مباني فهم النص عند الشهيد الصدر- الحلقة1

مباني فهم النص عند الشهيد الصدر- الحلقة1

مباني فهم النص عند الأصوليين الشيعة

الهدف من هذه الصفحات، التي سنكتبها بنحو متتالٍ، هو تسليط الضوء على بحث مهمّ، وهو مباني فهم النص عند الشهيد الصدر (ره)، وإن شئت قل: المباني الهرمنيوطيقية عند الشهيد الصدر.
 لذا، سنتعرّض أولًا لجولة سريعة على مباني فهم النص عند الأصوليين الشيعة، ثم نمرّ سريعًا على أهم الأسئلة الهرمنيوطيقية التي تعرّض لها الباحثون الغرب، فنقف بعد ذلك بين يدَي الشهيد الصدر (ره) لنرى المباني التي نتصيّدها من كلماته، والتي تصلح كمفتاح لمعالجة أهم الأسئلة الهرمنيوطيقية.
ومرادنا من المبنى في هذا البحث هو: كل ما يقوم عليه فهم النص؛ وبعبارة أخرى: هي اللبنات الأولى التي يعتمد عليها كلّ من يواجه نصًّا بهدف فهمه وتفسيره.
وعلى هذا الأساس، يخرج من دائرة بحثنا، القضايا المرتبطة بآليات فهم النص: كالعلاقة بين اللفظ والمعنى، وأنواع الاستعمال، ودلالات الكلام التصورية والتصديقية، وأبحاث العام والخاص والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، وما شاكل.
ومرادنا من النص هو خصوص النص الديني عند الشيعة الإمامية، المتمثّل بالقرآن الكريم، وروايات المعصومين (عليهم السلام).
من خلال ملاحظة أهم الكتب الأصولية عند الشيعة[1] منذ الشيخ المفيد (تـ 413 هـ) إلى الآخوند الخراساني (تـ 1329 هـ)، يمكن الوقوف على النتائج التالية:
  1. اتّفق أصوليو الشيعة على إمكان فهم النصوص الشرعية؛ بينما فصّل الاسترآبادي – وهو من الإخباريين[2]– بين إمكان فهم بعض السنّة وبين عدم إمكان فهم القرآن الكريم دون الرجوع إلى السنّة – التي يمكن فهمها[3].
  2. ذهب الشيخ الاسترآبادي إلى قطعية دلالة أكثر النصوص الدينية[4]، بينما مال أغلب الأصوليين – الذين تتبّعنا كتبهم- إلى كونها ظنية.
  3. وقفوا عند بحث ظواهر القرآن الكريم، فذهب بعضهم إلى اختصاص فهم بعض آياته بالمخاطَبين في ذلك الزمان، بينما تجاوز البعض الآخر هذه المُعضلة[5].
  4. التفتوا في أواخر القرن الحادي عشر للهجرة إلى مسألة تغيّر العرف، وعدّوا مباحث الألفاظ حلًّا لها[6].
  5. بيّن بعض الأصوليين[7] سبب قطعية الدلالة عند القدماء –بحسب رأيه، إذ خالفه في هذه النسبة بعض آخر من الأصوليين[8]– ، فعزاها إلى قربهم من عصر صدور النص وكثرة القرائن الموجِبة لهذا القطع.
  6. توجد مسألة مُلفتة، وهي أن الأصوليين بشكل عام، لمّا واجهوا مشكلة ظنية دلالة النصوص، لم يقعوا في حيص وبَيص، بل حلّوها مباشرة. والسرّ في ذلك: أنهم يعلمون قطعًا بتوجّه تكاليف شرعية نحوهم، ولا يجوز لهم ترك العمل بها، فإن لم يتيسّر لهم اليقين والقطع، فعليهم باتباع الظن – مع تفصيل بين الظن الذي دلّ الدليل على اعتباره أو لا-.
 وبعبارة أخرى: نَظَر الأصوليون إلى مسألة المنجزية والمعذرية، أي مسألة الثواب والعقاب، فجلُّ همّهم –حسب ما يبدو لنا- هو ملاحظة النصوص لأجل معرفة التكليف الشرعي والأمر الإلهي المتوجه نحوهم[9]. وعلى هذا الأساس، لم يلتفتوا إلى هذه الإشكالية في النصوص التي لا معنى للحجية فيها، كالنصوص الحاكية عن حقائق تكوينية –مثلًا- والتي لا تشتمل على تكاليف إلهية؛ أي التي لا تشتمل على ما يجب أن يُعمَل. فالنصوص الحاكية عن الحقائق التكوينية والقصص التاريخية والقضايا الاعتقادية، غيرُ داخلة تحت هذا الحل، إلا أن كان لها جهة يترتب عليها عمل. وبالتالي، لا بد من معالجة هذه المشكلة في مثل هذه النصوص.
إذًا، يتضح أن الأصوليين الشيعة، في هذه الحقبة التاريخية، بين من يعتقد بإمكان فهم النص الديني فهمًا قطعيًّا، وبين من يعتقد بأن أغلب النصوص الدينية ظنية الدلالة، فلا يمكن القطع بمراد المتكلم. وهذا أيضًا لم يشكّل أزمة عندهم، لأن الهمّ عندهم كان التنجيز والتعذير، الذي لا تضرّه ظنية الدلالة.
وبالتالي، إلى هذه الفترة الزمنية، أي قبيل السيد محمد باقر الصدر، لم يُلتفَت إلى كثير من الأسئلة التي تعرّض لها الغرب في مباحث فهم النص التي تعرّضوا لها في المباحث الهرمنيوطيقية. وسوف نشير في الحلقة التالية إلى أهم هذه الأسئلة، ثم نبيّن في حلقة لاحقة المباني التي تُستنبَط من كلمات الشهيد الصدر كمفتاح لحل إشكالية فهم النص.

 
[1] وقد أفردتُ ذلك في مقالة مستقلة؛ وللاطلاع على بعض الشواهد، انظر: مختصر التذكرة بأصول الفقه للشيخ المفيد(ت 413 هـ)، الصفحتان 29 و 42؛ الذريعة إلى أصول الشريعة للسيد المرتضى (ت 436 هـ)، الجزء 1، الصفحات 15و 25 و 26؛ العدّة في أصول الفقه للشيخ الطوسي (ت 460 ه)، الجزء 1، الصفحات 409- 410؛ معارج الأصول للمحقق الحلي (ت 676 هـ)، الصفحتان 76 و 82؛ تهذيب الوصول إلى علم الأصول للعلامة الحلي (ت 726)، الصفحتان 87- 88؛ نهاية الوصول إلى علم الأصول للعلامة الحلي أيضًا، الجزء 1، الصفحات 166 و 172و 193؛ القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية للشهيد الأول (ت 786 هـ)، كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال لابن أبي جمهور الأحسائي (ت 901 هـ)، تمهيد القواعد للشهيد الثاني (ت 966)، معالم الدين وملاذ المجتهدين للشيخ حسن بن زين الدين (ت 1011)، الصفحتان 102و 192؛ زبدة الأصول للشيخ البهائي (ت 1031 هـ)، الصفحو 53؛ الفوائد المدنية للشيخ محمد أمين الاسترآبادي (ت 1033)، الصفحات 104 و 180و 269 و 271 و 314 و 320؛ الوافية في أصول الفقه للفاضل التوني (ت 1071 هـ)، الصفحات 81 و 119 و 134و 136و 253و 255 و 290؛ الرسائل الأصولية للوحيد البهبهاني (ت 1205 هـ)، الصفحات 28 و 32 و 34-35؛ القوانين المحكمة في الأصول للميرزا القمي (ت 1231 هـ)، الصفحتان 240 و 421. عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام ومهمات مسائل الحلال والحرام للشيخ محمد مهدي النراقي (ت 1245 هـ)، الصفحات 357 و 590 و 593؛ مفتاح الأحكام للنراقي أيضًا، الصفحة 93؛ فرائد الأصول للشيخ مرتضى الأنصاري (1281 هـ)، الصفحتان 135- 136؛ كفاية الأصول للآخوند الخراساني (ت 1281)، الصفحات 281- 286.
[2] الشيخ محمد أمين الاسترآبادي (ت 1033)، ليس من الأصوليين، لكن تعرضتُ لكتابه الفوائد المدنية لأهميته في الدراسات الأصولية.
[3] انظر: محمد أمين الاسترآبادي، الفوائد المدنية والشواهد المكية، تحقيق: الشيخ رحمة الله الرحمتي الآراكي، (مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة 3، 1429 ق)، الصفحات 104و 269-270و 271.
[4] انظر: محمد أمين الاسترآبادي، الفوائد المدنية والشواهد المكية، تحقيق: الشيخ رحمة الله الرحمتي الآراكي، (مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة 3، 1429 ق)، الصفحة 104. وقد صرّح الصفحة 314 بسبب قطعية هذه الدلالة، فقال: “أكثر أحاديثنا المدوّنة في كتبنا صارت دلالتها قطعيّة بمعونة القرائن الحالية أو المقالية وأنواع القرائن كثيرة”.
[5] للاطلاع على بعض تفاصيل البحث، انظر على سبيل المثال: الحلي، الحسن بن يوسف، نهاية الوصول إلى علم الأصول، (قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، الطبعة1، 1425 ق)، الجزء 1، الصفحة 193 وما بعدها؛ التوني، عبد الله بن محمد، الوافية في أصول الفقه، (قم: مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة 2، 1415 ق)، الصفحة 119.
[6] انظر: التوني، مصدر سابق، الصفحة 253.
[7] انظر: المصدر نفسه، الصفحة 255.
[8] انظر: الوحيد البهبهاني، محمد باقر، الرسائل الأصولية، (قم: مؤسسة العلامة المجدد الوحيد البهبهاني، الطبعة 1، 1416 ق)، الصفحة 32 وما بعدها.
[9] على سبيل المثال، انظر: الخراساني، محمد كاظم (الآخوند)، كفاية الأصول، (قم: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، الطبعة7، 1431 ق)، بحث حجية ظواهر الألفاظ، الصفحات 281- 286.



المقالات المرتبطة

حفريات الخطاب الغربي محددات الخطاب

عرّف ميشيل فوكو Michel Foucault (1926-1984) الخطاب بأنه نظام أو نسق معرفي وفكري

نهضة الحسين عليه السلام: ثورة العرفان

قد لا يكون من الغريب القول إن قضية ثورة الإمام الحسين عليه السلام على طاغية زمانه تُعتبر بحق واحدةً من أهم الوقائع التاريخية المقتداة اليوم كنموذج للثورة والثوار

النور

ورد عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: “إن الله كان إذ لا كان فخلق الكان والمكان وخلق نور الأنوار

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<