تذكرة المتقين
سوف نتكلّم في هذه السّلسلة عن المواضيع التي ذكرها العارف الشيخ محمد البهاري في كتابه “تذكرة المتقين”، وهو عبارة عن مجموعة من التوصيات أراد منها صاحبها إفادة من يتلقاها من مريدي البدء برحلة السير والسلوك إلى الله تعالى، والباحثين عن مفاتيح القرب من الباري سبحانه، وهو على أقسام.
أولًا: التّوبة
- ما هي التوبة، وما شروط قبولها؟
يذكر الشيخ العارف أن التوبة من المعاصي تمثّل أول خطوةٍ على الطريق إلى الله تعالى، فهي رأس مال الفائزين، ومفتاح استغاثة المريدين، وأصل نجاة الناجين، ويكفي مدحًا لها قول رب العالمين: ﴿إن الله يحبّ التّوابين﴾. والتوبة في المعنى الفقهي هي ترك المعاصي في الحال، والعزم على التّرك في الاستقبال، وتدارك ما يمكن تداركه في المآل، فلا يعود إلى ذنبه بعدها أبدًا، ويعوض كلّ ما كان مقصرًا فيه في أيّام حياته، ويجبر ما انكسر منها. أما في الإطار العرفاني، فالتّوبة تمثّل ترك الجفاء مع الله تعالى، والتودد إليه سبحانه والوفاء له. ومن معانيها أيضًا، مطلق الندم على ما فات، والتصميم على التعويض فيما يأتي، والبدء بزرع الأعمال الصالحة لحصد ثمارها في الدّار الآخرة. وهذا ليس بالأمر الصعب كما يظنّ البعض، فلكلّ إنسانٍ فطرته الّتي فطره الله عليها، والتي هي أساس أيّ عرفان، فمن يعقد العزم على المسير، ويأخذ الخطوة الأولى في سبيل ذلك، فإن الله سيقربه إليه ويقدم له كلّ التّسهيلات من أجل وصوله. ومن هذا المنطلق، على الإنسان أن يسارع بالتّوجه إلى التّوبة الحقيقية، قبل أن تعمل سموم الذّنوب في روح الإيمان، بما لا ينفع بعدها أيّ تدارك أو عودة.
وليعلم كلّ إنسانٍ أنّه لا يخلو من المعصية في جوارحه، من غيبةٍ وإيذاءٍ وبهتانٍ وخيانةِ بصر، ومن كلّ صنوف الذنوب الأخرى، فعليه العمل على التّخلّص منها والابتعاد عنها ابتعادًا نهائيًا. ولو فُرض خُلوّه منها، فإنه لن يخلو من الرذائل في نفسه، التي تحدّثه الهمّ بها، وإن كان تفكيره هذا لا يؤثم عليه شرعًا، لكنه يسوّغ لنفسه القيام بالحرام، فعندها تجب عليه التّوبة من هذه الأفكار، والطلب من ربّه عدم تركه لنفسه طرفة عينٍ أبدًا. ولو سلّمنا جدلًا أنّه سِلِمَ منها أيضًا، فلا أقل من الخواطر والأفكار التّي تذهله عن ذكر الله، والتي تحتاج توبةً تتُمّ عبر ترويض النفس والعقل، ومجاهدة الذّات وتعويدها على حضور القلب الدّائم. وإذا افترضنا أنّه سَلِمَ منها، فلا أقل من الغفلة عن الله تعالى، والقصور في معرفته، فالإنسان إذا ما تقدم في مراحل سيره وسلوكه، يجب عليه عندها الاستغراق في معرفة الله، ومعرفة لذّة مناجاته وأنس الحضور بين يديه، والشعور بحضور ربّه في كلّ لحظة من لحظات حياته. إذ عند أهل السّلوك المتقدم يجب النّدم والتّوبة عن كلّ نقص، وإتمامه بأن يصبح صاحب كمال، بحيث إنّ كماله يكمن في أن يتعرّف على ربّه أكثر، وعلى صفاته وتأثيرها على نفسه والوجود. فالتّوبة إذًا خطوةٌ تبدأ بها رحلة السير والسلوك إلى الله، وتكمل مع السّالك حتّى آخر مراحل سيره.
وليعلم من يريد التّوبة إلى الله، أنّه سبحانه وتعالى إنّما يقبل التّوبة بشروطها، ومنها غسل وسخ القلوب بالدموع الطّاهرة، والحسرة على ما هو عليه من نقص، والتألّم على ما فاته من كمال، والاشتعال ندامةً على ما فعله من ذنوب، فكلّما زادت نيران النّدم اشتعالًا، كلّما تحقق الأمل بتكفير الذنب، وبذلك تتحقق علامة الصّدق في التّوبة.
- ما هي الخطوات العملية لطلب التوبة؟
طلب التّوبة له عدّة خطوات عملية، فمن المناسب أن تكون الطّاعة في مقام التّوبة من جنس المعصية، فإن كان عاصيًا بسفرٍ محرّم، فتداركه يكون عبر سفر طاعة، ونحو ذلك. وهذا يحتاج إلى جلسةٍ بين العبد ونفسه، يستحضر خلالها سجل ذنوبه، ويعاقب نفسه عليها، ويكفّر عنها بما هو مناسب. وليربي كلّ جارحةٍ من جوارحه على الحلال، فتصبح بيئتها بيئةً صالحة بعد أن كانت فاسدة، وليجعل من ذلك القلّب الّذي حدّثه بالمعصية ذات يوم، قلبًا يخفق إلى الحقّ والخير. ولا بدّ أن يحقق في نفسه شيئًا من الحزن والنّدامة الصّادقين، ثمّ يتوب بالطّريقة التي ذكرها السّيد ابن طاووس في ما رواه عن النّبي (ص). وقد ذكر أن من أراد التّوبة، عليه أن يغتسل ويتوضأ، ثمّ يصلّي أربع ركعات صلاة التّوبة، يقرأ في كلّ منها الحمد و”قل هو الله أحد” ثلاث مرّات، والمعوذتين مرّة، ثمّ يستغفر 70 مرّة بعد الانتهاء من صلاته، ويختم بكلمة “لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم”، ثمّ يقول سبع مرّات “يا عزيز يا غفّار، اغفر لي ذنوبي وذنوب جميع المؤمنين والمؤمنات، فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت”. فإن من يقوم بهذا العمل قُبلت توبته، وغُفرت ذنوبه، ورضي عنه خصماؤه يوم القيامة، ومات على الإيمان، وما سلب منه الدّين، ويفسح في قبره، وينوّر فيه، ويرضى عنه أبواه، ويُغفر لهما ولذريّته، ويوسّع في رزقه، ويرفق به ملك الموت عند موته، ويخرج الروح من جسده بيسر وسهولة. ومن المناسب قبل هذا العمل أنّ يقدّم شيئًا من الصّدقة ولو كانت قليلة، لأن صدقة السّر تطفئ غضب الرّب، وأن يذهب إلى مكانٍ خالٍ ويجلس على التّراب، متذكرًا معاصيه واحدةً بعد الأخرى، مصرّحًا بزمانها ومكانها، ملتمسًا من ربّه المغفرة، معترفًا بالنّدامة، وهكذا يحسن التّفصيل في الاعتراف بجزئيات الذنوب ببكاءٍ وحزن، فيكفي أن يقرّ العبد بذنبه بين يديّ ربّه حتّى يُغفر له. كما أنّه من المناسب أنّ يقرأ دعاء التّوبة الموجود في الصّحيفة السّجادية والمناجاة الأولى من المناجيات الخمس عشر، ثمّ يقسم على الله بحقّ المقرّبين إليه أن يقبل توبته. ثمّ يسأل العزم على الثّبات، وليغلب على ظنّه أن الله تعالى يقبل التّوبة، ويغفر عن السّيئات، فالله يعامل العبد بمقدار ثقته.
ثانيًا: مراقبة الذات، آدابها ولوازمها
هناك قاعدة ثانية على السالك إلى الله الالتزام بها، وهي مراقبة الذّات، والتي هي الأصل في تحصيل التّقوى التي تؤدي إلى رضا الله تعالى. ولهذه المراقبة آداب، على من يريد أن يكون من أهل الرّقابة الالتزام بها. فعليه أولًا ترك المعاصي، وهو ما بني عليه قوام التّقوى، وأسّس عليه أساس الآخرة والأولى، وما تقرّب المقربون بشيء أعلى وأفضل منه. فكم من القبيح أن يهتك العبد ستر الحياء، وهو غارقٌ في نعم مولاه، الذي يرقبه ويرى كلّ سكنةٍ من سكناته. الأمر الثّاني من آداب المراقبة هو الاشتغال بالطّاعات بعد الفرائض، وقد ذكر الشيخ البهاري عدّة أذكار، اعتبرها بمثابة الطّاعات التي على السّالك الالتزام بها. ففي بداية سيره وسلوكه، على العبد المداومة على الاستغفار بأشكاله كلّها. بعد هذه المرحلة، ينصح الشّيخ العارف بالذكر اليونسي، والذّي حظي باهتمام العديد من العلماء، وهو قول نبي الله يونس (ع) عندما وقع في بطن الحوت، وقد ورد هذا الدعاء في القرآن الكريم في الآية 87 من سورة الأنبياء. أمّا آخر المطاف في هذه الطّاعات، فينصح بذكر “لا إله إلّا الله”، والمداومة عليه، والتفكر فيه، وجعل القلب يشعر بما يتلفظ به من لسانه، ثمّ جعل العقل يلقّن القلب دلالة ومعاني وبركات “لا إله إلّا الله”. وهذه الأذكار تدعّم حالة رقابة النفس، لأنها تجعله في حالةٍ من الذكر الدّائم، وتشعره بحضوره بين يديّ الله تعالى.
أمّا الأمر الثالث من الآداب، فعدم الغفلة عن حضور الحق دائمًا وأبدًا، والشعور بأنه تحت مرمى نظر الله، وفي محضره، وأن يتصرف وفق قاعدة الإحسان، وهي مقام أعلى من مقام الإيمان، فأهل الإحسان هم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن لم يكن قادرًا على أن يرى الله، فإنّه يراه. ومن آدابه أيضًا، الحزن الدّائم خوفًا من العقاب، وهاجس كونه مقصرًا مع أحدٍ من الخلق، كي لا يستهين بالقيام بالذنوب، فيقف في لحظة ولا يتقدّم باتجاه أن يكون من الذاكرين ومن الذين يرتبطون دائمًا بالله. فعلى السالك البقاء في حزنٍ على خطأ قد ارتكبه، أو بسبب بعده عن محبوبه، وشوقه إلى ملاقاة رحمته. وهذا ما يجب أن يلاحقه ويعيشه دومًا، فإذا انقطع الحزن عن القلب، انقطعت الفيوضات المعنوية تبعًا لذلك، ومن هنا جاء في الحديث القدسي: “أنا عند المنكسرة قلوبهم”. ومن لوازم هذه الآداب، أن يُبقي في ذهنه بأن نفسه قد تخونه بأي لحظة، وأن هذه النّفس الأمارة بالسّوء هي أعدى أعدائه التي بين جنبيه، فعليه أن يرقبها جيدًا خوفًا من أن تنقضّ عليه وتهدم كلّ ما بناه في سبيل التقدّم في سيره وسلوكه.
وعلى المراقب لنفسه أن يتفطَن في أوّل النّهار إلى عدّة أمور، منها المشارطة مع نفسه، والاتفاق والتعامل معًا وكأنّه يريد أن يحفظ كنزًا ثمينًا. ومراقبتها طوال الوقت، ومحاسبتها على كلّ عملٍ قبيحٍ كان أم حسن، فيثيبها عليه أو يعاقبها بما يناسب بحيث لا تعود إليه بعدها، ومعاتبتها على ما فعلته من شرّ، أو ما لم تفعله من خير، وهذا ما يحفظ له ربحه وأصل رأس ماله في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى.
ثالثًا: الصداقة
- من هم الذين أُصادقهم؟
يبدأ الشيخ العارف بعدها الحديث عن الصداقة، والتي توجهت إليها أنظار العرفاء، الذين بحثوا عن مواصفات الصديق من المنظور الإسلامي، وربطوا هذا الأمر بالجانب الذي له علاقة بالآخرة، فقالوا: إن على المؤمن الذهاب لبناء صداقة لا على أساس المصالح، بل صداقةً في الله. فإذا أراد الصداقة فليكن قصده خاليًا عن الأغراض الدّنيوية، وليجعلها لله وفي الله، وإلّا فإن المؤاخاة في غير الله تعالى مصيرها اليأس والنّدم، وهذا لأنه لن يجد ما كان يأمله في ذلك الصّديق الذي بنيت معه الصداقة على أساس المصالح، فأمّا لو كان المعيار لهذه الصّداقة أن تكون لله، فلن يهتم لذلك، فإذا نقصت عن ما تصوره، فهو إنّما يتحمّلها قربة لله تعالى وطمعًا في أجره، وإذا كانت أكثر مما يتصور، فيعتبرها نعمةً أو حتّى ابتلاءً أحيانًا. ثمّ إن الرّوايات تعتبر أن تأثير الصديق في صديقه يمكن أن يوجه له دينه وأخلاقه، والعكس صحيح. ولهذا وضع الشيخ العارف عدّة مواصفات يجب أن تتوافر في الشخص الذي يريد أن يصادقه الإنسان المؤمن، والكلام هنا عن الصديق الذي يشاركه الكثير في حياته، وليس من يتعرّف عليه، فبإمكان الإنسان التّعرف على من يشاء. فعلى الصديق إذًا أن يكون عاقلًا، فلا خير في مصاحبة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعه فيضره. وعليه أن يكون حسن الخلق، ومن أهل التّقوى والصّلاح، فإنه بذلك يريحه، لأنه لا يمكن أن يعصي الله فيه. وعليه ألّا يكون من أهل البدع، أي من الذين يُدخلون في الدّين والمذهب ما ليس منه، ففي الرّوايات أن لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم، فتصيروا عند النّاس كواحدٍ منهم، واحذروا أن تصيبكم اللعنة التي أصابتهم بسمعتهم. أيضًا، على الصّديق أن لا يكون حريصًا على الدّنيا، فأهل الحرص على الدّنيا يبيعون حتّى أصدقائهم عند أول مفترق طريق إذا تعارض الأمر بين صداقتهم بهم وبين الدّنيا التي يريدون أن ينالوها، فعن الإمام الصادق (ع): “احذر من أرادك لطمعٍ أو خوفٍ أو أكلٍ أو شرب، واطلب مؤاخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض، وإن أفنيت عمرك في طلبهم، فإنّ الله لم يخلق بعد النّبيين على وجه الأرض أفضل منهم، وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم الله به من التوفيق لصحبتهم”.
- ما هي حقوق الصديق على صديقه؟
أمّا عن حقوق الصّديق على صديقه، فقد قسّمها العارف البهاري إلى أقسام:
– القسم الأول: وهو عبارة عن الحقوق المالية، ولذلك مراتب.
- المرتبة الأولى: وهي أدنى المراتب، أن يجعل صديقه بحيث إنّه لو احتاج إلى مالٍ قدّمه له قبل السّؤال.
- المرتبة الثانية: وهي أن يجعله بمرتبة نفسه، فيهتمّ به كما يهتمّ بنفسه، ويصرف عليه بالطريقة المناسبة بحيث لا يريق ماء وجهه.
- المرتبة الثّالثة: وهي أعلى المراتب، تمثّل إيثار الصديق على نفسه، فإذا تعارضت احتياجاته مع احتياجات صديقه، عليه تقديم احتياجات صديقه على احتياجاته، فقد روي عن أمير المؤمنين (ع): “العشرون درهمًا أعطيها أخي في الله، أحبّ إليّ من مئة درهم أتصدق بها على المساكين”.
– القسم الثاني من الحقوق يمثّل الحقوق البدنية: وهي أن يسعى في قضاء حوائج صديقه بميلٍ ورغبة، فمن يسعى في قضاء حوائج إخوانه، كفّل الله به من يتتبّع مصاعبه ويحلّها له.
– القسم الثالث يمثّل الحقوق اللّسانية: منها أن يسكت عن عيوبه، فيتجاهله في أول أمره، ثمّ يرفع عنه ذلك العيب برفقٍ ولين، مستعملًا أسلوب التّدرج في الموعظة، بحيث ينصرف عن ذلك العيب بنفسه، وألّا يكشف له سرًا، حتّى لأخصّ أصدقائه، فإن ذلك من علامات لؤم الطبيعة وخبث الباطن، وعليه ألّا يقدح ويذمّ فيه وفي أولاده وأصدقائه، وعليه أن يسكت عن كلّ مكروهٍ في طبعه، وأن لا يذيع سرّه، إلّا إذا أذن الشارع المقدّس بذلك، أي إذا طلب منه شهادةً أو تسبب عدم الإخبار بذلك مفسدةً لأحد من الخلق، وعليه أيضًا تعريفه بعيوبه حتّى يصل إلى درجةٍ يضبط بها أمره.
– القسم الرابع من الحقوق هي الحقوق القلبية: فكلّ هذا الذي قلناه إنّما هو في حفظ اللّسان، وأمّا حفظ القلب عن مساوئ الصّديق فتلك وظيفة أخرى، يقتضيها الحمل على الأحسن، وذلك بالتّحاشي عن سوء الظّن به، فإذا رأه يقوم بخطأ ما فليبحث له عن محمل حسن، فليس كلّ ما يراه صادقٌ كما فكّر، وكما يَظهر من ظاهره، فقد يكون له باطن ما أو منشأ.
ولو فرض أن هناك صديقًا مبرّءًا من كلّ عيب، فتلك جوهرة في خزانة السّلطان محفوظة لديه لا تنالها أيدي عامة خلقه، لذا فلنطلب ذلك الصديق الذي تغلب محاسنه على مساوئه، فلا يجب الخوض في مساوئ النّاس، فذلك من عادة المنافقين.
- كيف يمكن لك أن تحافظ على صداقتك مع الناس؟
ومن حقوق الصديق على صديقه التّي تحفظ له علاقته به، ترك المجادلة معه لأن الجدال طريق إلى إثارة نائرة الفتنة، وإظهار حبّه له ما أمكنه، وإفشاء محامده في حضوره وفي غيبته، بمقدار لا يجعله يقع في العجب، وشكر أيّ نعمةٍ صدرت منه، وتعليمه ما جهله من علم مع مراعاة أداب التّعليم، ومن تلك الآداب أن لا ينتقص علمًا بجهله، أي أن لا تسمح له صداقته معه الاستهزاء بقيمة هذه العلوم، فيعلّمه بما يليق به، وبما يضمن له أن يحفظ هذا العلم. وإذا رأى أنّه يُخفي عليه عيبه، فلا يسعى هو لإظهاره، وإذا ما رأى فيه طبيعةً غالبة بما لا يمكنه ترك تلك الطّبيعة، فالسّكوت عنه أولى، فإذا كان عنده عادةً سيئةً لا يمكنه الإقلاع عنها، فعليه أن يحاول تغييرها، فإن لم يستطع فالأفضل تركه وعدم إزعاجه. وإذا رأى منه تقصيرًا في حقوقه عليه، فعليه بالتّحمل والتّجاهل، وليحتسب هذا الأمر عند الباري عزّ وجلّ، فليس كلّ الناس تظهر الوفاء بالطريقة ذاتها، ولا يظننّ أحدٌ أن على الجميع أن يكونوا مثله، فقد يكونوا أفضل منه بشيء آخر هو لا يستطيع مجاراتهم فيه. فإذا بلغ التّقصير حدًّا يوجب قطع علقة الأُخوّة، فعليه بالعتاب الجميل في الخفاء، مستخدمًا لغة الكناية. وهذا كلّه إن لم يكن العيب فيه من قبيل الإصرار على المعاصي، وإلّا فقد قيل إنه يجب قطع العلاقة به عندها. كما يجب على الصديق الدعاء لصديقه والزيارة، والقيام بما أمكن من القربات نيابةً عنه، سواء كان ذلك في حياته أو بعد مماته، فالاتصال بالصديق يستمر حتى بعد الممات، فكما ورد عن النّبي في من دعا لأخيه أن الملك يقول له، ولك مثل ذلك. الأمر الآخر هو الوفاء له بعد الوفاة، فيقوم بواجباته تجاه أهله وأبنائه، ويهتم بمسائله من صلاة وقضاء وغيرها، ويجزع على فراقه، ويحزن عليه حزنًا شديدًا. وعليه ألّا يوقعه في الكلفة مهما أمكنه ذلك، فشرّ الإخوان من تُكلّف لهم، فلا يكن متطلبًا بحيث إنّه يكلّف صديقه ليلبي طلباته، ويحمّله فوق قدرته، بل يكون القصد من محبّته هو التبرك بدعائه، والاستفادة منه أخًا عزيزًا حميمًا من القلب، والاستئناس من لقائه، والاستعانة به على دينه والتّقرب إليه تعالى.
رابعًا: خصوصيات التعامل مع المرأة
ينتقل الشيخ البهاري بعدها لتقديم النصائح بخصوص العلاقة مع المرأة، فإذا كانت علاقة العبد معها على سنّة الله ورسوله، فعليه تحمّل الأذى منها بكظم الغيظ، والعفو عنها عند صدور الخطيئة، فالله ورسوله قد أمروا بذلك لأبعد النّاس عنه، فكيف بزوجته التي هي سكنٌ وأنسٌ له، فإذا أخطأت فعليه بتأديبها بأن يكون أفضل منها ويسامحها، ولكن بطريقةٍ تبقي في بالها أنّه هو ربّ المنزل، وله الولاية على البيت، وعليها وعلى الأبناء، فهو لا يتحمّل المسؤولية من موقع الضعيف بل من موقع من يريد أن يحفظ البيت. فإن كانت المرأة صاحبة صلاح، فهي ستتحسّن معه أكثر مما يتصور، وسيصبح طبعها أقرب لطبعه أكثر مما يتصور، ولكن الأهم من هذا كلّه أن الله سيجزيه على ردة الفعل تلك بأن يرفع من درجاته ويعلي من شأنه ويعينه في قضاء حوائجه. وعليه أيضًا ردّ الجفاء بالوفاء، والإساءة بالإحسان، ودفع اللجاجة والجهل بحسن الخلق، وهذا طبعًا يحتاج إلى صبر كثير، فلا يستطيع جميع النّاس تحمله، لكن من يعزم على الوصول إليه ويبدأ العمل به سيوفقه الله ويساعده عليه. ومع ذلك، لا يُبرّئنّ أحدٌ نفسه من أي عيب أو تقصير، ولو كان أصل الحق في جانبه، فقد يكون مخطئًا في مكان ما. كما أن عليه إكرام إمرأته وتعزيزها عند أهله وعشيرته، وأيًّا كان ما حصل بينهما فلا يجب أن يعرف به أحدٌ خارج إطار المنزل، وليحفظوا مشاكلهم وأزماتهم، وليبحثوا عن الحلّ المناسب لها، فأيّ إنسان قصد عن نيّة صادقةٍ قادر على ذلك. والحاصل، أن تعامله مع الأولاد والنساء والأصدقاء وسائر المؤمنين ينبغي أن يكون كتعامل الطّبيب المشفق عليهم، فيراعي في معاملته لهم ما هو الأصلح لدينهم ودنياهم، فعندما يقسو عليهم لا يقسو بنيّة الانتقام منهم، بل بنيّة أن يذكّرهم، وإذا أحسن إليهم فمن باب أن يحبب لديهم صدق العلاقة مع الله، وصدق العلاقة مع الأخلاق والشريعة. فمثلًا، إذا ما حصلت مشكلة بينه وبين إمرأته ووصلت لحدّ الطلاق، وهو يعرف أنّها تحبّ أولادها حبًّا جمًّا، وهي غير مقصرةٍ معهم، وأكثر ارتباطًا بهم منه، وهم أكثر حاجة لها منه، فحتّى لو كان على المستوى الشرعي من حقه أن يكونوا بحضانته، لكن من الأفضل أن يعينها على نفسها حتى تبقى نظرتها إلى الشريعة برحمة ما عند الله وليس القوانين التي تفرض على كلّ الناس، فيبقيهم معها ضمن ضوابط أن يراهم وأن تحفظ لهم دينهم وترعاهم، فيكون قد نال الأجر من الله تعالى، وحَفظ الدين من أن يصبح أمرًا سيئًا ومبغوضًا عند الناس. فهذه إذًا طبائع أهل العرفان وأهل الله مع النساء في البيوت.
المقالات المرتبطة
مكانة القرآن الكريم في حركة الثورة ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران
يشير العنوان إلى ما هو بديهيّ عندما يكون مدار الكلام حول مكانة القرآن الكريم في ثورة الشعب الإيرانيّ
“القائد الش–هيد”.. أيقونة أو أسوة؟
هذه الشخصية المؤمنة الثورية قد تكاملت تدريجيًّا عبر مسار معرفي وجهادي مستمر، إلى أن عبرت من حدود الحياة الدنيا إلى رحابة “لقاء الله” بشهادة قلّ نظيرها.
كلمة البروفسور الأب سليم دكّاش اليسوعيّ في حفل توقيع كتاب سماحة الشيخ شفيق جرادي “هل الدين نزعة إنسانيّة؟”
اسمحوا لي بأن أقول كلمة أهلًا وسهلًا إليكم جميعًا في جامعة القديس يوسف الضامّة الكثرة، والجاذبة للتعدّديّة، والموفّرة لها المحاورة