة المادّة التي كانت بحوزة هؤلاء: مجموعة من الروايات الشفويّة، قد يعضدها بعض الصحائف التي يلجأ إليها الراوي لاستذكار معلوماته.
ولا تشذّ أخبار حادثة كربلاء (في حدود بحث غونتر) عن سائر أخبار المقاتل في تطوّرها وحركة انتقالها، وصولًا إلى تضمينها في كتبٍ منضبطة؛ والانضباط هنا ليس قيدًا لصحّة الخبر أو عدمه، بل دليلًا على أنّ الخبر يتمتّع بما كان يراه مؤلّفو ذلك الزمن جديرًا بإدراجه في المجموعات التاريخيّة أو المعاجم الرجاليّة. ولعلّ أهم ميزات هذا الانضباط التاريخيّ كون الخبر مرويًّا عن سلسلة محدّدة من الرواة المعروفي الحال، ولو على نحو التفاوت في توثيقهم بين مؤلِّف ومؤلِّف – أو بين جماعةٍ دينيّة وأخرى – بالإضافة إلى تقديم هذا الخبر لمعلومةٍ مفيدة للراوي والسامع على حدٍّ سواء تُجيب على تساؤلات حاضرة في الذهنيّة العامّة للبيئة التي يُمثّلانها (هي في هذه الحالة الخاصّة: كيفَ قتِل الحسين؟ وأين؟ ومتى؟ ومع مَن؟ ومَن قتله؟ وكيف، ولماذا؟ وغير ذلك).
إلى هنا، ثمّة فاصل – على الأقلّ على نحوٍ منهجيّ – يُمكن تمييزه بين الخبر التاريخيّ والخبر السرديّ. ونعني بالخبر التاريخيّ «المادّة الأوّليّة» التي وصلت إلينا في المؤلّفات التاريخيّة عن الحادثة وما جرى فيها (عدد المتحاربين من الفريقين، أهمّ الشخصيّات المشاركة في المعركة، تقسيم الجبهتين المتواجهتين، الأراجيز والأشعار التي قالها المتحاربون عند نزولهم إلى الميدان، ترتيب وقائع المعركة وحملاتها ونتائجها ومَن قُتِلَ فيها، وغير ذلك). أمّ الخبر السرديّ فهو ذلك الذي يُقدِّم مادّةً «أدبيّة» يكون الأساس فيها سرد الواقعة سردًا مشوّقًا وهادفًا. فيكثر فيه مثلًا رواية الأشعار والمراثي التي تتداخل مع سير الخطّ السرديّ، ويلجأ خلاله الراوي إلى التقديم والتأخير في أحداث المعركة بما يُناسِب الغرَض الذي من أجله انعقد السرد، ويربط فيه الحدث بأحداثٍ في الماضي أو أخرى في المستقبل، وغير ذلك من تقنيّات السرد والحكاية (الشفهيّ في المقام الأوّل). على أنّ هذا التمييز والفصل بين نوعَين من الأخبار لا يقيم بالضرورة قطيعةً بينهما، بل يساهم في فهم دور الأوّل في تكوين نسيج الثاني، إذ إنّ السرد – وإن كَثُرَ فيه تدخّل الراوي – يبقى هنا قائمًا على هيكلٍ من الأخبار التاريخيّة التي يمكن، كما يُظهر بحث غونتر، إرجاعها بصورة توثيقيّة إلى فتراتٍ مبكرةٍ من التاريخ الإسلاميّ. ومهما يكن من أمر الرواة الأوائل لـ«مقتل الحسين» فإنّ الأكيد أنّ تخصيصهم ملاحظاتٍ ورواياتٍ وكتبًا ومؤلّفاتٍ خاصّة بها دليل على استشعارهم لأهميّة الحدث وضرورة توثيقه (بل «فَصلِه» عمّا سواه إن جاز القول).
والحال هذه، فإنّ دراساتٍ مستقبليّة تستطيع، انطلاقًا من التأسيس المنهجيّ الذي يُرسيه بحث غونتر هذا، العملَ على إقامة تصوّر تاريخيّ لطبيعة تلقّي الجماعة (أو الجماعات) الشيعيّة الأولى للأخبار والمعلومات عن حادثة كربلاء، وهو ما يساعد على تتبّع تطوّر «المسار السرديّ» للحادثة بين أحضان هذه الجماعة، وعلى ملاحظة اختلاف أشكاله من زمنٍ إلى آخرٍ. ويُمكن المحاججة بأنّ هذا التطوّر كان على الدوام انعكاسًا لشكلِ ارتباط الجماعة بالحدث الأصليّ الذي، وإن كانت الهوة الزمنيّة معه في اتّساعٍ مستمرّ عامًا تلو عام، ما زالَ «المقتل» الأشدّ تأثيرًا في صياغة هويّتها والدور الذي تراه لنفسها.
 
لخّصها عن الإنكليزيّة: علي الرضا رزق
 
[1] S. Günther, “Maqâtil” Literature in Medieval Islam, in Journal of Arabic Literature, vol. 25, n. 3, Nov. 1994, pp. 192-212.
[2] لدراسة شبيهة، انظر الملاحظات السريعة عن المؤلّفات المعَنوَنة بـ«مقتل الحسين» في: محمّد مهدي شمس الدين، أنصار الحسين. دراسة عن شهداء ثورة الحسين. الرجال والدلالات. ط3 (بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1417/1996)، الصفحات 29-34.
[3] انظر: أحمد بن سهل الرازي، كتاب أخبار فخ وخبر يحيى بن عبد الله وأخيه إدريس بن عبد الله (انتشار الحركة الزيديّة في اليمن والمغرب والديلم)، تحقيق ماهر جرّار، ط2 (بيروت: دار الغرب الإسلاميّ، 2011).
[4] للكاتب نفسه دراسة مفصّلة بالألمانيّة عن مصادر أبي الفرج في كتاب مقاتل الطالبيّين:
Sebastian Günther, Quellenuntersuchungeznu den “Maqātil aṬālibiyyīn” des Abū ʾl-Faraǧ al-Ifahānī (gest. 356/967), 1st ed. (Hildesheim: Olms, 1991).


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
التراث الإسلاميدراسة غربيةالمقاتلالأدب العربي

المقالات المرتبطة

تجليات عبقرية الشهادة في جدلية الموت والحياة: الموت العبقريّ في رؤية الدين الجديد.

تجلّت فيها الشهادة التوّاقة للحب والرحمة الإلهية، فنادت لم نرَ من الله إلا جميلًا.. لتكون هي مورد الذوق العبقري لبيان الشهادة المتماهي مع مورد الذوق العبقري لفعل وإرادة الشهادة الطوَّافة عند الحسين..

إشكاليّات العلاقة بين الدين والثقافة

يعد موضوع الدين والثقافة، من المواضيع التي تتعدّد وجوه القول والبحث فيها. وبالأساس فإنّ مصطلح الثقافة مصطلح إشكاليّ، لا يستقرّ على تعريف محدّد (جامع مانع).

عبقرية الشهادة وجدلية الموت والحياة

الشهادة والمعرفة هما كالعروة الوثقى لا انفصام لها، فلا تصل النفس إلى مقام الشهادة ما لم يدفعها العلم والمعرفة، ولا تتحقق العبودية التي خُلق الجن والإنس من أجلها دون المعرفة، وكأن الشهادة دليلٌ على الوصول إلى مقاماتٍ عاليةٍ من العلم.

تعليق واحد

أكتب تعليقًا

أكتب تعليقًا

<